Culture Magazine Thursday  14/01/2010 G Issue 294
فضاءات
الخميس 28 ,محرم 1431   العدد  294
 
نُقَّادُنا.. والكَبتُ النفسيُّ المنخفض!
عمر بن عبدالعزيز المحمود

في الحلقة التاسعة من الموسم الأول من المسلسل الأمريكي الشهير Prison break تقوم الدكتورة Sara Tancredi بزيارة عيادة الدكتور David Brighton النفسية لتتحدث معه عن المرض الذي يعاني منه Michael Scofield؛ فيخبرها بأنه مصاب بما يسمى بPsychological repression low (الكبت النفسي المنخفض).

وحين أبدت الدكتورة Sara Tancredi دهشتها وتعجبها لكونها المرة الأولى التي تسمع فيها بهذا المرض، رغم أنها تنتمي إلى عالم الطب قام الدكتور David Brighton بشرح ماهية هذا المرض وأبرز أعراضه وآثاره، فأخبرها قائلاً: "إنَّ من يعانون هذا المرض يرون الأشياء مثلي ومثلك"، ثم أشار نحو مصباح في زاوية الغرفة، وأضاف: "هذا المصباح مثلاً.. نحن نرى صورته فقط، أما هم فيرون كل شيء.. الساق.. الشكل البصلي للمصباح.. الترابيس.. وحتى الصواميل بالداخل.. إنَّ مخهم ينتبه للمؤثرات الخارجية بالبيئة المحيطة، بينما أمخاخنا وأمخاخ الآخرين تتجاهل بعض المعلومات حتى نحافظ على عقولنا..". ويختتم موضحاً: "فإن أصيب به شخص قليل الذكاء فسيسبب له الجنون.. أما إن أصيب به شخص عالي الذكاء فسيكون عبقرياً مبتكراً".

شدني ذلك المشهد تحديداً وأنا أتابع هذا المسلسل، وأثار اهتمامي هذا المرض بأعراضه وآثاره، ولأنه لا علاقة لي بالطب لا من قريب ولا من بعيد، فقد قمتُ بالبحث عن حقيقة وجود هذا المرض في شبكة الإنترنت وسؤال بعض أطباء النفس عنه، لكنني لم أستطع أن أهتدي إلى شيءٍ يُذكر، ولا أعرف حتى وقت كتابة هذه الأسطر: هل هذا المرض حقيقي أم أنه من نسج خيال مبدع القصة؟!

أعرف أن البعض ربما يتساءل الآن: وما علاقة كل هذا بالنقد والنقاد؟ لذا أقول: الحقيقة أنني أُعجبتُ بهذا المرض - بغض النظر عن حقيقة وجوده من عدمها - وأُعجبت بآثاره على الإنسان المصاب به، بل إني أعدُّه نعمة من نعم الله عليه إذا أحسن استخدامها، وموهبة يُحسد عليها، وتمنيتُ حينها أن يُصاب به كثير من نقادنا الذين افتقدوا تلك الموهبة حين النظر في النصوص الأدبية ومحاولة نقدها وتقويمها؛ فالنص الأدبي لا يختلف كثيراً عن ذلك المصباح الذي أشار إليه الدكتور Brighton حين أراد أن يوضح فكرة هذا المرض للدكتورة Sara Tancredi، ولا خوف عليهم من ذلك المحذور الذي أشار إليه الطبيب النفسي؛ فنقادنا فئة متميزة تتمتع بمستوى عالٍ من الذكاء؛ لذا فإن هذا المرض سيضيف إليهم العبقرية والابتكار إذا ما قُدِّر وأُصيب به أحدهم.

إننا نعاني كثيراً بعض الممارسات النقدية التطبيقية التي تطل علينا بين الحين والآخر متناولة نصاً إبداعياً متميزاً، محاولة أن تكشف للمتلقي أسباب جماله وأسرار تألقه؛ فهي لا تقدم - أو لا تستطيع أن تقدم - رؤية نقدية تفصيلية لتفسير النص واستكناه الجمال المتمثل فيه على اختلاف مستوياته؛ ذلك أنها تكتفي بكشف تقليدي عن مثاليته وتفوقه أو ضعفه وتخلخله بصورة كلية دون دخول في متاهات التفصيل والتفسير، ودون وقوف متأملٍ متأنٍ عند جزئياته وتفصيلاته، وهذا راجعٌ إما إلى عدم إدراك أهمية هذه الممارسة بهذا العمق، أو إلى عجزٍ وتقصيرٍ في الرؤية نفسها.

إنَّ من بدهيات وظيفة الناقد تقديم رؤية متكاملة عن النص الإبداعي، وإقناع المتلقي بالحكم النقدي الذي توصلت إليه هذه الرؤية، ولا يتم ذلك إلا عن طريق الكشف عن جماليات النص بصورة تفصيلية هادئة طويلة النَفَس، ومحاولة التغلغل في جزئياته الدقيقة التي لا تتبدى إلا للناقد الحاذق الذي يدرك أن النص الإبداعي ليس مجرد كتلة جامدة لا أثر للحياة فيها، بل كائن حي لا بد من التأمل في أعضائه وأنسجته وملامحه، أو أنه لوحة فنية لا بد من التوقف عند تناسق جزئياتها وتناغم ألوانها وانسجام أجزائها، وهذا الأمر هو السبيل الأمثل لتحقيق ما يطمح إليه الناقد بأن يكشف عنه من خلال هذه الرؤية، وهو المسلك الأول لتقديم ما يأمل المتلقي به أن يروي ظمأه من وراء قراءته لهذه الرؤية أو ذلك التحليل والتفسير.

إنَّ محاولة تقديم هذا النوع من الرؤية إلى القارئ هو بمثابة (غوص في أعماق النص) و(تحليق في فضاءاته) و(سبر لأغواره)، ولا يجوز للناقد أن يصف عمله بهذه العبارات إلا إذا التزم بهذا العرض المفصل لجماليات النص وهذا الاستكناه العميق الكلي، وكانت رؤيته له مستوفية لجميع عناصره وجزئياته الدقيقة التي يستطيع من ورائها إطلاق الحُكْم النقدي على العمل الأدبي بكل اطمئنان، ويتقبله المتلقي بكل اقتناع؛ فتكتمل له الفائدة والمتعة معاً. وأحسب أن Michael Scofield سيكون من أعظم النقاد وأكثرهم براعة وحذقاً لو قُدِّر له أن يتخصص في هذا المجال؛ فمتى سنرى في نقدنا العربي ناقداً مصاباً بـ(الكبت النفسي المنخفض) في أعلى مستوياته؟

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة