لم يأتِ إعلان فوز الروائي عبده خال بجائزة البوكر للرواية العربية بعيدًا عن توقعاتنا جميعًا؛ لأننا توقعنا ذلك منذ إعلان ترشيح روايته (ترمي بشرر) في قائمة الأعمال الروائية المتنافسة على نيل هذه الجائزة؛ فعبده خال ذو تجربة سردية طويلة تؤهله للتفوق عربيًا باتجاه الصعود إلى العالمية، وإن كنّا نعلم أن جزءًا كبيرًا من أعماله قد ترجم إلى لغات أخرى ساهمت في انتشار الرواية السعودية خارجيًا وعرَّفت العالم بجزءٍ مهم من أدبنا؛ لذا هو فعلا يستحق ما وصف به من أنه (سفير الإبداع السعودي).
فالكاتب تقع عليه مسؤولية تمثيل وطنه ومجتمعه عبر الكلمة، وعبده خال من الكُتاب القلائل الذين يخلصون لإبداعهم، ويتفانون في تقديم نصوصهم بأبهى حللها، ولا يتعجلون الصعود للقمة تحت صخب الأضواء، وتزييف الإعلام، وسعار الناشرين الذين ساهموا في فوضى الرواية السعودية في الآونة الأخيرة. عبده خال أصدر خلال عمره الإبداعي المتميز (12 عملا سرديًا) انتقل خلالها من كتابة القصة القصيرة إلى عوالم الرواية، متسلحًا بثقافة سردية عالية، وقدرة فائقة على الحكي والاسترسال من دون قيود أو مراعاة لحساسية الموضوعات التي يطرحها. كان صادقًا مع نفسه أولا، ومع قارئه ثانيًا؛ فتجاوز في سرده التابوهات، وكشف كثيرًا من المسكوت عنه في المجتمع السعودي؛ فخرجت نصوصه ناضجة تجذب الأنظار إليها بعد نشرها؛ حيث نجح في تشكيل مشروعه السردي الخاص، الذي تميز بطابع جمالي يتطور تصاعديًّا مع تقدُّم عمر تجربته السردية. ولأنه كان كاتبًا إنسانًا فقد وصل إلى قرائه بسرعة، وكسب محبتهم وإعجابهم بعد أن لمسوا قربه من آلامهم وهمومهم من خلال ما يعالجه من قضايا يوظف السرد في وصفها ويلفت النظر إلى حياة البسطاء؛ فالمتابع لرواياته يدخل من خلالها إلى عوالم إنسانية ليس فيها ما يبهج حقًا، بل هي حياة مليئة بالألم والخوف والفَقْد، وتغلب عليها صور الأسى والسوداوية التي تمثل حياة تلك الطبقة البسيطة الكادحة والمسحوقة تحت أقدام التسلُّط والقوة، التي لا تعيش سوى تفاصيل الشقاء والمعاناة في أقسى صورها.
وحين يأتي اسم عبده خال بين المرشحين للجائزة فلا تستغرب أبدًا أن تجد من يؤكد لك استحقاقه لها قبل إعلانها؛ لأن شعبيته كبيرة بين قرائه الذين تمتد مساحتهم بامتداد العالم العربي؛ فقربه من الناس وإنسانيته المفرطة في معالجة قضيته وتحيزه للمهمشين والمظلومين كوّنت له قاعدة جماهيرية عالية، وليس ذلك غريبًا؛ فالروائي الكبير نجيب محفوظ اكتسب شهرته وكوّن شعبيته في العالم العربي من خلال تصويره لعالم الحارة المصرية البسيطة بكل آلامها واحتياجاتها، وعبده خال كما يحلو لبعض النقاد تشبيهه بمحفوظ لقربه منه في حرصه على تصوير تفاصيل حياة الناس اليومية ومعاناتهم، ويكفينا أن نقرأ آراء النقاد العرب في صاحب (ترمي بشرر) لنعلم مكانته الروائية في العالم العربي؛ فهو أحد أبرز الروائيين السعوديين الذين حققوا شهرة واسعة حقيقية على مستوى عربي، عبر أعماله المتسلسلة التي حظيت باهتمام نقدي واسع، ودخلت في كثير من الدراسات عن الرواية العربية والسعودية، وهي تجربة تستحق التوقف عندها؛ لما فيها من الظواهر الفنية والجمالية والثقافية، وليست كل الروايات قادرة على إثارة الناقد أو الباحث؛ لأنّ النص المتمكن من أدواته السردية هو القادر على فرض نفسه؛ وبالتالي كانت روايات عبده خال من النصوص المفتوحة القابلة لتعدد المناهج والباحثين فيها عن ظواهر شكلية أو سردية أو جمالية أو اجتماعية أو تاريخية؛ فنصوصه تقدِّم للباحثين مادة غنية للتحليل والتأويل لما تتميز به من رمزية عالية تحتاج إلى قارئ خبير يفكك شفراتها، ويعيد ترتيبها وصياغتها بشكلٍ يزيل غموضها ويساعد القارئ على تذوق جمالياتها.
والحديث عن جماليات السرد عند عبده خال يطول، ولن يكون تناوله بعجالة منصفًا له كروائي فريد، ولكننا هنا نضيء جانبًا بسيطًا من جوانب تجربته السردية التي أهَّلته للتربع على قمة الرواية العربية الفائزة بجائزة البوكر، التي أعاد بفوزه بها الاعتبار للرواية السعودية بعد أن نالتها يد العبث من جيل اقتحم عالم الرواية من دون خبرة سردية، فأغرته أضواء الشهرة لينهك جسد الرواية السعودية بضعف نوعية المنتج كيفًا وليس كمًا، ويخلخل مكانتها في نظر الآخرين الذين شغلوا بالتعميم، لكن عبده خال هنا يمثل جيل الرواية الفنية الحقيقي، الذي عمل باجتهاد ومثابرة على تطوير تقنياته السردية في رواياته التي استحقت بجدارة أن تتقدم قائمة الروايات السعودية كاسم لامع يرتقي بمستوى الإبداع السعودي، ويعيد هيبته ليكون قدوة لجيل جديد سيدخل مرحلة جديدة للرواية السعودية يؤرخ له فوز عبده للبوكر.. عبده خال يستحق الفوز بلا جدال!!
/td>
