Culture Magazine Thursday  03/03/2011 G Issue 333
فضاءات
الخميس 28 ,ربيع الاول 1432   العدد  333
 
جنون القذافي
عبدالله السعوي

سيرته تعكس حياة حافلة بالتجاوز والطغيان وفصول قصة حُكمه تعبرعن تاريخ كالح السواد وتفصح عن شخصية تعيش حالة من العمى، بل العَمَه السياسي الحاد بفعل افتقارها لمقومات القيم الحاكمة للسلوك العقلاني الرشيد.

القذافي الذي يتقلد منصبا أكبر وبكثير من مقاييسه العقلية يبدو دائما بشكل يثير الاستهجان، فتصرفاته مبنية على ضد كل ماهوعقلي وانضباطي وهوفي كل أحواله يحاول الالتفاف على ذاته ليغيب معالم حقيقتها وليبدو أكبروبكثيرمن حجمه. التلون سمة جوهرية في شخصيته فكثيرا مايتلبس أشكالا مغايرة لحقيقته، إنه يبدو واحدا متعدداً! فتارة تراه رسميا أبروتوكوليا يكسوه الوجوم وتتوارى لديه مساحات التلقائية وتارة يبدو كمراهق مهلوس لاتختلف حركاته عن الحركات الصبيانية.

هناك نرجسية مقيتة تتوقد في أعماقه تجعله يقدم نفسه بوصفه سوبراستار، بل سيد المشهد وبطل المَشاهد بامتياز، بل يتجاوز ذلك فهو- في تصوره المعتوه- يتجاوزسقف البشرية لأنه يرى في نفسه قيمة ربوبية وأنه يمتلك الكثير من المواصفات التي تؤهله لألهنة الذات المهووسة بالقتل والتشريد وقصف الأبرياء ولذلك ليس من المستغرب قوله ذات حضورٍ للأنا الطاغية:» أناالمجد لا تفرط فيه ليبيا ولاتفرط فيه الشعوب العربية والإسلامية و..و..».

ظهر في حديثه الهذياني الأخير في أداء خطابي بائس وقد تقمص شخصية القائد المهيب محاولا الظهور بمظهر المحنك الملهم الذي يحمل روحه على كفه وحاول أن يبدو مرهوب الجانب فأوعد وهدد وأرعد وأزبد وانخرط في نوبة من الصراخ الطفولي معتقدا أن هذا الهراء كاف لبث الرعب وفض الجموع المحتشدة حَرص على أن يبدوعلى هذا النحو في الظاهر، لكن المضمر مختلف تماما حيث انكشف للمُشاهد - حتى المشاهد البسيط - نوعية المغيب في الأعماق وتساقطت القشرة الرقيقة وتداعى الغلاف الشفاف حتى ظهر القذافي على حقيقته خاليا من الأقنعة وبدا- في هذا الخطاب الانتحاري - كما البالون المجوف حيث الذات مقهورة مدحورة يائسة بائسة فاللون ممتقع والكف ترتعش والأنفاس تلهث والفرائص ترتعد وتفاصيل الهلع ترتسم على صفحات الوجه وبدا مندهشا فاغرا فاه، غيرمصدق لماجرى وهذا ماجعله يعزو تصاعد وتيرة الاحتجاج إلى العقاقيرالمخدرة! هذا الاتهام ليس اتهاما عابرا بل هو رمز دال يكشف ماهية التركيبة الذهنية الخاوية إلا من البلادة والخواء وعدم القراءة الدقيقة للأمور.

إنها لحظات الاحتضار تُفقد التوازن وتتعرى فيها الذات المفعمة بالرتوش المزيفة والألوان الخادعة. إنهااللحظات الفاضحة على مستوى المكنون النسقي.

كذلك تبدو طبيعة الطاغية المستبد، إنها بنية نفسية منهارة خائرة من الداخل ولاتتجلى حقيقتها - غالبا - إلا في أوقات الأزمات ولذلك ومع أن القذافي قد فتكت به عوامل الرعب، والذعر قد استبدّ به إلا أنه استمات في أن يداريه بادعاء نقيضه، يدّعي أنه يسعى للقتال حتى آخرقطرة من دمه وهو مختف في جحره محاط بحرسه مدجج بسلاحه - يقاتل من ؟!- يقاتل من وراء جدر

وإذا ماخلا الجبان بأرض

طلب الطعن وحده والنزالا

الطاغية المستبد - والقذافي صورة حية هنا - لايكف - كنوع من الاستهتار والإمعان في إذلال الإنسان - عن الحديث عن العدل والديمقراطية والحوار و الاصلاح و تلمس احتياجات المواطنين و رفع مستوى التنمية و ضرورة توسيع المشاركة الشعبية ولذلك يسميها الجماهيرية الليبية هذا على المستوى النظري! لكن على الصعيد التطبيقي فليس هناك إلا الحديد والنار ولجم الأفواه والبطش والتنكيل، فالطاغية القذافي يعتبرهذه المفردات تشكل طعنا في سلطته وتهديدا لامبراطوريته وشقا لعصا الطاعة وتمردا من الشودر- وهم كافة طبقات الشعب - يجب على البراهمة - القذافي وأسرته - قمعه والتحرك الفوري لإزالته حتى ولو كان ذلك عن طريق سحق المتظاهرين العزل وسفك دمائهم واستباحة أرواحهم ومجابهتهم وبمنتهى البشاعة بمضادات الطائرات وألوان الذخيرة الحية على نحو يجلي حجم استشراء النفَس العدواني وهكذا يتعامل من يصف نفسه بالأب القائد مع أبناء شعبه يتعامل بشكل وحشي مسعور فضح مايستكن في أغواره فظهرت تلك الروح المسعورة وتبرجت القيم المتوحشة وبات القذافي بسلوكه الهمجي المنحط في غاية الخسة والنذالة وبدا أمام العالم رمزا للشخصية السيكوباتية الإجرامية التي لا تنتشي إلا بإبادة الإنسان وإراقة دمه وجعله أثرا بعد عين.

القذافي يملك مهارة لصوصية فائقة فهو أكثر من أربعين عاما وهو يعتلي سدّة الحكم، أكثرمن أربعة عقود وهو جاثم على صدورهم يستولي على مقدرات هذا الشعب ينهب ويسرق ويلتهم كل خيرات هذا البلد النفطي المعطاء فهو لوحده يملك من الثروة مايكفي لغذاء الوطن العربي بأكمله ولمدة عقود تلك السرقة تُمارس في الظل تُباشرعند حلول العتمة وفي ظل أجواء محاطة بالكثير من السرية والتكتم الشديد ثم بعد كل هذا العمر المديد وبعد أن سرق ليبيا وداس كرامة أهلها يريد أن لايرحل إلا بعد أن يحرق ليبيا عن بكرة أبيها!.

إنها قمة الإجرام فهذاالطاغية الذي طغى وبغى وتجبر واستكبر و عاث في الأرض فسادا لايكتفي بالتهام كل خيرات البلاد والتفنن هو وأسرته في البذخ المعيشي، بل وبكل وقاحة صار يُصادر حريات الناس ويضيق عليهم أرزاقهم وبقبضة أمنية حديدية تحصي على البشر أنفاسهم حتى استحالت ليبيا إلى سجن كبير حيث الشعب كله يرسف في قيود العبودية وحينما بلغ السيل الزبي وفاض الكيل وتصاعدت حدة الاحتقان فبدت منهم بوادر الاحتجاج هنا جُن جنونه ففقد رشده وعزب عنه صوابه إنها سيكولوجية الطاغية فهو يسرق ويسرق حتى يستمرئ السرقة ويبيت يعتقد أن مايقوم به هو حق من حقوقه المشروعة وليس في ذلك مايدعو للتساؤل أو يحدو للاستفسار؛ بل إن الذي يبعث على الاستغراب هو التساؤل ذاته! والذي يدعو للدهشة هو الاعتراض على من لايُسأل عما يفعل وهم يُسألون!. السؤال هنا إجحاف بكبرياء السلطة التي تجري فيها الدماء الزكية المقدسة!.

الطاغية يتقلب هو وعصابته في ألوان من النعيم ومباهج الحياة بينما مواطني ليبيا الشرفاء مكبلون بالضرائب مغرقون بالديون البنكية ويعيشون في بيوت من الصفيح وتحت خط الفقر المدقع كثيرمنهم يفتقد أدنى متطلبات الحياة أما نخبة الفكر وسدنة الثقافة وصفوة المجتمع الأحرار فهم مابين مهمش معزول عن مواقع التأثير أومغيب في الزنازين أوخارج الوطن الليبي تبتلعهم الغربة ويقاسون مرارة الاغتراب وهو يتعاطى مع كافة أطيافهم بوصفهم الشر المحض الذي يجب تطهيرالبلد من أدرانه!.

إنها مهزلة بكل المقاييس أن تكون حياة ومستقبل ذلك الشعب الواسع العريض مرهونة بمزاجية عجوز أبله لايمكن التنبؤ بمايفعل.

لقد عاش الشعب الليبي حالة طويلة من الظلم والضيم وعانى الأمَرّين من التهميش والازدراء فهو شعب مغيب مصادر الإرادة ومع أنه يعيش في بلد النفط إلا أنه محروم من أبسط متطلبات العيش الكريم فليس له أدنى قيمة ولا وزن ولا اعتبار، نعم كان يبدو عليه الهدوء لكنه هدوء يخفي نوعا من الغليان المحتدم الذي على فوهة الانفجار.

إن احتدام النار في جوف الثرى

أمر يثير حفيظة البركان

كان من المفترض - ولأجل امتصاص احتقان الشارع - أن يعلن - ملك ملوك أفريقيا!- عن اصلاحات حتى ولوكانت شكلية، بل وحتى ولوكان الإصلاح يتم بحركة سلحفائية لكنه:

يقضى على المرء في أيام محنته

حتى يرى حسنا ماليس بالحسن

إنها المفارقة فدولة الجماهير يستفزها احتشاد الجماهير، يربكها اصطفاف الجموع، يرعبها تدفق الأمواج البشرية، فالشارع هنا يشكل البعبع المخيف حيث الطوفان الجماهيري عنما يبدأ بالهدير فإن هذا هو المؤْذِن بتداعي النظام الشمولي.

وحاصل القول: إن ماجرى من مجازر دموية وانتهاكات أخلاقية لا يجوز بحال من الأحوال التغاضي عن مرتكبها ولا يجوز مطالبته أبدا بالرحيل بل لابد من تكثيف الملاحقة القانونية له والقبض عليه ومحاكمته دوليا وسحق كرامته ومن ثم إعادة كل شيء إلى نصابه واسترداد الحقوق المسلوبة واستعادة الثروة الليبية المصادرة من قبل ميليشيا النظام الكرتوني الهش.

Abdalla_2015@hotmail.com بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة