Culture Magazine Thursday  11/03/2010 G Issue 301
فضاءات
الخميس 25 ,ربيع الاول 1431   العدد  301
 
تجربتي.. في كتابة (السيرة الذاتية)..1-2
عبدالله مناع

بدأت علاقتي ب»المذكرات» السياسية و»السير» الذاتية في وقت مبكر من حياتي، ربما قبيل الانتهاء من دراستي الجامعية.. وربما فور الانتهاء منها، وسط شغف معرفي جارف.. لا حدود له؛ فقد كنت أريد أن أعرف كل شيء في التاريخ وفي السياسة وفي الأدب وفي الفن، وفي أقصر وأسرع وقت.. وسط عالَم (مصر) آنذاك باذخ وحافل وعريض، وجدتني فيه طالباً في كلية الطب بجامعة الإسكندرية، وقد حط عليّ همٌّ آخر.. هو معرفة كل شيء عن «الإنسان» وحياته ومصيره، الذي كان يقلقني ويحزنني منذ تلك الأيام الأولى.. ربما ل»يتمي» وربما لشعوري ب»الوحدة»! لقد كنتُ جائعاً بحق، جائعاً يريد أن يملأ عقله ب»المعرفة».. وروحه ب «الأمل».. وقلبه ب»العزيمة» في بيداء الحياة وصحرائها التي جعلتني أقول عنها وعن إنسانها فيما بعد: «الإنسان حائر عظيم.. يعيش مأساته»..!

ورغم صحافة الستينات بنَفَسِها القومي ودعوتها التحررية وطروحاتها الفكرية الجريئة، ورغم أفلام الستينات المكثفة والرائعة والمؤثرة.. التي ألهمتني وألهبتني، ورغم «الروايات» التي كانت تملأ أرفف المكتبات وأكشاك بيع الصحف من «ثلاثية» محفوظ إلى «رد قلبي» السباعي، إلى «لا أنام» إحسان، إلى «صباح الخير أيتها الأحزان» لساجان، إلى «أنَّا كرنينا» لتولستوي.. وما تقدمه كل تلك القنوات المعرفية مجتمعة من أخبار ومعلومات وقصص يتقاسمها الواقع مع الخيال، إلا أنني كنت أبحث إلى جانبها.. عن شيء آخر: عن قصص حقيقية، وتجارب واقعية.. عن حياة «أناس» مثلهم مثلي، تجري في عروقهم الدماء ذاتها.. وتتردد في صدورهم الأنفاس ذاتها.. وتمتلئ عيونهم بالدموع ذاتها.. وتعصف بقلوبهم «أحلام» تكبر بهمم أصحابها وتصغر بتواضعها، لأجد ضالتي في كتب «السير الذاتية» التي يكتبها الأدباء والفلاسفة والشعراء.. و»المذكرات السياسية» التي يكتبها القادة والزعماء والرؤساء.. والتي قادتني إليها بداية «أيام» طه حسين الحزينة والعظيمة، لأكتشف بعد أن التهمت ثلاثتها الأول.. وجميعها عن الحرب العالمية الثانية ونجومها الذين كانت أسماؤهم ما تزال تلمع في الآفاق: «كفاحي».. لأدولف هتلر، و»النفير» لشارل ديجول، و»النصر والمأساة» لونستون تشرشل، أن «السير» ك»المذكرات».. تتشابهان كثيراً، وتختلفان قليلاً.. وأنهما معاً يشبهان ذلك «الستار» الذي انفرج عن حياة إنسان ما، وهو يعيش أدق وأحرج وأبسط لحظاته، أو تلك «الغرفة» التي رُفع عنها سقفها وجدارها.. فأصبحت أرضها ومن فيها وما فيها عاريةً أمام كل الناس، وهما أيضاً.. صفحات من التاريخ الإنساني المعلوم بعضها والمجهول معظمها: حية نابضة دافئة، وقد تكون دامعة دامية، وهما أيضاً.. تحملان وجهة نظر «صاحبها» في الأشخاص والحياة والزمن: حباً وكرهاً.. تقديراً أو تحقيراً.. تعظيماً أو تحطيماً..!!

إلا أنهما تتباينان ب «اسم» و»مكانة» و»دور».. صاحبيهما، ف»السيرة» تتحدث عن حياة ومصير «فرد».. بينما «المذكرات» تتحدث عن حياة ومصير أمة بلسان «فرد»..!!

لقد أفادتني وأمتعتني وأشبعت جوعي تلك «المذكرات» و»السير».. وقد كانت مزيجاً منهما أو خليطاً بينهما، ثم قادتني.. إلى غيرها، وإلى ما بعدها: إلى «لورنس» وأعمدته السبع.. وإلى غاندي و»تجاربه مع الحقيقة»، وإلى رحلة نهرو من «السجن إلى الرئاسة»، وإلى الجلوس مع «راجندرا برازاد» عند قدمي غاندي، وإلى أيوب خان وأصدقائه الذين يبحث عنهم لا «سادته» الذين يريد تجاوزهم.. إلى عشرات العشرات من المذكرات والسير الذاتية التي أصبحت وكأنها كتابي المفضل.. أو كتابي الأول.

إنني ما زلت أذكر معجباً مفتوناً.. الكثير مما جاء في تلك «المذكرات» و»السير» الأربعة الأول التي قادتني إلى عالمهم المعرفي الرحب. المترع والعظيم؛ إذ كيف أنسى «ديجول» ابن مدينة «ليل» الفرنسية الصغيرة.. وهو يصور بقلمه في «النفير» باريس عندما قدم إليها: (في باريس لا يهزني شيء بمقدار ما تهزني رموز أمجادنا: الليل المسدل على قباب نوتردام، وجلال المساء في «فرساي»، و»قوس النصر» المؤتلق تحت الشمس، ورايات الظفر الخفاقة في أعالي «الانفاليد»).. وكيف أنسى سيرة أيامه الأخيرة التي كتبها وأبدع فيها صديقه ووزير الثقافة الدائم في حكوماته: «أندريه مالرو» بعد موته في نوفمبر من عام 1970م.. وهو يسترجع لحظة قدوم الفنانة الفرنسية الشهيرة بريجيت باردو؛ لحضور إحدى حفلات قصر الإليزيه التي دعيت إليها، وقد حضرتها بثوب فرنسي فاضح، ليقول لها «ديجول» عند استقبالها.. مبتسماً: «ما أقل حظي سيدتي. أنت بالزي العسكري وأنا بالمدني»..!! وكيف أنسى في أيام طه حسين ومذكراته قصة البرواز الذهبي ل «نظارته» السوداء.. الذي أهداه إليه شقيقه، لأنه أليق بمقامه.. وقد استقبله بعد عودته الاضطرارية لمصر بسبب ضيق ذات يد الجامعة عن الإنفاق عليه، فلما توالت الشهور دون أن يلوح حل لأزمة الجامعة المالية وقد كانت أهلية آنذاك.. آثر مديرها الدكتور علوي باشا أن يعيد إرساله إلى فرنسا مع زميل له دون مرافق.. على أن يتحمل كل منهما نفقته. ولأن الدكتور علوي يعلم أن طه حسين لا يملك مالاً ينفق به على نفسه.. تبرع له بنصف المرتب الذي كان يتقاضاه من جيبه الخاص، وهو يطلب من شقيقه.. دفع النصف الآخر، لكن الشقيق اعتذر.. وطالب «السلطان حسين» بأن يتولى السداد عن الأسرة أو إبقاء طه في مصر.. ولكن طه حسين أخذ يستعد للعودة مجدداً إلى فرنسا راضياً بنصف المرتب الذي سيتقاضاه، والمتبرع به من قبل علوي باشا، ليتلقى رسالة من شقيقه يودعه بها، ويستأذنه في استرداد البرواز الذهبي الذي أهداه إياه، والذي كان طه حسين يستر به «عورة العمى» كما كان يصفها به هو وملهمه: أبو العلاء المعري.. الذي عانى منها ما عاناه حتى أصبح رهين المحبسين: العمى وداره، فيعيده إليه.. ويترك دموعه لتنساب من تحت البرواز «البلاستيكي» المخجل الذي كان ثمنه لا يزيد عن قرشين، وكيف أنسى قصة الطفل المدلل أو «الوحيد والحيلة» زكريا أحمد، الذي جاء والده بعد أربع بنات وعشرين عاماً من الانتظار، التي روى قصتها الأستاذ زكريا نفسه.. في سيرة حياته. عندما ذهب به والده إلى الشيخ في القرية.. ليحفظه القرآن ويعلمه تجويده، فبعد أن تم الاتفاق مع «الشيخ» على كل شيء.. اقترب والد الطفل من الشيخ ليستأذنه في السماح للطفل بالتردد على المنزل مرتين في اليوم..؟

فلما استنكر الشيخ هذا الطلب غير المعهود من الآباء؟

اقترب منه والده.. أكثر، وهو يقول له: «أصله.. لسه بيرضع»..!

لكن هذا الطفل المدلل.. الذي ظل يرضع حتى الرابعة من عمره، ملأ الأسماع والآذان فيما بعد بأعذب ما شدت به أم كلثوم.. من ألحانه في الأربعينات والخمسينات: من «أهل الهوى».. إلى «حلم».. إلى «هوَّه صحيح الهوى غلاب».

إذا كنا لسنا أصحاب تاريخ في كتابة «المذكرات السياسية».. وأنها جزء أصيل من ثقافة الغرب الأوروبي وأدبياته، تحولت فيما بعد، وعلى يد الرؤساء الأمريكيين إلى واحد من أفضل استثماراتهم بعد مغادرتهم للبيت الأبيض، فإننا يمكن أن نقول بأننا أصحاب تاريخ في «كتابة السير»، وأول سيرة نعتز بها هي «السيرة النبوية» المباركة.. لحياة الرسول عليه أفضل الصلوات وأتم التسليم، ودعوته للتوحيد، وجهاده في نشر الإسلام، وقد قيل تاريخياً إن أول من كتبها هو الشيخ محمد بن إسحق في كتاب «المغازي والسير» بأمر من الخليفة المنصور العباسي عام 769م، وقد اعتمد عليها «ابن هشام» فيما بعد في السيرة المشهورة باسمه (سيرة ابن هشام)، وقد عرف تاريخنا فيما بعد سيراً أخرى ك»سيرة بني هلال»، و»سيرة» سيف بن ذي يزن»، و»سيرة عنترة بن شداد العبسي».. وإن كانت جميعها أو معظمها أقرب إلى الملاحم الشعرية الإنشادية منها إلى «السيرة الذاتية» بمفهوم التجربة الإنسانية، والخطأ والصواب و»الأسرار» التي يفترض أن تكشف عنها.

لكن الساسة العرب في مختلف أقطارهم.. خاضوا إجمالاً في كتابة «مذكراتهم السياسية».. من أواخر القرن التاسع عشر وعبر سنوات القرن العشرين بطولها، حتى تحولت في الثلث الأخير منه إلى منصات للهجوم والهجوم المضاد، فكل يكتب مذكراته.. والناس كل الناس يقرؤون، ويتفقون أو يختلفون أو يتشتتون في النهاية بين «صدق» يتغشاه كذب، وكذب يواريه نفاق، إلا أن كتابة «السير الذاتية» للكتاب والأدباء والشعراء.. ظلت تأخذ طريقها وتتنامى عبر أعلى درجات الصدق والصراحة والجمال.. ولعلكم تذكرون «سبعون» ميخائيل نعيمة و»حياتي مع الشعر» لنزار قباني و»أوراق العمر» للويس عوض، و»رحلة جبلية صعبة» لفدوى طوقان، و»على مقهى الحياة» للدكتور سمير سرحان التي روى فيها قصة حياته كاملة.. و»كوميديا» تعيينه معيداً بآداب اللغة الإنجليزية في جامعة القاهرة، فقد كان رئيس القسم آنذاك هو الدكتور رشاد رشدي الأديب والكاتب المسرحي الذي كان يعتبره الوسط الثقافي في مصر: المعادل الفكري والفلسفي والإبداعي لـ «توماس إليوت» صاحب قصيدة «الأرض الخراب»، إلا أن الدكتور رشاد.. كان غربي الهوى، غربي الثقافة، معادياً لكل من يحمل شبهة اليسار في تفكيره.. وقد كان الدكتور سمير من هؤلاء، فرفض تعيينه «معيداً» بالقسم.. رغم أنه كان ثاني دفعة تخرجه، وقد حاول الدكتور سمير بكل الوسائل والوساطات في ثنيه عن قراره دون فائدة، إلى أن جاء الصيف وذهب الدكتور رشاد لقضاء إجازته في «لندن» كالعادة.. بينما كانت تعرض له مسرحية «الفراشة» في دار الأوبرا بالقاهرة، وقد كانت مسرحية مصنعة بالمقاييس الأكاديمية الخالصة.. لكنها خالية من الروح والإبداع الحقيقي، لتطرأ على ذهن الدكتور سمير.. فكرة شيطانية، تتمثل في كتابة «نقد» أدبي أكاديمي جميل للمسرحية.. وإرساله للدكتور رشاد على عنوانه في لندن.. مع أطيب تهانيه وتحياته، ليأتيه الرد بعد أسابيع وقد كتب على الظرف: «ابني الحبيب» سمير سرحان. وتم التعيين!!

أما نحن.. وعلى مستوى الوطن، فلم يخض رجالاتنا ممن ساهموا في صناعة القرارات الكبرى طوال العهود العثمانية وما تلاها في كتابة المذكرات السياسية!! ربما خوفاً وربما حذراً وربما مجاملة وربما أملاً في مغنم، إلا أننا خضنا في كتابة السير الذاتية على استحياء.. بدءاً من «هذه حياتي» لحسن كتبي، إلى «تجربتي الشعرية» للقرشي، إلى ذكريات الجاسر الصحفية، إلى ذكريات العهود الثلاثة للزيدان.. الذي كان سيرة مخلوطة بشيء من السياسة، إلى حياتي مع الجوع والحرب والحب.. لعزيز ضياء، الذي حفزه بداية مع الأستاذ محمد سعيد طيب على كتابة (مذكراته)، فكان أن كتب هذا العمل التاريخي الدرامي، إلى «حياة في الإدارة» الذي خشي كاتبه المبدع الدكتور غازي القصيبي لما لا أدريه من أسباب أن يسميه ب»حياتي في الإدارة».. رغم يقيني بشجاعته الأدبية وإعجابي بقدراته شاعراً وكاتباً من الطراز الأول، ومعذرة إن كنت قد نسيت أسماءً كتبت سيرها ولم أذكرها؛ فالعتب على الذاكرة وحدها.. ليس إلا!!.

جدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة