Culture Magazine Thursday  14/01/2010 G Issue 294
مراجعات
الخميس 28 ,محرم 1431   العدد  294
 
استراحة داخل صومعة الفكر
الشواطئ العطشى
صالح الأحمد العثيمين
سعد البواردي

182 صفحة من القطع الكبير

ذكرني عنوانه بمقولة شاعرنا القديم:

كالعيس في البيداء يقلتها الظمأ

والماء فوق ظهورها محول..

شواطئ يقتلها العطش والري على حافتها تتلاطم أمواجه.. لن يكون بحراً بالطبع.. وإنما نهراً نميره عذب المذاق.. ماذا عن مضامين ومحتويات قصائد فارس رحلتنا على درب الكلمة المقفاة؟!

في مقطوعته الأولى يصعقه الوجع على مشهد الجياد ذليلة ملفعة بالسواد:

مدن العروبة من أذل جيادها

فمضت تعانق بالسود حدادها؟

أقوت مرابعها الخطوب فحلقت

غربانها. ورمى الأسمى فأجادها

الأسى أجاد رميته فأصابها وهذا ما يحز في نفسه ويعتصرها بالقلق المريع..

هلا يعاودك الحنين لفتية

لهوى المواض قطعت أكبادها؟!

بلى.! يا شاعرنا.. حنين إلى الماضي.. وأنين مع الحاضر لا يتفقان.. وجهان للتاريخ مُشرف.. وآخر مِقرف.. ومع هذا يبقى الحلم:

وطني إذا سعت البيارق نحوها

هب الرجال. وفرقوا أضدادها

وإذا وقفت على الطلول فحيها

فحدادنا فيها يفوق حدادها.!

يا فتية جالوا «بمنعرج اللوى»

نجد الهوى كل كرمت قصادها..

شاعرنا يستشرف الآتي أملاً في الحاضر.. على وقع ايقاع حركة الفتى العربي.. إنه يحلم بميلاد عمر. وعصر جديد.. إنه يخاطبه:

الرد من أوشح ما عاد يطرق

لحن من الخلق.. أو برق من الأمل

غرِّد.. ولا تفرح الأغصان ساهمة

ربُّ القوافي. وهات الشعر كالأمل

«الأمل» وردت متكررة في نهاية البيتين.. حبذا لو أصل كلمة «المثل» في البيت الأول «أو برق من المثل»..

إني عرفتك والألحان تسكبها

أياً من النور. للتاريخ. للأزل

فاصدع على الوتر المشبوب خافقه

وشد قيثارة لم ترص بالكسل

النشيد الحي صوت يقظة.. لا يكفي لأذان مغلقة.. إلا أنه ضروة تنبيه بأن لا يكتفي بلعن الظلام. وإنما بإيقاد الشموع.

للوفاء طلل رسمه لنا برشيته المرتعشة:

يا ليت تدرك بعض ما في ذاتي

يا هارباً في ذاته عن ذاتي

كانت أمانيك الطموح. وجدول

يجري يعانق كوثر في الذات

يسري على أمل يصفه سلسلا

قلبا يرف مع المنى للآلي

اغرتك في دنياك بعض ملامح

عميت. فرصت متاعبي وشكاتي

لم يبق فيك بقية أرجو بها

غير الأسى وتدافع الأزمات

أنها منه رسالة عتب.. بل خطاب حزن أشبه بالرثاء هو يعرفه أكثر من غيره.. معناه في سر الشاعر..

«رياح.. ورماد» عنوان عرفنا به شاعرنا قائلاً «كلما تولد قصيدة يولد معها إنسان قزحي. وحبات ضوء متمرد وبتقى أخلاق القصيدة.

هل سافرت أجبني؟ هل كل طيور الصيف تهاجر؟

هل كل السحب العابرة الحيرى فيها تلهث ريح عاقر؟

كل شبابيك عيوني ماطرة تعللها. يرفضها حتى الفجر الحائر!

آه لو تعلم قسوة ما تفعل فيَّ.!

وتعرف كم يبكيك ضمير طاهر!

على هذا النسق يجري مداد قلمه معبراً عن ألمه.. وعن جرحه الذي لا يكاد يندمل

كل ما أسأل عنك.. يقولون بأنك إنسان وملاك

لا يمكن بالحق يقامر.. ليتك أدركت ولو بعض حنيني

يا قلباً - ما زلت أراه - ربيعاً طاهر

فلتكن الأنت. لأني كغمامة صيف عابر

قمصانك ابحث عنها. ابحث عن اشيائك!

يا شيئاً ضاع فأبكاني. من ابكاني!

من أبكى كل قناديل الشعر يكون الحاسر!!

الشعر وحده لا يكفي في بورصة الحب.. كل المصارف لا تعرفه.. كل بورصات المال لا تعترف به: شيك واحد مقبول الدفع أكثر فعالية وجدوى من عشرات الدواوين الشعرية المتخمة بالمواويل الشاعرية..

من فينا لا ينجذب إلى لبنان ببحره.. ونهره. وسحره.. يغني له: ومن فينا لا يتوجع إذا ما ألمت به شكوى:

وطن الهوى. والحب يا ألماً به

تحيا. وتفنى أمة وشباب

في أرضك العذراء كل خميلة

حفت.. وكان بها الهوى ينساب

عيناك برق في جبين غمامة

في شاطئيها منهل وشراب

بعض ملامح لبنان في عافيته.. قبل أن تسكن روح النزاع. وريح الصراع.. وقبل أن تروع صمته لغة القذائف في حرب أهلية مدمرة.

كل القبائل فيك تأكل لحمها

وجميعها لعدائها اطلاب

لبنان يا وطن الأسنة والأسى

الجرح ينزف والصخور حراب

يا موطنا الكل الشتاء ربيعه

وتقطعت بجماعة الأسباب

لن يبري الدمع الجراح وارضنا

سماح بها يتقابل الأصحاب.

لبنان استعاد شيئاً من عافيته.. وما زالت الأصابع الخفية والظاهرة تحرك أوتار مستقبله.. كان رئة صحية استثكروها علينا فلوثوها.

من لبنان الأخضر إلى الأغنية الخضراء الذي تغنى بها شاعرنا العثيمين:

يا زهرة في دروب الشمس ساهمة

ما بين روضع شعرت أطياره طربا

غدا تسيل خيوط النور دافئة..

ويفتح الفجر عينيه لمن طلبا

كم يرقص الزهر للإنسام. صافها

ضوء من الفجر كم يحلو إذا انسكبا

فعانقي صبحك المنشود. أغنية

خفضراء ترعش نصل الضوء والشهبا

أبيات وصفية ترسم بعض ملامح لشيء طال انتظاره.. لا تخلو من صراع في النهاية..

طال انتظارك. والآمال خافقة

وطال ليلك والدنيا لمن غلبا..

من يتعمق في شعر شاعرنا يلمس الحزن يغطي فضاءاته.. حتى أصله ما أن يملح حتى يغيب.. ويخيب..

الظنون التي تنور أفقي

تصنع الفجر واللقاء الأبيا

كلها كلها تراءت سرابا

لغمر الأفق والجواء الوضيا

شرعة الحب في الحقيقة وهم

شمس للأسى ظلاماً دجيا..

ماذا بقى لشاعرنا.. بل ماذا ابقى لنا لكي نأمل.. من لا حب له لا حياة له.. إن حياة بلا حب مجرد مزعة فناء..

ومن قنوط إلى آخر.. مع الأصداء المبعثة:

يا قلب مالك. والأحزان تعبدها؟

ومن خبال يسير النور والألق؟

فأنت للناس آمال مرفرفة

نشوى تموج بها الأضواء والشفق

يا قلب مالك لا تحنو على جسد

يطوف في دمه الإنهاك والفرق؟

فلليالي نصيب من نضارته

وللمصائب جزء. والأسى حرق..

اصبحت سراً لآلامي. وموقفها

تسعى لكيل غفا في أفقه انطلق.

من مأساته يأخذنا إلى مواساته.. عن أحزان قلب التي تشده إلى وثاقه وأمسى سراً لأمه.. إلى براري الحب دون قيد ولا عُقد:

يا عامراً مدن الأحبة والهوى

وقلوبهن براحتيك زهور

المعهد فيك مبدئ. ومشاعر

ورياضها للأقربين شعور

فاحت براري الوجد من أنفساها

بحر العيون بحسنهن يمور

وتكاد الحيرة تلجم فمه:

ماذا أقول وللقصائد عرشها

في ناظريك. وللنحور نحور؟!

قد يصفر الإنسان بعد شبابه

الا المنى. والحب فهو كبير

لم انس دينا اعشبت أيامها

والعمر في صبواتهن صغير

عشقوا بها السمار ملعب روضة

والسابحات على التلال تطير

ألهمتني شعري. وسحر ظلاله

لحن الوفاء إلى حماك اسير

أعدتنا إلى الحياة الحب بعد أن كدنا نفقد الأمل.. الحب بمعاقبة المواسع.. حب القلب. حب العقل. حب الخير. حب الناس..

للقلب زمن حدثنا عنه:

أقول للوجد ما قد قلت زمنا

لك الحياة وقول الصدق مقبور

لا تترك الموج يدنيني ويبعدني

روحي على سفن الإبحار مأسور

غنيت أجمل ما في الحب. أغنية

وموطنمي كله أفكاره بور

ويفسر لنا أي حب يعني:

كم أنفس بعبير الجمال عابدة

فأين سيدها؟ فالدهر موتور

والمرء يكبر أن أفعاله كبرت

معنى المواطن في الأرواع محضور

الحب في ضميره أن يأتي مجرداً لا عن خوف.. ولا عن طمع.. منزها عن أية غية تشينه.. الحب في الله ولله.. الحب للوطن.. وللقيم التي تبنى على العدالة.. والرحمة.. والمشاركة.. إنه الحب الكبير الذي يجب أن يقال من أجل كل قصيد. ونشيد..

للنهار تجار.. ولليل تجار.. تجار النهار نعرفهم بسيماهم، أما تجار الليل فحكاية أخرى:

تجارة الليل كاس بيننا عبرت

ما بعدها كل شيء بعدنا أثر

انساننا ذلك المصلوب داخلنا

نزيقه بعيون الليل ينضجر!

تلك الحكايات تمضي إثر ليلتنا

وبعدها ترقص الأشباح والصور

ليلاتك الحمر ما عادت تلاحقني

شبابها هوه الأعياد والضجر

شاخت أزاهير ذاك الحب وانطفأت

ان الخريف لبعض الحب يعتصر

الحب لن ترجع الأيام دورته

إذا تعرت به الواحات والجزر

أعطى لنا شاعرنا صالح العثيمين توصيفا موفقاً لحب الأحبة الذي ينتهي بانطفاء الأنوار لأنه يكره ضوء النهار.. والشبح شكل مخيف نفرغ لمشاهدته:

ما كنت أعلم أنني لا أعلم

شبح الهزيمة في فؤادي يحكم

تعبت مردتي وانتهت صبواتها

إن المشاعر تزفهن محرم

حلمت راياتي بها وفيالقي

ونسيت أن هزائمي لا ترحم

يا ماسحاً جرحي بآخر مثله

إن الجراح ولا قسوت ستفهم

يا أيها الشيخ الذي بفؤاده

ليل الهزائم والفؤاد المجرم

قلب الضحية في ضميرك نازف

جسد بأعماق التراب يُهدِّم

تجاهل علمه.. وكان يعلمه.. حدد أوصافه كما لو كان رساماً ينطق بريشة فنان لا يخشى الشبح..

شيئان يصعب الجمع بينهما الحب، والخريف.. استطاع الجمع بينهما داخل إطار واحد:

لا تثيري زوابعي ورياحي

وارتكيني مع الخريف أنادي

أكلت لونها الزهور وغابت

أعين كلهنَّ لون رماله

لا تثيري دانت قبر من الأهل

حديث الهوى ودمع الحداد

ودعي هذه الهنيمات تمضي

كلما قلته رؤى الميعاد

فجميع الأنوار في استراحة

وعومل الأعصار فيك ينادي

وحلت في ملاعب الأمس دنيا

كنتُ فيها الرُّجا وكنت الشادي

قطع شاعرنا بقوله كل خطيب.. خطاب ماضي وخطب حاضر.. بينهما مفاوز ونتنوءات تحول دون اللقيا..

(الصخر لا تلد الزهور) حسناً والصخر مفرد مذكر أن يقول لا يلد)..

يا زارع الأزهار في صخرة

هل تنبت الأشجار فوق الصخور

غدا تبوح الأرض عن سرها

وتكشف الأيام ما في القبول!!

ليلي طويل، والهوى موضي

وآن للأوطان روح تثور

كثير أن تعطي الصخور معنى الصلابة والصمود.. إنها الراسيات. (ومن يتهيب صعود الجبال يعشق أبد الدهر بين الحفر)

أخيراً.. مع مقطوعته (المجد للأرض)..

حقلي وسنبلتي وأرض بيادري

أمل شقيت به. فكيف يموت؟

أرض إذا شحت منابع مائها

شقي التراب بحزنها وشقيت

المجد للأرض التي تهب المنى

إن الثمار عطاؤهن القوت

والمجد للفلاح يزرع أرضه

في قبضتيه ليشرق الملكوت

قبّلت جرح الأرض قبل جراحنا

فجراحها في نبضها الجبروت

التربة المعطاء رمز وجودنا

كيف المحبة في التراب تموت؟!

مهما تكون، فلن تكون بغيرها

الأرض فجر روحها الياقوت

بهذه المقطوعة الرائعة التي تفيض انتماء ونماء وعشقا للوطن.. وخشية عليه من عوادي الزمن جاء مسك الختام مع شاعرنا المتألق صالح الأحمد العثيمين من خلال ديوانه (الشواطئ العطشى) أحسبه بهذا الذي أعطى قدم تجربة شعرية شعورية ملئها الصدق.. حمل من خلالها هما.. وقدم نغماً أصيلاً جميلاً تجدر الإشارة إليه، والإشادة به.. له على ما أعطى المزيد من الإعجاب.. والتقدير الذي يستحقه..

****

لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب «5013» ثم أرسلها إلى الكود 82244

الرياض ص. ب 231185الرمز 11321 ـ فاكس 2053338

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة