Culture Magazine Thursday  18/03/2010 G Issue 302
أقواس
الخميس 2 ,ربيع الثاني 1431   العدد  302
 
امنحوه جائزة الملك فيصل العالمية وكرموه في الجنادرية
يا غازي قرأتُها سبعين مرة

إن الله - جل وعلا - قد فاوت بين خلقه فيما أعطاهم من الأعمار والأموال والأرزاق والعقول والفهوم وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة ليسخر بعضهم بعضاً في الأعمال، لاحتياج هذا إلى هذا وهذا إلى هذا؛ ولهذا فإن من رحمة الله بخلقه أن فتح لهم باب الخير والأمل؛ فيحصل لهم بذلك تأس وتسلية وتخفيف. أمر الله عباده بالمعروف، ويدخل في ذلك جميع الطاعات، وبالإعراض عن الجاهلين باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب لله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته وهو للمسلمين حرب. ومعلوم إنما يتعظ ويعتبر ويعقل أولو العقول السليمة الصحيحة.. جعلنا الله منهم بفضله وكرمه. ومَن يقرأ سورة الرعد من الآية 20 حتى 24 يجدها تشتمل على صفحات منها: (المحافظة على العهد وعدم نقضه، ووصل ما أمر الله به أن يوصل، وخشية الله ومخافة سوء الحساب، والصبر لله، وإقامة الصلاة والإنفاق سراً وعلانيةً، ودفع السيئة بالحسنة) إلى غير ذلك من الصفات الحميدة التي مَن اتصف بها فله عقبى الدار وهذا جزاؤه. والمؤمن لا يخلو من هذه جميعها أو من بعضها؛ ولهذا فإن الله أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم وجميع أحوالهم القاصرة والمتعدية. ومعلوم بالضرورة أن الله يغفر للعبد ما دون الشرك، وأن الله يقبل من عبده القليل فلينتبه لذلك. والناس رجلان: رجل محسن؛ فخذ ما عفا لك من إحسانه ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه، وآخر مسيء فمره بالمعروف، فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده ويؤوب إلى عقله فليعلم.

غازي القصيبي ذلكم العملاق في (أدبه وشعره ونثره وفكره وإدارته) من الصنف الأول؛ يحسن ولا يسيء إلى أحد، عاش وتعايش مع الحياة ومنعطفاتها، ومع هذا احتفظ بثباته ومرونته. كلما جاءته إساءة تلطف إلى المسيء وأحسن إليه وأكرم وفادته. عرفت غازي وعرفت فيه صفة نادرة جداً فلا أدري أعلمها الناس أم لم يفطنوا لها وهي سعيه إلى شيء مطلوب وغير مقدور عليه (الرغبة في إرضاء الناس) سألت غازي ذات مرة، وقلت له ما قيل عنه فرد علي قائلاً: يا هذا إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل يا أخي اعف عنه فإن العفو أقرب للتقوى فإن قال لا يحتمل قلبي العفو ولكن أنتصر كما أمرني الله، فقل له: إن كنت تحسن أن تنتصر وإلا فارجع إلى باب العفو فإن بابه واسع، فإن عفا وأصلح فأجره على الله، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل، وصاحب الانتصار يقلب الأمور، فكيف بالقيل والقال ثم تمثل قائلاً:

خذ العفو وأمر بعرف كما

أمرت وأعرض عن الجاهلين

ولن في الكلام لكل الأنام

فمستحسن من ذوي الجاهلين

هذا هو منهج غازي مع الحياة سألني عنه أحد المشايخ وكنت أظنه ينصرف عن جوابي أو يهمزه، فقلت له: غازي أخي وصاحبي ثم أردفت قائلاً:

إن للخير وللشر مدى

وكلا ذلك وجه وقبل

قال: ولكنني أسمع عن غازي أن له نزعات وشطحات فكرية، قلت له: ومن منا قليل المثالب والقادحة، ثم ويحك يا هذا أطلعت على شيء؟ فسكت، فقلت: ما قيل عن غازي يصدق عليه قول القائل:

فإني وإياكم وشوقاً إليكم

كقابض ماء لم تسقه أنامله

فتبسم ضاحكاً وقال: عظم غازي في نفسي.

غازي القصيبي: يغلب عقله شهوته وشبهته؛ فعقله أكبر من علمه. والقيادة في الإدارة والتعامل مع الناس تحتاج إلى هذا الفن وإلى هذا النوع من الناس.

قرأت قصيدة غازي المنشورة في جريدة الجزيرة يوم الأحد 21 من ربيع الأول 1431هـ 7 آذار (مارس) 2010م للعدد 13674 على صحيفة 2 وأسميتها (حسن الخاتمة)، ولعلها آخر ما كتب بتوقيع غازي وتاريخ ربيع الأول 1431هـ، (وأرجو أن يكتب وهو في عافية). لم أعارض قصيدة قط، ولكن وردت عليّ عدة تساؤلات وخواطر، منها: هل بلغ غازي السبعين أم لا؟ ولماذا روعته السبعون ولم تروعه الستون؟ وهل هذه الحالة من المعاتبة للسبعين عند غازي هدف لم يتحقق أم هو الحنين إلى حدائق الورود وماراثون الحياة والإبداع.

قرأتها سبعين مرة.. فعلاً أيقنت أن غازي اليوم غير غازي الأمس ولا أيامه الآن هي أيامه الأول، والأيام دول أيها المتنبي في العهد السعودي. قرأت قصيدته وكأني معه في ريعان شبابه وعيش كهولته.. حقاً تصوير لخلق الإنسان من ضعف ثم قوة ثم ضعف:

ماذا تريد من السبعين يا رجل

لا أنت أنت ولا أيامك الأول

فهل السبعون يا غازي منتهى العطاء أم هي بداية لمعركة جديدة من الحياة؟ وفي حال التجاوز للسبعين هل يترجح عند غازي أن العطاء باق على أصله، وإن قل؟ ولعل في القول الأخير ما يتفق مع طموح غازي.

في البيت الثاني: تعبير جميل جداً واستعارة وتشبيه وإلا فالمنية لا أنياب لها ظاهرة وإنما هو علم غيبي عند خالق الموت والحياة الذي خلق الخلق ليبلوهم أيهم أحسن عملاً.

جاءتك حاسرة الأنياب كالحة

كأنما هي وجه سله الأجل

غازي يتمثل قول الشاعر:

أرى الموت لا يبقي عزيزاً ولم يدع

لعاد ملاذاً في البلاد ومربعا

يبيت أهل الحصن والحصن مغلق

ويأتي الجبال في شماريخها معا

ثم ينتقل غازي إلى إبداع أجمل وأحكم، وهو اعتذاره عن قدرته وقوته إذا لم ينته به الأجل؛ لأن القدرة على العطاء لمَن بلغ السبعين تختلف تماماً عمّن بلغ الستين فما دون، انظر إلى قوله:

........

إذا التقينا ولم يعصف بي الجذل

وانظر إلى قوله:

.........

أنني قبل لقيانا سأرتحل

إيمان ويقين بأن الموت بيد الله، وأنه يؤمن بأن الموت ربما باغته قبل السبعين، يعيش المؤمن ومعه خصلتان الحرص وطول الأمل.. نعم غازي يقول: نحن صائرون إلى الموت لا محالة، ولا ينجو منه أحد منا، فإن لكل واحد منا أجلاً محتوماً وأمداً مقسوماً.

ومَن خاف أسباب المنية يلقها

ولو رام أسباب السماء بسلم

ما أجمل الإيمان في نفس المؤمن، يعطيه شيئاً من اليقين بأن ما كتبه الله له آت ولو اجتمع الخلق على منعه وما لم يأته مما لم يقدر لن يصيبه ولو اجتمع الخلق على الإتيان به. وهذا من الثوابت العقدية عند غازي؛ لأنه يعلم أن الله خالق السموات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر، وأنه على ما يشاء قدير، وأنه يميت ويعيد الموتى يوم القيامة.. غازي هنا يذكرني بقول زيد بن عمرو بن نفيل - رحمه الله -:

وأسلمت وجهي لمَن أسلمت

له المزن تحمل عذباً زلالا

وأسلمت وجهي لمَن أسلمت

له الأرض تحمل صخراً ثقالاً

غازي في البيت الخامس من قصيدته يصور الحياة ما قبل السبعين، وأنها تشتمل على حياة شباب فيها من الأمنيات والنضارة والجمال الشيء الجميل، وأن للمرء في شبابه طموحات وعزائم يريد أن يحقق فيها ما تصبو إليه نفسه.

في البيت الخامس وما بعده إلى ما قبل البيتين الأخيرين حياة غازي وعيشه وعيشته (عمل، أمنية، إنتاج، قدرة، عطاء)؛ فغازي هنا ينثر حياته في شيء من الإبداع، ويصور للقارئ الفارق الكبير بين سن السبعين وما قبلها، وأن الشباب له لذة ونشوة تذوب في نهاية العمر لمَن بلغ من العمر عتياً ثم يأتي التسليم لأمر الله في البيت ما قبل الأخير، وأنه ممتثل لأمره ونهيه.

تبارك الله قد شاءت إرادته

لي البقاء فهذا العبد ممتثل

غازي في هذا البيت يحاكي قول أبي مسهر:

ولا خير في الدنيا لمَن لم يكن له

من الله في دار المقام نصيب

فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها

متاع قليل والزوال قريب

ثم ينتقل غازي في البيت الأخير إلى الرجاء والأمل من الله وفي الله وحده وأنه المتصرف في الكون لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، يلوذ إلى الله في طلب الخير.. يتفق المتنبي القصيبي مع المتنبي الحسن بن هانئ أبي الطيب:

يا مَن ألوذ به فيما أؤمله

ومن أعوذ به مما أحاذره

لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره

ولا يهيضون عظماً أنت جابره

يجتمعان في طلب الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر، يلوذان بالله في طلب الخير، وتلك حياة المسلم تعلّق بالله ورجاء لما عنده وتسليم لأمره، ويفترقان في أن غازي يحمل نفساً وطموحاً أكبر فهل ينال جائزة الملك فيصل العالمية وجائزة مهرجان الجنادرية للإبداع والأدب والفكر؟ ننتظر.

د. عبدالرحمن بن محمد آل غزي عضو المجلس الأعلى للقضاء
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة