Culture Magazine Thursday  09/12/2010 G Issue 324
فضاءات
الخميس 3 ,محرم 1432   العدد  324
 
كتاب الأمان الثاني
عبدالله بن محمدالسعوي

كثير من الكتب التي تغص بها رفوف المكتبات لو تأملنا في محتوياتها لألفينا ضرباً من الخواء التراكمي الذي يشكل عبئاً على المتلقي ويثقل كاهل القارئ المحترف الذي تمثل القراءة بالنسبة له جزءاً لا يتجزأ من برنامجه اليومي المعتاد. قليلة هي تلك الكتب النوعية التي تقدم للقارئ وجبة ثقافية ذات قيمة بنائية عالية فتشبع النهم وتروي الظمأ وتقدح زناد الوعي ليباشر ضرباً من الركض القلِق الذي لا يهدأ له بال إلا بممارسة البحث والفحص والتنقيب عما ورائيات الظواهر والأشياء.

ثمة شح في الكتب التي تربط الإنسان بالغاية النهائية لوجوده وتشحذ همته لكي يرشّد سلوكه على نحو ينسجم ومتطلبات الفوز بحسن المصير في الدار الآخرة المفعمة بالحيوية والامتلاء. وفي هذاالسياق الإيجابي يأتي كتاب الأمان الثاني ليشكل لبنة محورية في هذا الاتجاه حيث جاء هذا الكتاب (للأميرالدكتورفيصل بن مشعل بن سعود بن عبدالعزيز آل سعود) متناولاً قضية الاستغفار ومجلياً عظيم مكانتها بوصفها العامل الأكبر في توفير زخم من الأمان اللامتناهي. وقد جاءت هذه التسمية «الأمان الثاني» مستوحاة من قول الحق –جل في علاه– «{وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} (33) سورة الأنفال، انظر(ص 16) إدراك مؤلف الكتاب لعظم فاعلية الاستغفار في حياة المسلم كان حادياً جوهرياً للمضي في تأليفه وإبراز الاستغفار كقيمة عقدية عندما تتجذر روحها في أعماق الذات فستنعكس إفرازاتها حينئذ وستتجلى على نحو ملموس يوجه السلوك ويضبط الإيقاع العام للحراك الذاتي. لقد أثار المؤلف في هذا الكتاب الضخم المحتوى العديد من القضايا المتصلة بالاستغفار فأشار إلى حدّه وأومأ إلى تعريفه وأنه يفيد الطلب كما هو كل أسلوب عربي على وزن (استفعل) وقد أشار إلى لطيفةٍ مفادها: أن ثمة بوناً رحبا بين مفردتي (غفر,ستر) فمادة غفر تحتوي على وصف زائد على مادة ستر؛ لأن العبد المغفورله سيُوقى جريرة الذنب حيث المغفرة تفتح له آفاقاً ممتدة من الرخاء وعوائد الكرم الإلهي. (انظر ص 24) في هذا الكتاب كان النص حاضراً بهيبته وجلاله فثمة زخم نصي استدعاه الكاتب وخصوصاً إبان حديثه عن مدى الحاجة البشرية الملحة للاستغفار كقيمة يجب التمحور حولها لكل من رام صلاح دنياه وغِنى أخراه مؤكداً في الوقت ذاته أن الاستغفار تعبيرعن إعلان العبودية المطلقة للمعبود الحق, المؤلف لا يفتأ يؤكد أن الاستغفار في حقيقته يشكل حركة احتجاجية تعبرعن الرفض المطلق, رفض الانخراط في كل ما من شأنه خدمة أجندة إبليس الذي بلغ في الشيطنة منتهى آفاقها. مباشرة الاستغفار وعلى نحو مستمر هو تعبيرعن التمنع والتأبي على كافة أشكال الانصياع لمرادات العدو الأول للإنسانية «إبليس» الذي لا يملك حينئذ إلا أن يقول: «ياليتني تركته ولم أوقعه فيه»(ص29) سطورالكتاب تؤكد أن الاستغفار ديدنٌ ثقافي للأنبياء, إذ لا ينفك الرسل الكرام عليهم الصلاة والسلام عن اللهج بمفرداته وترطيب الألسن بكافة صيغه وحث مجتمعاتهم على ملازمته بوصفه الضمانة الأساسية لاستمرار التألق الروحي وخاصة في ظل ذلك الصخب المحموم والمعمعة الحياتية والضغوط اليومية التي تجعل الغفلة تخيم على المرء فتخمد جذوة إيمانه ومن ثم يغرق في تفاصيل مبتذَلة وجزئيات هامشية تصرفه عن التمعن في المآلات المستقبلية المنتظرة وهنا يأتي الاستغفار كمنقذ, كمصدر ثري لتغذية القيم الإيمانية وكسلاح ماضٍ وفعّال في وجه المادية الجامدة. آثار الاستغفار قضية حيوية لم يغفلها الكتاب, بل تطرق إليها مؤكداً أن من أهم صورها حماية الروح الإنسانية من التهميش الذي تطالها آثاره حيث إن ازدهار الجانب الروحي مردّه إلى حسن الصلة بالخالق ومتانة التعلق الوشائجي بمراداته على نحويورث «رضى الله ومحبته فالاستغفار من الأمور المهمة التي يستجلب بها العبد رضى الله ومحبته سبحانه» (ص40) ويقول في (ص132): «المستغفر قريب من رحمة الله ومحبته ولطفه من تقريب الخير ودفع الشر»

هذا الكتاب -وهوإضافة معرفية في سياقه- يلفت انتباه قارئه إلى أن تراجع دور الاستغفار في توجيه الحياة العامة وضمور بُعده الوظيفي لن تدفع الأمة ثمنه على المستوى الروحي فحسب, بل ستُمنى بمرارة التخلف وسوء الأحوال وارتباك الوعي وخفوت الفاعلية الحضارية إلى غير ذلك من صور التدهور التي يعد الاستغفار أحد أبرز عوامل الوقاية منها. يقول المؤلف في هذا الصدد: «ملازمة الاستغفار سبب في المتاع الحسن في الدنيا,والمتاع الحسن يشمل كل مطالب الدنيا» (ص 131) ويقول: «الاستغفار قرين العلم وبهما يعلو العبد في الدنيا..»(ص 143)

ويقول: «الاستغفار وملازمته سبب في النصر للدين والنصر لهذه الأمة» (ص 145) إن الفكرة الرئيسية التي يلح عليها كتاب الأمان الثاني تتمحور حول حقيقة واحدة فحواها:أنه لن ينعم الشعور الجمعي بنهوض حقيقي معتبر إلا إذا شاعت المثل وذاعت القيم في مقابل انحسار عالم الشهوة وتلاشي كافة قوالب البراجماتية المجردة التي تصادم في حقيقتها جوهر الدين وتشوش صفاء التدين. الخلاصة التي نستقيه من فحوى هذا الكتاب هي أنه لا بد من إعادة الاعتبار للقيم لتمارس دورها في ترشيد المواقف وتوجيه مسارات السلوك خاصة في ظل هذا المقطع الزمني الذي طغت فيه العولمة التي لا تفتأ تروم الضغط على المنظومة الخلقية وتتوخى مصادرة قسمات البنية العميقة للثقافة المستوحاة من أنوار السماء.

وفي الختام لا يفوتني بهذه المناسبة أن أزجي مفردات الشكر للمؤلف الدكتور فيصل بن مشعل بن سعود على تلك الإضاءة الثقافية التي أتحفنا بها,وهو رغم ضخامة مشاغله السياسية وتعدد أدواره الوظيفية إلا أنه مع ذلك كانت له بصماته الإبداعية في ميادين العلم وحقول المعرفة, والشكر أيضا لصاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن بندر الذي يقف خلف كل فعل ثقافي نهضوي في منطقة القصيم والشكر موصول أيضاً لمجموعة فكرة الإعلامية ولمكتب الدعوة بالمريدسية على تنظيمهم لتلك المسابقة على كتاب الأمان الثاني وترويجهم لتلك الفكرة المعطاءة، والشكر يمتد كذلك للشركات والمؤسسات الخيرية الراعية, ولكافة منسوبي المكتب التعاوني بالمريدسية على ما بذلوه من جهود تفاعل معها الجميع.

بريدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة