Culture Magazine Thursday  22/04/2010 G Issue 307
فضاءات
الخميس 8 ,جمادى الاولى 1431   العدد  307
 
المنطق عند ابن تيمية
المقام السالب في «القياس»
عبدالله بن محمد السعوي

في مقالين مضيا، تمحور الحديث عن «الحد» عند المناطقة وعن ملامح ماهية القراءة التيمية لحيثياته، والآن سيجري الانعطاف نحو الحديث عن «القياس» المنطقي في وجهه السالب وكيفية التعاطي التيمي مع معالمه. ابن تيمية أطنب في تناول نظرية الاستدلال الأرسطِى في صورتها النهائية المتجسدة في القياس البرهاني وأفاض في نقده بحسبه جزءا من ذلك المنطق الصوري الذي يشكل وحدة متكاملة يجري التعاطي معها بحسبها قانونا عاما للفعل البشري. ابن تيمية في باب القياس تناول مقامين الثالث والرابع حيث نقد الجانب السالب من القياس المتمثل في «أن التصديق لاينال إلا بالقياس» وكذلك الجانب الموجب المتمثل في «أن القياس يفيد العلم بالتصديق»

من المعروف أن لنظرية القياس ثقلها المحوري في علم المنطق وهذا ما حدا بابن تيمية إلى تكثيف الفعل التفكيكي لتلك النظرية حيث كان يعي أن تداعيها سيحدو إلى تداعي المشروع المشائي برمّته.

هذا النقد التيمي للوجه «السالب» سأرقمه نائيا عن الاسترسال كالتالي:

أولا: نقد ابن تيمية ذلك الزعم المتمثل في اشتراط القياس باعتبار أن حصول العلم محصور عليه ومربوط بالتزود بأسبابه حيث دحض تلك المنطلقات مقررا أنها ليست إلا من قبيل التحكم المحض والدعوى اللامنهجية والتي يعوزها الدليل بحسبها قضية سلبية مفتقرة إلى عنصر البديهة إذ هي ليست مما تُدرك بالبعد الفطري.

ولذا فهم «مدعين ما لم يثبتوه قائلين بغير علم إذاً لعلم بهذا السلب متعذر على أصلهم؛ فمن أين لهم أنه لايمكن أحدا من بني آدم أن يعلم شيئا من التصديقات التي ليست بديهة عندهم إلا بواسطة القياس المنطقي الشمولي» (نقض المنطق، الفتاوى 9-102).

ثانيا: نقد الاقتصار الأرسطي على مقدمتين في القياس. إذ يقرر ابن تيمية أن بالمقدور استنساخ النتيجة من أقل من مقدمتين أو أكثر، وهذا خاضع لحاجة المستدل والناس شديد، والتباين في ذلك، فثمة من تكفيه مقدمة واحدة لإدراكه لما عداها ومنهم من لا يَسُد رمقه المعرفي إلا أربع مقدمات أو أكثر. يقول ابن تيمية:»وأما قولهم: الاستدلال لابد فيه من مقدمتين بلا زيادة ولا نقصان فهذا قول باطل طرداً وعكساً، وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس، فمن الناس من لايحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بماسوى ذلك. كما أن منهم من لا يحتاج في عمله بذلك الاستدلال، بل قد يعلمه بالضرورة، ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر» (9-159)

ويقول: «ومما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزماً للأوسط. والأوسط للثالث ثبت أن الأول مستلزم للثالث. فإن ملزوم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل»(9-178-179).

ويؤكد أيضا أن «طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه، ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين»(9-184).

ويقول: «إذا كانت اللوازم منها مالزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى دليل(يقصد هنا الحد الأوسط) يتوسط بينها، فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له، وإن كان بينهما وسط فذلك الوسط إن كان لزومه للملزوم الأول ولزوم الثاني له بيّنا لم يفتقر إلى وسط ثان. وإن كان أحد الملزومين غير بيّن بنفسه، احتاج إلى وسط وإن لم يكن واحدا منهما بيّنا احتاج إلى وسطين وهذا الوسط هو حد يكفي فيه مقدمة واحدة»(9-179).

ثالثا: نقد صور الاستدلال:

قوالب الاستدلال المشائية تتمثل في قياس الشمول الآيل إلى اليقين فهو استدلال بالكلي على الجزئي (العام على الخاص) وقياس التمثيل المفضي إلى الظن وهو من باب الاستدلال بأحد الجزئين على الآخر(خاص على خاص) وقياس الاستقراء وهو إن كان تاما فمآله يقيني، وإن كان سوى ذاك فهو ظني والاستقراء هو من قبيل الاستدلال بالجزئي على الكلي (الخاص على العام). هذا وقد تناول ابن تيمية تلك الأشكال الاستدلالية من ثلاثة مناحي:

أحدها: من ناحية حصر آليات الاستدلال بالسُّبَل الثلاثة فحسب.

الثاني: من ناحية تصور المسلمين لها وإدراكهم لحيثياتها.

الثالث: من حيث يقينية بعضها وظنية البعض الآخر.

أما الأول فقد أورد ابن تيمية عليه من الاعتراضات ما جعله يتهاوى من جذوره حيث قرر أن الدليل على ذلك القانون سيعييهم الظفر به ولن يستطيعوا إلى ذلك سبيلا لأن ثمة آليات إسلامية للاستدلال كالآيات وقياس الأولى تنقض هذا الحصر المتكلف فهناك «الاستدلال بالكلي على الكلي الملازم له وهو المطابق له في العموم والخصوص وكذلك الاستدلال بالجزئي على الجزئي الملازم له بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه» (نقض المنطق، الفتاوى 9-154).

وقد أكد ابن تيمية أن حصر الأدلة بهذه الطرق الثلاثة لا يخرج عن أمرين إما أن يكون باطلا أو أن يكون لونا من الإسهاب الباعث على الملل وعلى إزهاق روح التفلسف في العقول لقاء إطالة الكلام على نحو يقلل من فرص الفهم ويضاعف وعورة الطريق على المستدل وينهك طالب الحقيقة وتستنفد جهده وتصادر طاقته وهذا لاشك ليس إلا عنصرا فاعلا في التشويش على التركيبة الذهنية بدون مبرر حيث كان بالإمكان الاهتداء إلى الحقيقة عبر المسالك المعبدة الميسورة ويشبه ابن تيمية من يمتطي صهوة ذلك الطريق المنطقي البالغ الوعورة يشبهه بذلك الشخص الذي لما سئل عن موقع أذنه ما كان منه إلا أن رفع يده جهد طاقته فوق رأسه ثم أدارها إلى أذنه اليسرى مع أنه كان من المتاح له الإيماء إلى أحد أذنيه من طريق مستقيم. ويؤكد ابن تيمية أن «طريقة القرآن هي أقوم الطرق (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) أما الطرق المنطقية فهي مع ضلالهم في البعض واعوجاج طريقهم وطولها في البعض الآخر إنما يوصلهم إلى أمر لا ينجي من عذاب الله فضلا عن أن يوجب لهم السعادة» (الرد على المنطقيين 1-302).

أما الثاني: وهو معرفة المسلمين لها فيقول ابن تيمية: «إن الناس يستدلون بالأدلة على المدلولات وإن لم يعبروا عن ذلك بالعبارات المبينة لما في نفوسهم وقد يعبرون بعبارات مبينة لمعانيهم وإن لم يسلكوا اصطلاح طائفة معينة من أهل الكلام ولا المنطق ولا غيرهم» (الرد على المنطقيين 1-246).

ومعنى كلام ابن تيمية هنا هو أن الناس يستدلون بالكلي على الجزئي وبالجزئي على الكلي وبالجزئي على الجزئي من غير أن يستعملوا قوالب الاستدلال المشائية وإنما من منطلق أفق السليقة التي جبلوا عليها حيث تجافوا عن السبل المنطقية المكتظة بالعقابيل والآليات المحدودة التي لا تتجاوز ثلاثة أبعاد للاستدلال، وانتخبوا الطرق البالغة الرحابة التي يدلف في إطارها ما صح من القواعد المنطقية وغيرها.

أما الثالث، وهو المتعلق باليقينية والظنية فإنه حينما يجنح المناطقة نحو تقرير يقينية الشمولي وظنية التمثيلي فإن ابن تيمية من الجهة الأخرى يقرر أن حقيقة أحدهما تضارع حقيقة الآخر فهذه ليست إلا هذه، فهما متعادلان وحيثما جاز هذا جاز ذاك، وحيثما حُكم بأحدهما حكم بذاك فيصدق على ذاك في السياقات المفاهيمية ما يصدق على هذا وإنما يكمن التباين -الذي نّد عن أذهانهم- في شكل الاستدلال وصورته وبالتالي فإن الاعتبار منصرف نحو محتويات مضامينهما فإن كانت تلك المحتويات تحمل في ثناياها الدلالية ما مؤداه اليقينية تحقق بها اليقين وإن لم تنطوِ حمولتها المعلوماتية إلا على ما يفيد الحكم ظنا فإنها لا تفيد إلا الظن. إذاً فحقيقتهما واحدة ويؤولان إلى مصير واحد يحدده نوعية المادة فإن كانت يقينية أفضت إلى يقين وإن لا، فلا. ولذا يقول ابن تيمية: «إن إفادة الدليل لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين» (نقض المنطق، الفتاوى 9 -199) إذاً فالاعتبار ليس بصورة القضية وإنما بمادة العلم. ويذهب ابن تيمية إلى أنْأى من ذلك حيث يقرر أن قياس التمثيل عندما تتوفر مادته على المحددات السليمة فإنه أبلغ من قياس الشمول «بإفادة المطلوب علما كان أو ظنا» (نقض المنطق 9-203).

Abdalla_2015@hotmail.com بريدة
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة