Culture Magazine Thursday  27/05/2010 G Issue 312
قراءات
الخميس 13 ,جمادى الآخر 1431   العدد  312
 
رجال من حضرموت (3)
عبدالقادر بن عبدالحي كمال

حبُّ الوطن غرسة تُغرس في الوجدان، وتُنمَّى في قلب الإنسان، فيشبُّ للوطن مُحبًّا وبالموطن شغوفا، وتراثنا العربي يزخر بنفثات الحنين إلى الوطن حتى لو كان التراب يابساً والمرعى عابساً من إخلاف النّجوم وقلّة الغيوم، يقول الشاعر متحدّثاً عن قريته التي سكنتْ شغاف قلبه:

أُحبّها والذي أرسى قواعدها

حباً يفيض إذا ظهرت آياته بطنا

يا ليتني لا أُريم الدهر ساحتها

وليتها حيث سرنا غربةً معنا

ما من غريبٍ وإن أبدى تجلُّده

إلا سيذكر بعد الغُربة الوطنا

تمنّى الشاعر ألاّ يتغرّب عن بلده ولكن للظروف أحكامها، فالجزيرة العربيّة تأتي عليها سنون مُسنتة لا تدع لأهلها ضائنة ولا ماعزة، فإذا توالت السّنون واشتدّ الجهد نشطت الهجرات، منهم من يركب البحر ومنهم من يركب الرحْل يدّرع الهجير ويخوض الدُّجَى رغبة في بسطة رزقٍ يُستعان بها على قضاء الحقوق للأهل والقرابة، وهذا هو حال الإنسان الحضرمي سار مشرّقاً ومغرّبا، وحلّ الحضارم في بلاد الغُربة وقلوبهم معلّقة ببلادهم فلا عزّة للإنسان إلاّ في وطنه وبين أهله وقرابته يُعبّر عن ذلك الشاعر حسين أبو بكر المحضار رحمه الله بقوله:

عزّي وطاني

من حيث يدّي تصل

فيها كناني

من كل قاطر وبل

فعزّته في وطنه حيث تصل يده إلى ما يريد، وفي وطنه يجد ملاذه من كل قاطر وبل. على أن الحضارم في هجراتهم لم ينسوا بلادهم "حضرموت" فقام المقتدرون منهم بواجبهم، في سبيل تنمية المكان والإنسان، فعادوا على وطنهم بفضل ما رزقهم الله، وخير البر ما صفا وكفَى. وللحضارم تاريخ مُغرق في القدم فهم إلى كندة يرجعون وإلى السّكون والسّكاسك (1) ينتسبون، وحسب الحضارم فخراً أن منهم الملوك: معدي كرب بن الحارث بن عمرو، وقيس بن معدي كرب بن معاوية والملك حجر بن الحارث بن عمرو والد الشاعر امرئ القيس الذي قال لما رأى دمعة تنساب على خد رفيق دربه:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيْقن أنّا لاحقان بقيصرا

فقلتُ له: لا تبك عيناك، إنّما

نُحاول ملكاً أو نموت فنُعذرا

وُلد امرؤ القيس بن حُجْر في نجد ونشأ في كنف أبيه، وتقول بعض المصادر (المؤتلف والمختلف للدارقطني) إن حُجْر بن معاوية آكل المرار هو والد الشاعر امرئ القيس، بينما يذكر المؤرخ الفقيه السيد عبد الله بن محمد بن حامد السقاف في تاريخ الشعراء الحضرميين أن حُجْر بن عمرو آكل المرار جدٌّ لامرئ القيس الشاعر فهو امرؤ القيس بن حُجْر بن عمرو آكل المرار، ويذكر صاحب الأغاني ترجمات عدة منها: أنه امرؤ القيس بن حُجْر بن الحارث الملك بن عمرو بن حُجْر آكل المرار مستنداً على رواية العلامة الأخباري محمد بن حبيب في كتابه المحبّر. وأحسب أني أميل إلى الأخذ برواية ابن حبيب لأنه أورد بأن تبّعاً أبا كرب عندما سار يريد العراق استعمل حُجْراً بن عمرو آكل المرار على معدّ، فأحسن السيرة فيهم، وغزا بربيعة البحرين، وبلغ زيادا بن الهبولة بن عمرو بن عوف القضاعي غزاته، فأغار زياد على مملكة آكل المرار وسبى امرأته هند بنت ظالم، فلمّا نزل زياد منزلاً وأجّج ناراً قالت له هند: والله لن يدع حُجْرٌ طلبك وهو شديد الكَلَب (أي شديد الحرص على الشيء) سريع الطّلب، والله ما أبغضت ذا نسمة قط بُغضي له، ولا رأيت رجلاً أحزم منه. فلم يستمع زياد لتحذيرها، وبلغت القالة حُجْراً فأقبل في جموعه وباغت أصحاب ابن الهبولة فانهزموا وقتل زيادا وجعل هنداً بين فرسين حتى قطّعها تقطيعا، ثم أنشد قصيدته التي يقول في مطلعها:

لمن النار أوقدت بحفير؟

إلى أن يقول:

إنّ مَن غرّه النّساء بشيءٍ

بعد هندٍ لجاهلٌ مغرورُ

حُلوة القول واللسان ومُرٌّ

كلُّ شيءٍ أجَنَّ منها الضمير

كل أنثى وإن بدا لك منها

آية الحبّ حُبُّها خيثعور

ولما مات حُجْر قام بالأمر بعده ابنه عمرو، وملك بعد عمرو ابنه الحارث الذي غزا الحيرة وله من الأبناء حجر وشرحبيل وسلمة وغلفاء، فاحترب شرحبيل وسلمة بعد موت أبيهما في يوم الكُلاب وقُتل شرحبيل واعتزل حُجر بن الحارث بن عمرو الحرب، وهو الذي قتلته بنو أسد، وكان ابنه امرؤ القيس الشاعر مترفاً، مالت نفسه للنّساء والخمر، فكره ذلك منه أبوه فأرسله إلى دمّون فتطاول ليله، وفي هذا يقول:

تطاول الليل علينا دمّون

دمّون إنا معشرٌ يمانون

كان امرؤ القيس مفرّكاً، وصفته زوجته الطائية بأنه سريع الإراقة بطيء الإفاقة. فلمّا بلغه قتل بني أسد لملكهم حجر آلى ألا يشرب خمراً ولا يدّهن حتى يدرك ثأره وأنشد:

أرقتُ لبرقٍ بليلٍ أَهَلْ

يُضيءُ سناه بأعلى الجبلْ

أتاني حديثٌ فكذّبته

بأمرٍ تزعزع منه القُللْ

بقتل بني أسدٍ ربّهم

ألا كل شيءٍ سواه جللْ

فأين ربيعة عن ربّها؟

وأين تميم وأين الخولْ؟

وشعره وإن اشتمل بالبداوة إلا أنه بديع المعنى رقيق النسيب حسن الديباجة، ومعلّقته:

قفا نبك من ذكرى حبيبٍ ومنزل

بسقط اللّوى بين الدّخول فحومل

من أجمل المعلّقات، أجاد فيها وطوّل ووصف الخيل بقيد الأوابد، ووصف النّساء بالمها والظّباء. وهو رأس فحول شعراء الجاهلية، طوّف امرؤ القيس في القبائل وطمعت فيه ذؤبان العرب، فخرج إلى السموءل في تيماء ورهن أدرعه عنده ثم يمّم نحو الحارث بن أبي شمّر الغساني ومن ثم إلى قيصر ومكث في جواره حتى نمّ عليه رجل من بني أسد بأن امرأ القيس غويٌّ عاهر، فبعث إليه بحلّة مسمومة، فلما لبسها أسرع السم فيه فسقط جلده، ولهذا سُمّي بذي القروح، فلما وصل أنقرة وعلم أنّ منيّته حانت بجوار قبر امرأةٍ عند سفح جبل يُقال له عسيب قال مخاطباً صاحبة القبر:

أجارتنا إنّ المزار قريب

وإنّي مقيمٌ ما أقام عسيبُ

أجارتنا إنّا غريبان هاهنا

وكلُّ غريبٍ للغريب نسيبُ

ومات هناك بعيداً عن موطنه شريداً عن أهله:

ولو أني هلكتُ بأرض قومي

لقلتُ الموت حقٌّ لا خلودا

ولكنّي هلكتُ بأرض قومٍ

بعيداً عن دياركمُ شريدا

وللحديث بقية إن شاء الله

***

(1) قبيلة السكون بطن من كندة، تنسب إلى السكون بن أشرس بن ثور، وكذلك السكاسك بطن من كندة، ينسبها النسابون إلى أشرس بن ثور بن مرتّع الكندي.

الرياض
/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة