Culture Magazine Thursday  18/03/2010 G Issue 302
أوراق
الخميس 2 ,ربيع الثاني 1431   العدد  302
 
السر في الفوز بالبوكر
ناصر العُمري

عبده خال عصي على التصنيف كما هو حال كثير مما هو خارج سياقات العادي والمألوف حتى وإن (رمى بشرر) في ميدان الرواية المحلي والعربي، فأضاءه بفوز مستحق وبتكريم (البوكر) الذي تأخر كثيراً.. (عبده خال) وإن كان ممن امتهنوا حرفة السرد وعُرفوا بها.. لكنه ليس فقط الميدان الوحيد الذي حرثه، بل مؤكد أن السر في فوز عبده خال بالبوكر.. وقبل ذلك نبوغه في الرواية كجنس أدبي مرده إلى أنه (كان تجربة ووعاء وجامعة وبوتقة انصهرت فيها فنون مختلفة) طرقها وطاردها حتى أتقنها ثم خلطها وأعاد تشكيلها داخله وشكَّلت ملامحه كراوٍ وأخرجت لنا (عبده خال بعد التشكيل).. الرواية الحقيقية كفنٍ لا تهب نفسها إلا لمن يثيرها.. ومن تلمس فيه عمقاً وتمكناً.. ومن بلغ مرحلة من النضج.. ومن ألمّ بفنون عدة وأتقنها فانصهرت لتشكّل ملامح (سيد من سادات قبيلة الرواة).. وقد قيل: (لكي تكتب صفحة في فن الرواية يجب أن تقرأ ألف صفحة).. والمتأمل لتجربة (عبده) سيجده (كل متنافر وشتات ملموم).. فهو كاتب مقال يومي امتهن الرصد والكشف فأنضجه هذا اللهاث وعلمه كيف يغوص في خبايا اللحظة والراهن واليومي ليخرج منه بمادة تستحق التوقف وتستحق المتابعة.. وهو منذ مرحلة مبكرة من تجربته كتب للطفل العديد من القصص التي كانت (عمقاً وملامسة وفلسفة وتأملاً وتفسيراً) قدمها للأطفال بلغة سهلة ولعل (سبب كون عين السمكة مفتوحة على الدوام) شاهد على عمق الرؤية ونفاذ البصرة لدى الفيلسوف) (عبده).. ولأن عبده خال كان بذرة نبتت في (تراب الجنوب).. وأنضجته (غيمة مثقلة بالهموم الاجتماعية).. حيث فتح عينيه على هموم الكادحين وأطرق السمع لأناتهم.. واستمتع بتلك الأجواء التي تتعالق فيها كل المتناقضات لتشكّل بانوراما غنية حيث هموم الطبقة الكادحة وآمالهم وهمومهم وأفراحهم وأهازيجهم مع سحر الطبيعة وعنفوانها وغدرها ووحشتها وجمال كائناتها وصعوبة العيش وطعم شتفة الخبز اللذيذ ولسعات الجوع الموجعة.. وعبده خال لمن لا يعرفه هو ذلك المعلم (الذي) سكن الأحياء والأزقة بكل معاناتها وجمالها وبساطتها.. فكانت نهراً أغرق تجربة عبده خال بالكثير.. وجعلت المساقات تفيض بما يشبع الحكاية والسرد بكل ممتع ولذيذ.. عبده آمن أن في زوايا الفصول والمدارس ما يمكن أن يثري التجربة ويزيدها عمقاً ويمدها بالمزيد من الفروع الصغيرة والروافد المتناثرة فلم تغر (عبده خال) المناصب الإدارية ولم يحاول أن يخرج من تلك البيئة التي تمكنه من جعل الحكاية والسرد والتأمل والاصطياد والفلسفة والبوح عشقاً وممارسة ومصدر لذة.. ولأن عبده خال (تعلم من أطفاله الذين يدرّسهم كيف يكون سحر الحكاية.. ومتى يكون ذلك السحر.. وكيف تزداد متعته؟.. آثر أن يستمر معلماً للأطفال، ولو أغروه بغير هذا المكان فلم يبارحه، لأنه أدرك بحصافة الخبير أنها مختبر حقيقي يتعلم منه كل جديد، وفيه يمارس طقوسه ويرتدي قبعة الخبير والراصد، ومنه يصطاد الحكاية ويفلسفها ويطلقها مجدداً في أجواء المدرسة.. منتظراً رجع الصدى والتغذية المرتدة من تلك الأفواج البريئة التي لن تنافقه لبراءتها.. ومن هذه الأجواء البكر تعلم (عبده خال) كيف يكون غير المحكي والمجرد حكاية لذيذة بصبر ودأب وحنكة.. اسألوا طلاب عبده كيف كان الفعل والحرف والاسم وعلامات الإعراب؟.. حكايات لذيذة لها نهايات مختلفة ولذيذة وكيف كانت كبالونات يزدهي بها المكان وفراشات زاهية تزيده جمالاً ورونقاً وألقاً ويثري بها الذائقة الصغيرة ويدعم بها تجربته الشخصية يوماً بعد يوم.. وحينها تعاظم البناء وأصبح السور السردي عالياً وجميلاً وجاذباً.. لأن عبده لم يبرح تلك الأمكنة البكر وآثرها على ما سواها بعد أن شكّلت الفصول والحارات البسيطة والطبقة الاجتماعية السفلى مدماكاً لبناء سردي شاهق جاء أكثر انتشاراً وحضوراً تعلم (عبده) من خلال مهنته (تربية الصغار) كيف يكون طفلاً في كل حالاته.. له عينا طفل وذائقة طفل صافيتان لم تتلوث بعد بما يفسدها.. وفضَّل أن يبقى كذلك.. لذا فهو مدين لهذا الكل المتنافر بفضل كبير لأنها (صنعت) تجربة ومسيرة وعمقاً ووسعت مدى الرؤية وأهلته ليتوج مسيرته ب(جائزة البوكر).. لم أستغرب فوز (هذا العبده) لأنه حقق الشروط اللازمة للفوز.. وقد كان مستعداً ككشاف لأن حياته ومراحلها واهتماماته وممارساته وطريقة عيشه لحياته سخَّرها لتشكّل (ذاكرة غنية قادرة على إمداد قلمه وتجربته بما يمكّنه من صناعة الحلم) ففاز هو بالجائزة وبعيداً عن أي مناطقية أو إقليمية ممجوجة.. فقد فزنا معه نحن الذين نبتنا على ذات التراب (تراب الجنوب) وفاءً لتلك اللحظات التي عاشها (وعشناها) في أحضان قرى الجنوب.. هذا المعين الذي لا ينضب والمدد الذي لا ينقطع والذي يزف أبناءه نحو منصات التميز (نبارك للمشهد الروائي المحلي فوز عبده خال) لأنه انتصار لهذا المكان الذي ظلم كثيراً واتهم بفقره في هذا الحقل رغم كونه بيئة غنية ومحفزة على السرد وميداناً خصباً لإنتاج المزيد من مبدعيه متى هيأوا أنفسهم لأن يعيشوا التجربة مسبقاً واشتغلوا على إنضاجها أولاً قبل أن يدلفوا إلى ميدان السرد.. وهذا بالضبط ما فعله الأسمر النحيل الجميل (عبده خال).

المخواة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة