Culture Magazine Thursday  07/10/2010 G Issue 318
أوراق
الخميس 28 ,شوال 1431   العدد  318
 
على بساط الريح
طارق السياط

في هكذا مواسم، ثمة أعراض يعرفها العارفون، من الممكن تسميتها (علل ما بعد السفر)؛ إذ يقع الناس نهبة الاكتئاب فور النكوص من الأسفار، تماما بحجم ثراء التجربة، وكلاحة الواقع المرتد. ويعاني قاطنو البيئات شحيحة الخيارات من الأسفار أشد مما يصنعه سواهم من أهالي الزخم الحياتي. ومن الوجيه التفكير أن إعصارا من الاكتئاب والمشاعر السقيمة سيضرب بلدنا في خواتيم الإجازات السنوية، ويحتاج السكان هنا إلى فترات نقاهة مديدة كيما يتماثلون للتعافي. ولو كان للمشاعر أن تتكاثف متحوّرة إلى أجرام ذات أبعاد ثلاثية لاستحالت منافذ البلد إلى جبال داكنة من نوازع السوء واختلاطات الوهن في أنفس العائدين.

تبعثرنا الأسفار بمساحة الإنسانية المتوافرة بحوزتنا. وحين نرجع من أسفارنا نتفادى طقوسنا المعتادة، وننكمش على ذواتنا في انهزام تام ضد رتابة الواقع، ورفض صارخ للعودة لذات الوتيرة. آنذاك، يتحاشى بعضنا البعض ردحا من الوقت، فالأسفار طويلة الأمد وبعيدة الخطو تعبث بالمرء، وتعيد هندسة كيميائه من جديد، فيزدري أن يعود سيرته الأولى. إثر السفر، نلج في صراع مرير بين المفروض وبين رغبات النفس في الركون. وما إن يتسنى لنا التأقلم بعد عناء إلا وتكون الجولة القادمة من السفر على المشارف، في دورة نفسية جديدة - وإنما مضنية - من صراع الروح الشرس للبقاء.

وقبالة المتاعب الجمة التي نتكبدها إثر الأسفار الفاخرة، فإن الأفكار الطازجة، جنبا إلى جنب المنافع الأخرى، هي أجدى عائدات الأسفار، وهي وحدها سلواننا الجميل. ليست الأسفار المكان، ولا طول الرحيل، بقدر ما هي التفاصيل، إنها سخاء التجربة، والانغماس في نسيجها لأقصى الأعماق.

تعمل الأسفار على شحذ نقاءنا شحذا، وصقلنا من الشوائب مثل مبرد، فنرتدّ بعدها أناسا غير الذين ذهبوا أول مرة. ولو كان للطباع التي خرجنا بها أن تغدو حللا تنتظرنا على أعتاب صالات القدوم في المنافذ لارتدائها كرّة أخرى، لما ناسب أغلبَنا مقاسُه القديم ؛ إذ لا يعودون بطباعهم العتيقة سوى الذين ما سافروا إلا بأجسادهم.

نحن لا نهيم بالسفر لدواعي المتعة فحسب ؛ ولكن لأنه ميعاد مع الصدق المريح، نضع خلاله عن كاهلنا الأقنعة شديدة الوطء التي جلبتها استحقاقات الإقامة الآسنة، ونمارس ذواتنا في أشد حقائقنا نصاعة. وقتئذ، تبدو للعلن سجايا لنا كانت متوارية خلف أستار العيش، ونضرب بآراء الآخرين عرض الحائط. في السفر، نكتشف خبايا في أنفسنا لم نعهدها من قبل، وننزوي على ذواتنا رغما عنا، ونحرز صداقة مع أنفسنا من نوع مغاير ما كان لها أن تتاح لنا في الحضر.

يركن بعض من لا يتسنى لهم السفر إلى المطارات، يعاودونها بين فينة وأخرى، قاصدين صالات الرحيل البعيد ؛ يمضون فيها شطرا من الوقت، بلا أمتعة ولا تذاكر عبور، فقط متنعمين بذلك الإحساس المنعش والحصري الذي لتلك الأمكنة. هناك، يذرعون جنبات المطار في غير اتجاه، يحدّقون في تفاصيل المسافرين، وينهلون من طاقاتهم الصادرة عن نيّات السفر داخلهم، حيث تمنح تلك الطاقات لمتلقيها غير المسافرين شحنات مضاهية. وبعد أن يتزودوا بما يكفي أرواحهم من مئونة، يقفلون عائدين إلى الميدان من جديد.

إنما السفر سفر الأرواح. ويصون المعنيّون حرز البياض شديد الرهافة خاصتهم بالفرار ما وراء البحار؛ احتيالا على الرداءة، أو حتى ترويضا للألم، ورتقا للجراح. من المحتمل جدا أن يكون رواد المطارات الدائبون ضحايا أكثر من جيّدين لخطب ما ؛ فالمطارات « بلاد لمن لا بلاد له»، على ما قال محمود درويش.

ts1428@hotmail.com - الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة