Culture Magazine Thursday  14/10/2010 G Issue 319
أوراق
الخميس 6 ,ذو القعدة 1431   العدد  319
 
جدّتي أمّ إسماعيل
محمد الحاج صالح

في أواخر أيامها انحنى ظهرُها حتّى أصبح مثل قوس، وذهب عقلُها إلى حيث تستقر عقول المصابين بالخرف، لكنها ما قطعت الصلاة، وإن كانت الأمور اختلطت عليها. قد تصلي صلاة الصبح بأربع ركعات والظهر بركعة واحدة أو خمس. وظلّ رمضان في رأسها شهراً للصيام، لكن يحدث أن تأكل ظهراً ثمّ تفطر مع الصائمين. تلك هي الجدّة أم إسماعيل.

من منّا لا يحنّ إلى تلك الأيام! كنّا نرمقها وهي تتظاهر بالبحث في جيبها عن السكر لتعطينا. نحن نعلم أن في جيبها سكراً على الدوام. ونعلم أنها تعيد الحركات ذاتها مخادعة كما لو أنّ ما في جيبها لا يطابق عددَنا.

جدّتي أم اسماعيل أرمنيّة تزوجها أخو جدّي لأمي بعد أن كبرتْ وترعرعت في بيت جدي الأكبر. جاءتْ مع «سوقيات» الأرمن لمّا ساقهم الأتراكُ بعيداً إلى قلب البادية السوريّة بالألوف. قافلة إثر قافلة. يقول الناسُ إن جدّي الأكبر حوى في بيته ولأشهر تسعين أرمنياً وأرمنية ممن نجوا.

في حزيران 1967 ازدحم بيت جدي القديم بالمدعوين على شرف أخوي جدّتي أم اسماعيل القادمين من بيروت. كنتُ ما أزال صبياً، لكنني كنت قد بدأت أعي. وكان الراديو في المضافة قد هُجِر ،ولم يُعد الرجال يتحلّقون حوله، بعد أن انْكسر كلّ شيء وانتصر اليهودُ.

مرات عدّة حظي بيت جدي بزيارات من رجال أَرمن بحثاً عن أقربائهم، لكن هذه هي المرّة الأولى التي نسمع بإخوة جدّتي أم إسماعيل. «أرشاك» و «بوغوس». لن أنسى كيف كان مرآهما بلباس يدل النّعمة والهيبة.

جاءت اللحظة الحاسمة حين رافق خالي إسماعيل «أرشاك» و»بوغوس» إلى المحرم. هناك في غرفة جدّي كانت أم إسماعيل تجلس وحيدة وهي تنود كما لو أنها تقرأ قرآناً. صرخ بنا خالي ودفعنا بيديه بعيداً. فركضت خارجاً ولطوتُ بجانب الشبّاك أسترق السمعَ وأسرق النظرَ. لم أفهم ما قِيل ولم أعِ ما يحدثُ آنذاك. لكني وأنا أسترجعُ الصورةَ الآن أراهم كتلةً من الأجساد المُرتجفة في النّشيج.

كانا يرطنان بالعربيّة. وكانت هي تَنُود وتنود وعيناها جافّتين. لا دمعا،ً ولا تعبيراً في الوجه سوى تعبير من ضياع.

أخيراً نطقت من فم مزموم:

«باقية... عند أولادي... اللي راحْ راحْ»

لحظاتٌ مشحونة،جمود، هما واقفان بلا حركة، وهي تَنُود وتنود، ثم واحداً بعد الآخر يقبّلان رأسَها، وهي تَنُود وتنود.

بعدها زارا أُختيهما عدة مرّات. ثمّ تباعدت الزيارات وانْقطعت، وازداد ظهرُ جدتي أم إسماعيل انحناءً حتى باتت تنظر من تحت. وفي السنوات الأخيرة فقدتْ بصرها، وراحت تترجم الأصوات مثل طفلة صغيرة يعجبها أنها باتتْ تعرف وتنطق، كما انْفلت لسانُها في كلام لا رابط له مُستذكرةً أسماءً وأحداثاً بعيدة بعيدة، ولتموت أخيراً في برد عام 1991حين تحلّق الناسُ من جديد حول الأخبار، لكن هذه المرّة من التلفزيون.

أوسلو
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة