Culture Magazine Thursday  30/12/2010 G Issue 327
قراءات
الخميس 24 ,محرم 1432   العدد  327
 
وحي القلم لإمام البيان العربي «4»
مصطفى صادق الرافعي (1298 - 1356هـ 1881 - 1937م)
عبدالفتاح أبومدين

دعا قاسم أمين إلى تمزيق البرقع وقال: «إنه مما يزيد في الفتنة، وأنَّ المرأة لو كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلقها -على الغالب- ما يرد البصر عنها» ويعقب الأستاذ الرافعي على ذلك بقوله: فقد زال البرقع، ولكن هل قدّر قاسم أن طبيعة المرأة منتصرة دائمًا في الميدان الجنسي بالبرقع وبغير البرقع، وأنها تخترع لكل معركة أسلحتها، وأنها إن كشفت برقع الخزّ فستضع في مكانه برقع الأبيض والأحمر»..

ويعقب الأستاذ الرافعي حول ستر وجه المرأة فيقول: «وزعم أن «النقاب والبرقع» من أشد أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة، لأنَّهما يُخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول: فلانة، أو بنت فلان، أو زوج فلان كانت تفعل كذا، فهي تأتي كل ما تشتهيه من ذلك تحت حماية البرقع والنقاب.. فقد زال البرقع والنقاب، ولكن هل قدَّر قاسم أن المرأة السافرة ستلجأ إلى حماية أخرى، فتجعل ثيابها تعبيرًا دقيقًا عن أعضائها، وبدلاً من أن تُلبس جسمها ثوبًا يكسوه، تلبسه الثوب الذي يكسوه ويزينه ويظهره ويحركه في وقت معًا، حتى ليكاد الثوب يقول للناظر: هذا الموضع اسمه... وأنظر هنا... وأنظر ها هنا... ما زادت المدنية على أن فككت المرأة الطيّبة ثم ركبتها في هذه الهندسة الفاحشة!».

والأستاذ الكبير الرافعي ينتقد دعاوى قاسم أمين إلى السفور الذي يقود إلى الرذائل بزوال ستر المرأة الذي هو ستر المجتمع المسلم، والمجتمع غير المسلم الذي تعرى كان ذلك عليه وبالاً وخزيًا وانهيارًا، حيث هبط إلى مستوى البهائم..

ويمضي أستاذنا الرافعي في تفنيد جنوح قاسم أمين الفاضح لأنَّه أجرم في حق المجتمع المسلم، قال الرافعي ساخرًا: «وأراد قاسم أن يعلمنا الحب لنرتبط به الزواج معنا، فلم يزد على أن جرأنا على الحب الذي فر به الزوج منّا، وقد نسي أن المرأة التي تخالط الرجل ليُعجبها وتعجبه فيصيرا زوجين، إنما تخالط في هذا الرجل غرائزه قبل إنسانيته... وكثيرًا ما تكون المسكينة هي المذبوحة! وقد انتهينا إلى دهر يُصنع حُبه ومجالس أحبابه في» هوليود»، وغيرها من مدن السيما.. فإن رأى الشاب على الفتاة مظهر العفة والوقار قال: بلادة في الدم، وبلاهة في العقل، وثقل أي ثقيل! وإن رأى غير ذلك قال: فجور وطيش، واستهتار أي استهتار! فأين تستقر المرأة ولا مكان لها بين الضّدين؟»..

ولعلي من أبلغ ما قرأت في الرد على قاسم أمين هذا التحليل البارع وهذه المجابهة القوية التي لا ثغرة فيها ينفذ منها محاج ليماري في باطل مما جنح إليه قاسم من جرم في أعز ما ينبغي حمايته من الفساد في قيم مساسها يقود إلى فساد في الأرض، وتخريب لشطر مهم جدًا في المجتمع المسلم حين يعرّض به ليصبح سلعة رخيصة تباع وتشترى في ظلال الحرية في أعز ما ينبغي الحفاظ عليه في كينونة الحياة الدنيا، فإذا ضاع شرف المرأة فماذا بقي في البيت المسلم والمجتمع المسلم!؟

ونمضي مع هذا النقد التحليلي القوي الصادق، يعنى به رجل في حمية الإسلام والحفاظ فيه على قيمة هي ركن شامخ في كيان الأسرة لا يفرط فيه إلا من لا غيرة له على الملة، لأنَّ هدم ركن ذي حساسية عالية جدًا وهو عفاف المرأة الذي إذا انهار انهار المجتمع ليصبح منحلاً بالتفريط فيه، الذي بدونه لا تصبح شيئًا لأنَّها أضاعت قيمتها وقيمها ولم يبق لها شيء يُعول عليه إذا انهار!

وراعني هذا العرض والدفاع بمحاج براهينه لا يطعن فيها إلا سفيه منحل لا خلاق له!

قال كاتبنا الكبير الأستاذ الرافعي في مرافعته أمام قضاة عدول، هم أهل الغيرة على الإسلام وكياناته كلّها التي لا يتسامح في جانب منه، لأنَّ ذلك تفريط حقيق بالحماية الصادقة الحقة.. قال الدفاع على سنان قلم يحمي ويحرص القيم: « أخطأ قاسم في إغفال عمل الزمن من حسابه، وهاجم الدين بالعرف، وكان من أفحش غلطه ظنه العرف مقصورًا على زمنه، وكأنه لم يدر أن الفرق بين الدين وبين العرف، هو أن هذا الأخير دائم الاضطراب، فهو دائم التغير، ولا يصلح أبدًا قاعدة للفضيلة، وها نحن أولاء قد انتهينا إلى زمن العري.. وأصبحنا نجد لفيفًا من الأوروبيين المتعلمين، رجالهم ونساءهم، إذا رأوا في جزيرتهم أو محلتهم أو ناديهم رجلاً يلبس في حقويه تبانًا قصيرًا كأنه ورق الشجر على موضعه ذاك من آدم وحواء، إذا رأوا هذا المتعفف بخرْقة.. أنكروا عليه وتساءلوا بينهم: من... من هذا الراهب؟

ونسي قاسم أن للثياب أخلاقًا تتغير بتغيُّرها، فالتي تفرِّغ الثوب على أعضائها إفراغ الهندسة، وتُلبس وجّهها ألوان التصوير، لا تفعل ذلك إلا وهي قد تغير فهمها للفضائل، فتغيرت بذلك فضائلُها، وتحولت من آيات دينية إلى آيات شعرية.. وروح المسجد غير روح الحانة، وهذه غير روح المرقص، وهذه غير روح المخدع؛ ولكل حالة تلبس المرأة لبسًا فتخفي منها وتبدي، وتحريك البيئة لتتقلب، هو بعينه تحريك النفس لتتعثر صفاتها.. وأين أخلاق الثياب العصرية في امرأة اليوم، من تلك الأخلاق التي كانت لها من الحجاب؟ تبدّلت بمشاعر الطاعة والصبر؛ والاستقرار والعناية بالنسل، والتفرغ لإسعاد أهلها وذويها، مشاعر أخرى، أولها كراهية الدار والطاعة والنسل، وحسبك من شر هذا أوله وأخفٌّه»! وقد سحرني المدافع بأسلوبه وأدلته؛ حتى إني مضيت معه متنقلاً عبر صفحات كتابه، لأنَّ حديثه حديث قاض يقرأ كتاب أحكام فيه السلوك الذي ينبغي أن تقتدي به المرأة ألمسلمة؛ التي أراد قاسم أمين أن يجني عليها ليتحمل إثمها ما عاشت ومن تبعها!..

وأريد أن أختم هذا الدفاع من حديث القاضي والمتحدث، فقال: لقد أغفل قاسم حساب الزمن في هذا أيضًا، فكثير من المنكرات والآثام قد انحل منها المعنى الديني، وثبت في مكانه معنى اجتماعيّ مقَّرر، فأصبحت المتعلمة لا تتخوف من ذلك على نفسها شيئًا، بل هي تقارفه وتستأثر به دون الجاهلة، وتلبس له «السواريه»، وتقدم فيه للرجال المهذبين مرة ذراعها ومرة خصرها»..

وقال: أقرأت «شهرزاد»؟

إن فيها سطرًا يجعل كتاب قاسم كلّه ورقًا أبيض مغسولاً ليس فيه شيء يقرأ».

قالت شهرزاد المتعلمة، المتفلسفة، البيضاءُ البظَّةُ، الرشيقة، الجميلة للعبد الأسود الفظيع الذميم الذي تهواه: ينبغي أن تكون أسود اللون، وضيع الأصل، قبيح الصورة؛ تلك صفاتُك الخالدة التي أحبها..

«إن كتاب وحي القلم، في أكثر مقالاته ينبض بالعاطفة الوجدانية، وهي باعثة الشعر قبل أن تكون باعثة النثر؛ كما أن اعتماد الرافعي على الصورة البيانية في أكثر أفكاره، جعل لأسلوبه نمطًا وحده في النثر العربي؛ وكنت أتمنى أن يكثر من الأمثلة، ومع ذلك فقد قدم المقال الأمتع.. وأكتفى ببعض ما قاله عن المصيف في الإسكندرية بحرًا ونساءً، لأنَّ ما قاله عمّا سماه الربيع الأزرق، يعني البحر الأبيض شعر خالص، بل هو من أبرز أنماط الشعر..

يقول الرافعي: «نظرت إلى هذا البحر العظيم بعيني طفل، يتخيّل أن البحر قد مليء بالأمس، وأن السماء كانت إناءً له، فانكفأ الإناء فاندفق البحر، وتسرّحت مع هذا الخيال الطفليّ الصغير، فكأنما نالني رشاش من الإناء.. لطف الجمال صورة أخرى من عظمة الجمال، عرفت ذلك حينما أبصرت قطعة من الماء تلمع في غصنٍ، فخُيِّل إلى أن لها عظمة البحر؛ لو صغر فعُلّق على ورقة.. في لحظة من لحظات الجسد الروحانية، حين يفورُ شعر الجمال في الدم، أطلت النظر إلى وردة في غصنها زاهية عطرة، متأنقة متأنثة، فكدت أقول لها: إنت أيتها المرأة أنت يا فلانة».

وقال: «نقوم دنيا الرزق بما تحتاجه الحياة، أما دنيا المصيف فقائمة بما تلذه الحياة، وهذا هو الذي يغير الطبيعة ويجعل الجو نفسه هناك جو مائدة ظرفاء وظريفات».

ولن استطرد في الاقتباس من موضوع الربيع الأزرق.. ولا أريد الوقوف على موضوع آخر كتبه الرافعي، كان عنوانه «لحوم البحر» وقال: إنها قصيدة ترجمت عن الشيطان، قالها عن رمل الإسكندرية عن تلك الرؤى الكاسية؛ وعن معانيها مكشوفة ومغطاة، وعن طباعها بريئة ومتهمة، لن أمضي في قراءة « قصيدة الشيطان»، ذلك أن الشياطين حولنا عبر كل حركاتنا، نعود بالله منها ومن وسوستها وخنسها!

ونقرأ للرافعي قصيدة عنوانها: «احذري»، وهي «ترجمة عن أحد الرموز».. قال فيها من مقال مستفيض: احذري أيتها الشرقية، وبالغي في الحذر، واجعلي أخص طباعك الحذر وحده»! احذري تمدن أوروبا، أن يجعل فضيلتك ثوبًا يوسّع ويضيق، فلبس الفضيلة على ذلك هو لبسها وخلعها.. احذري فنّهم الاجتماعي الخبيث الذي يفرض على النساء في مجالس الرجال، أن تؤدي أجسامهن ضريبة الفن. احذري تلك الأنوثة الاجتماعية الظريفة، إنها انتهاء المرأة بغاية الظرف والرقة إلى الفضيحة.. احذري أن تخسري الطباع التي هي الأليق بأم أنجبت الأنبياء في بلاد الشرق.!» أم عليها طابع النفس الجميلة، تنشر في كل موضع جو نفسها العالية. فلو كانت الحياة غيمًا ورعدًا وبرقًا، لكانت هي الشمس الطالعة.. فلو صارت الحياة قيظًا وحرورًا واختناقًا، لكانت هي فيها النسيم الذي يتخطر.. أم لا تبالي إلا أخلاق البطولة وعزائمها، لأنَّ جداتها ولدن الأبطال.. احذري السقوط، أن سقوط المرأة لهوله وشدته ثلاث مصائب في مصيبة.» سقوطها هي وسقوط من أوجدوها، وسقوط من توجدهم! فيد العار تقلّب الحيطان، كما تقلب اليد الثوب، فتجعل ما لا يُرى هو ما يُرى».

«والعار حكم ينفذه المجتمع كلّه.. فهو نفى من الاحترام الإِنساني».. وقد يكون لأحد الفضلاء أن يكتب فصلاً عن الشاعر الرافعي، متجهًا غير الوجهة التي اتجهت إليها، فينظر في دواوينه الشعرية الثلاثة، ويختار منها روعة أسرة في دنيا الشعر العمودي..

وقد أهمل الرافعي دواوينه الشعرية التي بدأ بها مجده الأدبي، لمعارك أدبية وصولات نقدية ملأت حياته! وليس لنا أن نهمل كنزه الأدبي الرصين.

المفسّر المحدّث ولا يخفي على السامع والقارئ أن الرافعي نشأ في بيت والده كبير قضاة الشرع بالدقهلية، وبالمنزل مكتبة حافلة بأمهات الكتب الدينية، من فقه وحديث وتفسير وأصول وتوحيد، وقد أتيح له أن يقرأ منها كثيرًا، ولعله لو توجه إلى البحوث الدينية لأتى بخير كثير، ولعل الله قد اصطفاه للأدب العربي، ليكون المدافع عنه حين تعاورته السهام، وتطلب المهاجم الغيور، الصادق الإيمان..

وفي كتاب إعجاز القرآن تفسير شائق لآيات من الكتاب العزيز؟ وفيه كذلك موضوع البلاغة النبوية وملحق بالكتاب شرح أدبي رائع لشذور من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.. وحيث إني قد جعلت هذا البحث خاصًا بمقالات وحي القلم، فإن مختاراتي من هذا الكتاب وحده.. القلم، الذي اقتطفت منه في افتتاح هذا الحديث، وهو حديث ماتع شغل صفحتين من مجلة الرسالة، فقد قال عزام في خاتمة مقاله الرائع الذي أنصف فيه «وحي القلم»، وبعد: فهذا وصف الروض في كلمات، لو كانت أزهارًا ما مثلته؛ ونعت البحر في سطور، لو كانت أمواجًا ما صورته؛ فأما الروض في بهجة جماله، والبحر في روعة جلاله؛ فهما ما خطه الرافعي، فإن شئت فقل: جنّات في صفحات، وعباب في كتاب، وإن شئت فقل إنه العالم في سطور قد انتظم، سمّاه الرافعي «وحي القلم».ذلك الفضل من الله».

***

(1) المنتخب من أدب العرب 1:55 ومحمود بسيوني في مجلة الرابطة العربية 18 ربيع الأول 1357 والمقتطف 73: 352 وتراجم علماء طرابلس 211 في آخر ترجمة عمه عبدالحميد بن سعيد الرافعي ومعجم المطبوعات 926 والفهرس الخاص- خ وتعليقات عبيد.

(2) - ص 208 وما بعدها، وحي القلم - الجزء الأول

(3) ص 106 من « شهرزاد « للكاتب الأستاذ توفيق الحكيم.

/td>

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة