Culture Magazine Thursday  07/01/2010 G Issue 293
فضاءات
الخميس 21 ,محرم 1431   العدد  293
 
الدستور الثقافي.. بين المثقف والواقع الثقافي 2-2
سهام القحطاني

أعتقد أن أهمية العلاقة بين المثقف والواقع الثقافي تتجاوز مسألة شخصنة التأثر والتأثير بين المثقف والواقع الثقافي، هذا لا يعني هامشية تلك الشخصنة على العكس؛ فحاصلها هو الذي ينتج صانع الدستور الثقافي، لكني أقصد بالتجاوز الحديث عن مسألة أكثر حيوية لما لها من أثر في تأسيس الوعي الثقافي، وهي مسألة (صناعة الدستور الثقافي)، من هو المسؤول عن صناعة الدستور الثقافي؟ هل المثقف هو الذي يصنع الدستور الثقافي؟ هل الواقع الثقافي هو الذي يصنع الدستور الثقافي؟ أو أن صناعة الدستور الثقافي مسؤولية مناصفة بين الواقع الثقافي والمثقف؟.

هناك نقطة أريد أن أوضحها قبل الاسترسال في الحديث، هي أنني عندما أتحدث عن الواقع الثقافي وعن المثقف فأنا أميز بين نوعين من المثقفين: المثقف الذي تتفق تجربته مع معايير الواقع الثقافي، وهو هنا يمثل جزءاً من الواقع الثقافي؛ لذلك عندما أقول الواقع الثقافي فأنا أقصد المثقف الذي تتفق تجربته الثقافية مع معايير إحالات الواقع الثقافي (أنظمة الهوية الوطنية)، كما أقصد بالواقع الثقافي التاريخ الثقافي والأعراف الثقافية والوعي الثقافي السائد والقرارات الثقافية والقنوات الثقافية والمشهد الثقافي كحالة إجرائية وخاصية معرفية؛ فكل تلك الأشياء هي التي يتكون منها الواقع الثقافي.

والنوع الآخر من المثقفين هو المثقف الذي يقدم تجربة ثقافية خاصة لا تلتزم بمعايير مكونات الواقع الثقافي، مكوناً بدوره مساراً ثقافياً يتقابل مع الواقع الثقافي.

يؤسس الدستور الثقافي وفق معايير مالك السلطة الثقافية، وهذه مسألة تعيدنا إلى حاصل السؤال الأولي: مَنْ يملك السلطة الثقافية المثقف (المسار الثقافي) أم الواقع الثقافي؟.

والسلطة الثقافية هي استحقاق حتمي لمن يملك دور التأثير على الآخر وعلى صناعة منجزه الثقافي، والاستحقاق الثقافي ليس بالضرورة أن يمتلكه الفاعل الجدير، بل الفاعل المتصالح مع معايير الواقع الثقافي؛ باعتبار أن الاستحقاق الثقافي هو منظومة معايير وليس منجزاً ثقافياً. وقد يرى البعض أن تقويم المعايير لا يتم إلا من خلال ممثلات ثقافية، والممثل هو إنجاز في ذاته.

وأنا لا أختلف مع هذا المبدأ في كليته، لكني أرى أن الممثل ليس منجزاً بالضرورة، بل هو شكل تعبيري مبني على معيار خاص، وأعتقد أننا نقوّم الممثل الثقافي وفق معاييره (معايير الإحالة) لا وفق قيمته الفكرية التي ليس بالضرورة أن تلتزم بمعايير الإحالة؛ وبالتالي فنحن نرفض الممثل الثقافي أو نقبله وفق قربه أو استجابته أو بعده أو رفضه لمعايير الإحالة التي ينبني عليها الواقع الثقافي.

وبقدر الوضوح الظاهر لإمكانية إثبات الاستحقاق السلطوي لمن يملك هيمنة التأثير بقدر ما تحتوي تلك الإمكانية على علاقات ومتعلقات معقدة لا تمكننا بسهولة من فصل القضايا المختصة بالواقع الثقافي من الأفكار التي تخص الحقيقة الثقافية (المسار الثقافي)؛ كونها مؤسساً لواقع افتراضي يتضاد غالباً مع إحالة انبناء الواقع النسقي؛ لأن الواقع الثقافي لا يمتلك وجوداً مستقلاً عن قاعدة الإحالة ولا يمكنه أن يحقق استقلالاً محضاً عن قاعدة الإضافة (المسار الثقافي).

والحقيقة الثقافية مثلها مثل الواقع الثقافي؛ فهي لا تملك استقلالاً عن قاعدة الإحالة الافتراضية، ولا يمكنها أن تحقق استقلالاً محضاً عن قاعدة الإضافة التي يمثلها الواقع الثقافي؛ لذلك لا يمكننا أن نوجد جداراً فاصلاً بين الواقع الثقافي والحقيقة الثقافية التي تمثلها التجارب الثقافية الخاصة، ونتعامل مع كل منهما كوجود مستقل عن الآخر؛ لأن كليهما يمثل الدستور الثقافي، ولا يعني اشتراك كليهما في صفة التمثيل أنهما متوازنان في قوة التأثير؛ لأن الدستور الثقافي لا يمكنه أن يقصي المسار الثقافي الذي تفرضه التجارب الثقافية الخاصة كخط مواز للواقع الثقافي، وكحضور في ذاته لا يهم أن يكون في المركز أو الهامش، كما لا يهم مرتبته من حيث التأثير والتأثر، كما أنه لا يشترط أن يكون المسار الثقافي جزءاً من الواقع الثقافي أو ممثلاً له للحصول على عضوية الدستور الثقافي، وفي الوقت ذاته فالمسار الثقافي رغم عضويته اللارسمية داخل الدستور الثقافي لا يمثل قانوناً ثقافياً أو هوية ثقافية أسوة بالواقع الثقافي؛ باعتبار أن الواقع الثقافي يملك خصائص المنظورية أي المسلَّمات والرؤى والمظاهر والمواقف، وقد يقول قائل حتى الحقيقة الثقافية لها ملكية منظورية، وهذا أمر متفق عليه؛ لذلك فهي تملك حق التمثيل الصوري من خلال المسار الثقافي؛ باعتبار المسلَّمات والرؤى التي تقدمها دون المظاهر والمواقف، وعدم امتلاكها لقانونية المظاهر والمواقف هو الذي يفقدها خصائصها الإجرائية؛ لذلك قلت إن الاشتراك في صفة التمثيل لا يمنح التوازن بين القوى الثقافية أو يؤسس لقوة ثقافية ثانية يترتب عليها توازن القوى الثقافية.

هل هذا يعني أن الدستور الثقافي ينبني على معايير الواقع الثقافي وليس وفق القيم الفكرية للتجارب الثقافية الخاصة (المسار الثقافي)؟

لا أدري مدى منطقية وموضوعية هذا السؤال كصيغة مقارنة وإقرار، والمنطقية والموضوعية بدورهما هما كيانان معياريان أكثر من كونهما محتويين فلسفيين أو تنظيريين؛ فالأكثرية والشمولية والمفهومية والإجرائية والتأثيرية والنسقية هي التي تتحكم في نشوء وصياغة منظومة المعايير المؤلفة للموضوعية والمنطقية وليست نوعية القيمة وتأثيرها.

وجملة تلك الخصائص يتمتع بها الواقع الثقافي دون المسار الثقافي؛ فالتجارب الثقافية التي يتكون منها المسار الثقافي تفتقد تلك الخصائص للأسباب التي ذكرتها في الجزء الأول من هذا الموضوع؛ وبالتالي يصبح الواقع الثقافي هو المؤهل وفق ما يمتلك من خصائص المنظورية وخصائص الموضوعية والمنطقية لصناعة الدستور الثقافي.

هل هذا يعني إقراراً بعدمية تأثير التجارب الثقافية الخاصة في صناعة الدستور الثقافي؟

عندما نقر بعدم تأثير تلك التجارب الثقافية الخاصة فالأمر لا يتعلق بمحتوى القيمة والمستوى والنوع، بل لأنها تفتقد استراتيجية ثقافية تحقق لها مؤهلاً للتأثير في الواقع الثقافي، وحتى تستطيع التجارب الثقافية الخاصة أن تسهم في صناعة الدستور الثقافي لا بد أن تكون ضمن المؤثرات الكبرى للتغير والتغيير للمواقف التلقائية الثقافية.

والدستور الثقافي هو سجل للمواقف التلقائية الثقافية التي تجمع بين قضايا الواقع الثقافي وأفكار الحقيقة الثقافية، والحقيقة الثقافية تتكون عبر مستويين دلاليين، أولهما أن الفكرة التي تدعمها الواقعة القضوية سواء على مستوى الإحالة والكيفية والسببية تساوي حقيقة، تتحكم فيها مراتب البنائية أي الحُكْم والكمية والطريقة والاستدلال.

والحقيقية وفق هذه الدلالة هي حاصل علاقة التكافؤ بين المثقف والواقع الثقافي، وعلاقة التكافؤ هنا مبنية وفق معقولية تتحقق عبر الإحالة والكيفية والسببية، وليس بالضرورة هنا توافر حدود العقلانية. وإذا كان المستوى الدلالي الأول للحقيقة الثقافية يرتبط بالواقع الثقافي فالمستوى الدلالي الثاني يرتبط بالواقع الافتراضي الذي يعتمد على اختلاق إحالة وسببية وكيفية، وإشكالية الواقع الافتراضي هي تجرده من الأنظمة النسقية؛ ما يجعل واقعية الواقع الافتراضي غير ممكنة، وهي تسعى من خلال ذلك الاختلاق إلى إحلال خصائص الواقع الافتراضي المتضمن للحقيقة الثقافية محل خصائص الواقع التمثيلي للنسق مراهنة على ما تمتلكه من إطار مفهومي لوصف الأشياء وتفسيرها باعتبار أن الوقائع تتجذر في المخططات المفهومية كما يقول براين فاي، وهي التي تمنحنا معرفة كيفيات ظهور الأشياء بالنسبة إلينا، وهو اعتبار يؤسس عبر آلياته منظورية اختلاقية.

لكن الواقع ليس مجرد منظومات مفهومية بل هو أولاً مفهومات نسقية قبل أن يكون منظومات مفهومية؛ فالمظهر النسقي هو الذي يؤسس الإطار المفهومي للأشياء؛ باعتبار أن الواقع مكون من مجموع من المظاهر النسقية.

وبذلك فالتجربة الثقافية الخاصة تتجرد من أهم خصائص الواقع الثقافي ومعايير الدستور الثقافي وهي (النسقية).

وأنا هنا لا أنادي بتدعيم النظام النسقي التمثيلي الذي يعبر عنه الواقع الثقافي، كما لا أنادي بإلغائه؛ لأن الإلغاء هو إلغاء لأنظمة الهوية الوطنية، كما أن إلغاءه سيؤدي إلى صياغة واقع افتراضي غير ممكن التمثيل؛ لذا فإن إعادة صياغة النظام النسقي التمثيلي يحتاج إلى منهج ثقافي إصلاحي، وهذه المعادلة تكاد تكون غائبة عن التجارب الثقافية الخاصة، وهذا ما يفسر لنا هيمنة الواقع الافتراضي المجرد من النظام النسقي، وهو تجرد لا يفقدها أفق التوقع الثقافي فقط بل ويفقدها منهجية الإصلاح الثقافي.

وتلك المنهجية بتصميم أفق للتوقع الثقافي هي التي ستمكن التجربة الثقافية الخاصة من إحداث تغيير في الموقف التلقائي الثقافي والتأثير في الواقع الثقافي ثم المساهمة في صناعة الدستور الثقافي. وبعيداً عن سلم الأولويات السابق ستظل التجارب الثقافية مجرد تحصيل حاصل ليس لها أي تأثير في تشكيل الوعي الثقافي.

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7333 ثم أرسلها إلى الكود 82244

جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة