Culture Magazine Thursday  07/01/2010 G Issue 293
فضاءات
الخميس 21 ,محرم 1431   العدد  293
 
أمي
خالد البسام

كيف يعيش الإنسان بلا أم؟ كنتُ أسأل نفسي هذا السؤال وعيناي لم تفارقهما الدموع منذ أن رحلت أمي عن الدنيا قبل أيام.

وعندما بدت صفحة الكتابة أمامي بيضاء شعرت بعجز هائل عن الكتابة، بل واكتشفت أن أشق كتابة هي التي يكتبها الكاتب عن عزيز أو حبيب له، فما بالكم بالأم؟..

منذ أن غادرت طفولتي وطرت من تحت جناحيها أستقبل صباي وشبابي، وأسرح وأمرح في العالم الفسيح، كانت عيناها الجميلتان تطارداني في كل مكان، تشعراني بأنني مهما طال غيابي عنها فسوف أعود حتما إلى حضنها الدافئ. وكزرقاء اليمامة كانت تلمح عكارة الهمّ والمشاكل في عمق عينيّ، وتدعو لي ولجميع إخوتي وأخواتي بأن يكون يومها قبل يومنا، حيث تردد لنا كلمتها النجدية الجميلة (يا بعدي).

عندما جاءت إلى البحرين لأول مرة قبل ستين عاماً من مدينة عنيزة روت لي أنها كمن فارق دنيا وعليه أن يعيش في دنيا جديدة.

لم أرَ في حياتي أحدا أحب مدينته مثلها؛ فبعد عشرات السنين من إقامتها في المنامة كان كلامها وعاداتها نجدية لم تتغير. ولا يكاد يمر عام إلا وقد زارت أهلها في عنيزة مرات ومرات، كأنها لا تريد أن تشبع من تلك المدينة الجميلة. وفي سنواتها الأخيرة استبد بها الحنين إلى درجة أن وضعت قارورة زجاج كبيرة ملأتها بتراب أحمر شديد النعومة من رمل عنيزة، وأسكنتها في غرفة نومها، وعلى الطرف الآخر من الغرفة علقت صورة البيت الذي ولدت فيه وولدت فيه أنا أيضاً على الحائط، الذي ذرفت عليه بكاء حاراً وطويلاً عندما وجدته مهدما في آخر زيارة لها لعنيزة.

كانت تريد أن تحاصرها المدينة في حاضرها وأحلامها كل يوم، بل كانت تسأل عن أحوال سكان المدينة باهتمام شديد رغم البُعد الجغرافي، حتى أنها كانت تتضايق كثيراً إذا عرفت في نشرة الطقس أن المدينة قد غرقت بالمطر أو أصابها برد شديد، وتفرح إذا قالت لها إحدى أخواتي إن عنيزة جوها صار ربيعاً. لقد سكنت المدينة قلبها، ولم تفارقها إلا عند موتها. وكل هذا الحب أشعرني مبكرا كيف يعظم الإنسان بحبه لوطنه وافتخاره به حتى لو أقام سنوات طويلة خارجه.

حين قيل لها إن اسمي ينشر في الصحف احتفظت بأول جريدة نشرت اسمي، وحين رأت صورتي لأول مرة في الجرائد قبلت صورتي وخبأتها في غرفة نومها كأنها كنز ثمين. في أيام المدرسة، وبسبب ولوعي بالقراءة، كنت كثيرا ما أهمل واجباتي المدرسية، وكنت أسهر في الليل أقرأ الروايات والكتب السياسية، وعندما تتفقد أولادها وبناتها قبل النوم كانت تعرف في قرارة قلبها أن هذه الكتب هي التي أضعفت بصري و ألبستني النظارة مبكراً، وأنها المسؤولة عن تغيير الكثير من أفكاري وتورطي في السياسة فيما بعد، لكنها تدعو لي أن أنجو من القراءة كما كانت تفعل مع أبي الذي أغرق البيت بالكتب لدرجة أنها ألهته عن تجارته الصغيرة.

كان قلبها الطاهر يفيض بالحنان، توزعه بالتساوي على جميع أبنائها بكل عدالة ومحبة. تخبئ عنا الأحزان، وتركض إلينا بأي خبر مفرح. كانت صاحبة واجب وصبورة بشكل عجيب. لا أتذكر يوماً أنها عاتبتني على تقصير تجاهها. كانت عفيفة، لا تطلب ولا تحرج ولا تجرح أحداً، كاظمة للغيظ وشامخة الكبرياء.

في مرضها الأخير كانت هي التي تسأل عن صحتنا، وتدعو لنا بالخير، وفي قمة آلام مرضها تشعرنا بأن ما بها شيء بسيط سوف يزول سريعاً؛ فقد كان سعادتها الغامرة حين ترانا حولها.

أصبحتُ يتيماً في الخمسين، وفهمتُ الآن مغزى دعائها المستمر بأن يجعل الله يومها قبل يومي، وأدركتُ أنها لم تتوارَ يوماً عن قلبي وعمري، وأنها كانت دائماً منبعاً هائلاً للحنان والدفء اللذين لا يوصفان والمحبة والطيبة اللتين لم أصدق وجودهما في الدنيا إلا عندما شعرت بهما متجسدتين فيها.

ما زلتُ أشعر بدفء يديها حينما كانت تحبك الغطاء حولي قبل النوم، ثم تقرأ بعض الأدعية، حتى في آخر أيامها كانت تتأكد من طعامي ونومي وأنني ألبس ما يدفئني في الشتاء، وكأنني ما زلت طفلاً، أو كأنها هي التي لا تريد أن تعترف بأننا كبرنا.

أفتقدُ أمي اليوم بشدة، ويستبدُّ بي الحنان لها، لكن الحزن غالب.

albassamk@hotmail.com البحرين

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة