Culture Magazine Thursday  11/03/2010 G Issue 301
فضاءات
الخميس 25 ,ربيع الاول 1431   العدد  301
 
الأقسام العلمية حين تعيش في الزمن
(قسم الأدب) في (جامعة الإمام) مثالاً ...
خالد بن أحمد الرفاعي

اعتدنا - نحن العربَ - على تسويغ أخطائنا، ورمي تبعاتها على المكان والزمان والذوات والأشياء من حولنا؛ وكثيراً ما نشرِّع لفشلنا بالروتينية التي تحكم قبضتها علينا، وبعدم امتلاكنا الحرية الكافية لطرح مشاريعنا، التي تعبِّر عن أفكارنا ورؤانا...

نقنع أنفسنا على الدوام بأنّ لدينا الكثيرَ لولا أنّ الفضاءَ من حولنا يسرق منا، وكثيراً ما نضرب أكباد اللغة؛ لتأخذنا إلى نقدِ كلّ ما هو خارجي، في محاولةٍ ساذجةٍ لتبرئة أنفسنا، متناسين أنّ ذواتنا تقع في هذا (الخارج) بالنسبة إلى ذوات الآخرين، وهكذا أشياؤنا بالنسبة إلى أشيائهم، وقيمنا بالنسبة إلى قيمهم...

لم ننجح في إقناع أنفسنا - من وراء اللغة - بأنّ إيقادَ شمعةٍ واحدةٍ خيرٌ ألفَ مرةٍ من لعنِ الظلام، وأنّ خطوةً واحدةً يتبعها موتٌ، خيرٌ من حياة كاملة نقضيها ركضاً في المكان...

نتجاوز الحقيقةَ بألف ميل حين نظنّ أن تأخرنا يعود بنسبة كاملة إلى الفضاء الذي نعيش فيه؛ إذ إنّ الحقيقة المتشكلة في رحم التاريخ تعطينا النقيضَ باستمرار، فما عرفت الأممُ النجاحَ (الناجح) إلا على أنه تجاوزٌ للعقبات، وبقدر ماهية العقبات يكون مستوى النجاح، سعةً وضيقاً...، وبانعدامها ينعدم حقيقة أو مجازاً...

قراءةٌ سريعةٌ في سير الناجحين الكبار، تعطينا الشعورَ الكافي بقدرتنا - نحن الغارقين إلى الآذان في الفشل - على صناعة الأشياء الجميلة من الأطمار وبقايا الجلود المتيبّسة، وعلى أخذ الحرية قبل أنْ يحينَ موعدُ عطائها...، ولدى كلِّ أحدٍ منا القدرةُ على أنْ يجعلَ الأضلاعَ التي تحاصره مرنةً للغاية، بحيث تستوعب الدنيا كلَّها في بضعِ أمتارٍ من التفكير السليم...

أتخذ هذه المقدِّمة منطلَقاً للحديث عن قسم الأدب، أحدِ أقسام كلية اللغة العربية بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية؛ كونه انتفضَ أخيراً، فزال عنه القبرُ والكفنُ، واستطاع في مدةٍ وجيزةٍ أن يقفزَ قفزةً جميلة إلى الأمام...

ورغم أنّ القسمَ كان وما زال وأحسبه سيظلّ مفتوحاً على الآراء المتعدِّدة - وربما المتباينة أيضاً - فإنّني أرى أنّ من الواجب على كلِّ منصفٍ أن يقرَّ - أولاً - بأنّ هناك حراكاً جديداً في القسم، وأنّ هناك وجهاً جديداً له، وصوتاً، وقيمة...، ولا بأسَ في أنْ نختلفَ من بعدُ في كون هذا الحراك صحيحاً، أو مجللاً بالعلل...

ولكي أضمن لمقالتي هذه قدراً لا بأسَ به من الموضوعية، سأعرض في الآتي لأبرز مظاهر الحراك الجديد في هذا القسم، وسأنتهي منه إلى نتيجة عامة، يمكن استثمارها في الأقسام العلمية كلِّها، دون استثناء...

الأوّل: التعاقدُ مع أسماء كبيرة في النقد العربي، ويكفي القسمَ شاهداً على الحِراك أنه نجح في التعاقد مع الناقد المغربي المعروف د.سعيد يقطين، لينضمَّ إلى كوكبة من أساتذة القسم، المكلّفين بتدريس طلبة الدراسات العليا، وإلى جانب هذا الاسم المهمّ أنجز القسمُ خطواتِ التعاقد مع الناقد المعروف د.محمد مفتاح، ولقد تمَّ اختيارُ هذين الاسمين بوعي كبير، لا أظنه يخفى على من يتابع نشاطهما...، وثمة توقيعات أنجزها القسمُ مع أسماء لا تقلُّ أهميةً عن الاسمين السابقين، أهمّها كان مع الباحث المصري المهتمّ بالأدب المقارن، د.أحمد درويش، وبمعيته زوجته (رشاء صالح)، الحاصلة على درجة الدكتوراه في النقد من جامعة (السوربون)؛ لتتولى - هي الأخرى - تدريسَ طالبات الكلية، وطالبات الدراسات العليا في قسم الأدب...

ولستُ مضطراً إلى الحديث هنا عن أنّ التعاقد مع هذه الأسماء المهمة قد مرّ بخطوات طويلة، ربما كانت كافيةً لوأد هذا الطموح الجادّ...، وأحسب أنّ لدى القسم - الآنَ - رغبةً جادةً في التعاقد مع أسماء كبيرة في الأدب والنقد؛ ليصنعَ بها منطلقاتٍ أكثر لحراكٍ أكبر...

الثاني: التخفُّفُ من الروتينية، ويتجلى هذا التخفُّفُ أكثرَ ما يتجلى في التخلص من كثير من النقاط التي كانت تمرُّ بها المخططاتُ المقترحة للرسائل العلمية، فكان أن انتقل طلاب وطالبات الدراسات العليا من تقديم مخططٍ متكاملٍ إلى تقديم فكرة بحثية، كما تحوّلت طريقةُ عرض المقترح من مجلس القسم الذي يضمُّ أساتذة مختلفين في تخصصاتهم إلى لجنة ينتظم أعضاءها خيط التخصُّص الدقيق، وهذا وحده قرارٌ يواكب رغبة التعليم العالي في تجذير مفردة التخصص في الدراسات العليا...، وهو نظامٌ معمول به منذ سنوات في أقسام علمية أخرى...

الثالث: إنشاء هذه اللجان (المظهر الثاني)، أفضى بنا إلى مظهرٍ ثالث مهمّ، ألا وهو انعقاد حلقات علمية خاصة في مكاتب أساتذة القسم، يكون مدارها على تلك الأفكار البحثية التي يقدمها طلاب وطالبات الماجستير والدكتوراه، فأعضاء اللجان - عادة - هم من المتخصصين في سياق الفكرة المقدّمة، واجتماعهم سيفضي - ضرورةً - إلى حوار ثري، لا بين عضو وآخر - كما يسجِّل الرصد السطحي -، ولكن بين مدرسة وأخرى، وبين اتجاه وآخر...، ولقد قادني حظي الجميل إلى أوقات، كانت فيها مكاتب القسم مشتعلةً - كالنار - بنقاشٍ تتناثر تحته دقائق الصباح بلا حساب...

الرابع: وجود الرغبة الصادقة في تحويل ترشيح المعيدين من الذاتية إلى الموضوعية، ولقد تابعتُ خطواتِ الترشيح التي أجريتْ مؤخراً، فألفيتها أكثرَ دقةً مما مضى، ويكفي أنّ القسمَ قد أدرج فقرة الاختبار التحريري لأول مرة في ترشيح المعيدين، دون أن يضحي بفقرة الاختبار الشفوي، بل إنه أضاف إليهما فقرة ثالثة ذات وظيفة إدارية، وهذا - لا ريب - يعدُّ تطوّراً مهماً في الشكل الإداري للقسم...

الخامس: تبنيه فكرة الندوة النقدية المفتوحة، والتي كان من المقرّر أنْ يشارك فيها الناقدان: عبد الله الغذامي وصالح بن الهادي رمضان، لولا أنها أجِّلت إلى وقتٍ لم يحدد بعد، وما من شكّ في أنّ حرصَ القسم على طرح هذه الندوة، والاهتمام بها يعدُّ إنجازاً مهماً، ومهماً للغاية، وتحوّلاً ثقافياً كبيراً أيضاً، ولذلك لم يتردّدْ الغذامي نفسه في الثناء على هذه الخطوة الجميلة، حتى بعد أنْ استبانها سراباً بقيعة...

ويمكن أن أضيف تحت هذه الفقرة استقطاب القسم لأصحاب المشاريع النقدية الكبيرة، من خلال لقاءات داخلية، يحضرها ويثريها أعضاء هيئة التدريس في القسم، ومن هم في حكمهم، وهنا ينبغي أن أشير إلى الدعوة التي وجهها القسم مؤخراً إلى الناقد العراقي المعروف د.عبد الله إبراهيم، للحديث عن مشروعه المهمّ (موسوعة السرد).

السادس: تحرُّفه إلى إقامة مؤتمر أدبي، عبرَ مقترحٍ تقدم به إلى معالي مدير الجامعة، فحظي منه بالتشجيع والدعم، وأحسب أنّ الفصلَ القادمَ سيحمل الكثير من أخبار هذا المؤتمر...

إنّ هذه المظاهر الجميلة - وعداها كثير - تكفي دليلاً على وجود الحراك، وعلى أنّ القسمَ تجاوز مرحلة الوقوف (وهي حالةٌ مرتّ بها أكثر الأقسام العلمية في جامعاتنا خلال السنوات الماضية) أو حالة الركض في المكان، إلى حالة المشي، وبعد أنْ نقرَّ بأنّ القسمَ أخذ يمشي فعلاً، يكون من حقِّ كلِّ أحدٍ أن يعبِّر عن رأيه في قيمة هذا المشي، وشكله، وإيقاعه...، غير أنه ليس في مقدور أحدٍ أنْ يلمَّ إلماماً جيّداً بقيمة هذه الخطوات الطويلة التي خطاها القسم في مدة زمنية قصيرة، إلا حين يوازن بين منجزه ومنجَز الأقسام الأخرى داخلَ الكلية أو خارجها...، ولقد رأيت بعينيّ أحدَ طلبة قسمٍ في الجوار، يغشى قسمَ الأدب ما بين آونة وأخرى، حتى لقد ظننته انتقل أو قارب، وحين فحصت الموقفَ جيداً، وجدته يستعينُ على بعض حاجات بحثه ببعض أساتذة القسم، بل إنه لم يتردّد في أنْ يقدِّم إلي تهنئته الصادقة على ما نحن فيه، مبرزاً كيف أنّ الحركة التطويرية التي يقوم بها القسمُ أضحت حديثَ المنتمين إلى قسمه والأقسام العلمية الأخرى داخل الكلية، وأنّ منهم من يتحسّس هذا الحراك بتوجس وخيفة، ومنهم من يلمس فيه مواكبة للنهضة التعليمية العالية، التي تمرُّ بها بلادنا...

ولو أردت أن أسجِّل أسباب هذه النقلة المهمة لأوجزت أهمَّها في الآتي:

- أنّ العقلية العامة لأساتذة قسم الأدب عقلية منفتحة، تؤمن بأنّ الوقوف عند حدّ لا يعني إلا الموت، ويكفي أن نتابع خطاب أساتذة القسم، لنجده مفتوحاً على المستقبل دون حذر مبالغ فيه، كالذي نجده عند الآخرين...، وهذا - ولا شك - سببٌ رئيسٌ لا يجوز أن نتجاهله...

- أنّ هناك اتفاقا لا بأس به بين كثير من أساتذة القسم من جهة وجانبه الإداري من جهة أخرى (رئيس القسم - الوكيل)، على أهمية التطوير، ومواكبة النقلة الكبيرة التي يمر بها التعليم العالي في بلادنا، (وأحسب أن الاتفاق على أهمية هذا الاتفاق سيقودنا إلى نقلة أكبر في مدة زمنية أقلّ).

- أنّ عدداً من أبناء الجيل الجديد، حصلوا على درجة الدكتوراه، وتمّ تعيينهم أساتذة مساعدين في القسم، فدخلوا مجلسه، وانتظموا أعضاء في لجانه المتعدِّدة، وسجلوا - بجريانهم مثل الدم الأخضر في شرايين القسم - واحداً من أهمِّ أسباب هذا الحراك.

- أنّ القسم حظي خلال السنتين الأخيرتين بعقلية إدارية راقية، فرئيس القسم د.محمد القسومي يعدُّ طرفاً مهما في هذه المعادلة الصعبة، وثمة اتفاق من قبل أكثر العاملين في القسم على أنه رجل هذه المرحلة المهمّة، ولأنني لا أريد لهذه المقالة أن تكون موالاً مدائحياً، سأكتفي بالإشارة إلى سمتين مهمتين في شخصه، أولاهما: وقوفه وسطاً بين الأدبين: القديم والحديث، والاتجاهين: التقليدي والتجديدي، والجيلين: الروّاد والشباب...إلخ، وما من شكّ في أنّ وقوفه في الوسط بين هذه الثنائيات المعقدة ضمن للقسم تحرّكَ كلِّ دائرة إلى جانب الأخرى، بشكلٍ تكاملي لا تصادمي، والتكاملية أساس من أسس الحياة. وثانيتهما: قربه من المعيدين والمحاضرين، وتشجيعه لمن يلمس فيه الرغبة في تطوير نفسه، والرقيّ بها، وهذا أيضاً عامل مهمّ في صناعة أرضية مناسبة، لا للحراك الآني فحسب، ولكن لحراكٍ مستقبلي بإذن الله.

وما من شكّ في أنّ د.القسومي قد حظي بأساتذة فاعلين، تقاسموا معه الهمّ والطموح، وعلى رأس هؤلاء وكيل القسم د.صالح المحمود، ود.عبد الله الرشيد، الرئيس السابق للقسم؛ لكونه مهّد لهذه المرحلة بعددٍ من التغييرات المهمّة، عبّر عن بعضها د.عبد الله الحيدري في مقالة نشرت هنا...

أختم هذه المقالة بالإشارة إلى أنّ التعليم العالي مهما حظي بدعم مادي ومعنوي من الدولة، وأنّ الجامعات مهما طرحت من المشاريع الإنشائية والعلمية...إلخ، لن تحقِّق شيئاً مما تصبو إليه ما لم تكن الأقسام العلمية مسندةً إلى عقلية منفتحة، تعي جيداً معنى العيش في الزمن، ومعنى العيش خارجه...

الرياض Alrafai16@hotmail.com
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة