Culture Magazine Thursday  03/03/2011 G Issue 333
قراءات
الخميس 28 ,ربيع الاول 1432   العدد  333
 
رحلة البدء والمنتهى
بين الشاعر والشاعر الناقد
د. مقداد رحيم *

من المقولات التي تتردد في عالم النقد الأدبي أنَّ ناقد الشعر شاعر فاشل، أو بعبارة أخرى يمكن أن يكون الشاعر الفاشل ناقداً ناجحاً للشعر، والحافز على القول بمثل هذا هو أنَّ الشاعر يتقن آلية النظم، ويعرف جيداً قواعد الشعر بوصفه فناً من فنون القول المحفوفة بالضوابط والمهيِّئات، ويصدر عن تجربة وخبرة في النظم ومواجهة النص الشعري.

والنقد فن من فنون القول كذلك، وإذا كان الشاعر موهوباً فإن على الناقد أن يكون موهوباً أيضاً، فإذا غلبت موهبة النقد على الشعر لدى الشاعر فسيكون بلا شك ناقداً ناجحاً، والأكثر منه نجاحاً هو الشاعر الناجح، وهذا ما يُحيلنا إلى الشاعر عبد العزيز بخيت في كتابه النقدي «جماليات القول الشعري في ديوان رحلة البدء والمنتهى» وهو دراسة شاملة في تجربة الشاعر السعودي الكبير عبد العزيز خوجة، صدرت طبعته الأولى في العام 2010 عن دار كنوز المعرفة في جدة.

قسم الناقد عبد العزيز بخيت كتابه على تمهيد وسبعة فصول، تناول في التمهيد بشكل موجز عام عنوان الديوان ودلالاته من خلال تجربة الشاعر، ومنهج الكتاب في دراسة شعره، بينما خصص الفصول الستة الأولى بدراسة ستة دواوين من شعره، وجعل الفصل السابع الأخير دراسة عامة في الجوانب الفنية والجمالية في شعره.

ففي الفصل الأول اكتشف الناقد أن الشاعر عبد العزيز خوجة قد استنهض الصورة الوجدانية العذرية للعشق والغزل ووصف المرأة مما كان يعج به الشعر العربي القديم، واستوحي من خلال ذلك مشهد المرأة والحب وما إليهما، من خلال لغة شعرية شفافة لينة رقيقة غير مبتذلة وهي تحاور الجسد دون الروح، وتناول شعري لا يخلو من الوهج الصوفي البريء الهادئ، فكأنه وسيلة اكتشاف للنفس وجوهرها النقي وطاقاتها الدفينة.

ويحاول الناقد أن يتناول ذلك كله من خلال ثلاثة محاور، أولها ما يتعلق بالمرأة والزمن، حيث يؤكد أن نظرة الشاعر للمرأة ليست محكومة بالزمن الحاضر، وإنما هي امتداد تاريخي ومصيري في آن، لوجود المرأة الحي والفاعل في الحياة منذ أو وجدتْ وستبقى ما بقيت الحياة، فهي بذلك رمز للوجود والخلود.

أما المحور الثاني فقد جعله الناقد منصباً على الربط الواعي بين المرأة الطبيعة بعناصرها المختلفة من لدن الشاعر، لما بينهما من وشائج فيصطبغ شعره بألوانٍ من الرقة واللطف ورهافة الحس، ثم الربط من لدن الناقد نفسه بشكل ذكي بين تقلبات الطبيعة من حول الشاعر وعلاقته بالمرأة وتقلبات أحاسيسه تجاهها، بينما خصَّ المحور الثالث بالحديث عن المتخيل المطلق لعالم المرأة، حيث تلتئم الجزئيات لتشكل الصورة الكلية التي تمنح المرأة قيمتها الروحية خارج حدود الجسد/ وهو مما يحرض على ولوج مساحات شاسعة من الخلق الشعري.

أما الفصل الثاني فقد جعله عبد العزيز بخيت خاصاً بالحديث عن مرحلة القلق والسراب في حياة الشاعر عبد العزيز الخوجة من خلال تحليله الدقيق لديوانه «هبوات الزمان»، فيقرر أنَّ نبرة القلق الحزين والحيرة تعلو فيه، كما ينمو لديه إحساس دفين باللاجدوى من أي فعل يملأ فراغ الروح وفضاء القلب، بينما يتجسد الإحساس بالاستسلام لسطوة القدر، ويُرجع ذلك إلى عمق تجربة الشاعر وغناها في هذه المرحلة، ومواجهته للتساؤلات العميقة بشأن الحياة والمجتمع، وتخليه عن مرحلة الشباب المضطرمة بالرغبات والنزعات.

ويشير الناقد بدقة إلى ما يصاحب هذه المرحلة لدى الشاعر من ولوع بالذكريات والحنين إلى الماضي، وقد أصبح الزمن سريع الخطى، والعمر يتقدم بخطى واسعة، فكأن الزمان اختصر الفصول فلم يعد سوى شتاء وحسب.

وللسفر والترحال حديث ذو نكهة أخرى، فهو حديث يعج بالأمكنة المتعددة والذكريات المتشابكة، والثقافات المتصارعة، والتجارب الخالدة المؤثرة، فكان ديوان الشاعر «منادح الغربة» والفصل الثالث من هذا الكتاب موئلاً لهذا الحديث، بدءاً بالمكان المقدس «مكة المكرمة» وهو مكان ولادة الشاعر، حيث التطلع إلى عوالم الأمكنة الأخرى وما تؤول إليه مما ذكرناه، وانتهاء بالمكان المقدس نفسه، هرباً من الصخب والضجيج والتلوث.

ويرى الناقد أن الشاعر خوجة لا يجد بداً من حيلولة المرأة في حله وترحاله، ومن كونها جزءاً من المكان حيث تشع فيه الحب والجمال معاً، بل الرغبة في التماهي فيه، والانتساب إليه.

وانطلاقاً من هذه التجارب كلها تتشكل لدى الشاعر قدرة على الارتفاع بالجزئيات إلى مستوى شمولي كما يؤكد الناقد في الفصل الرابع وديوان «شطآن الأمان»، حيث رؤية العالم والأشياء برؤية أكثر نضجاً «وهذا متشكل من واقع فكري، وغنى في التجارب ومزيد من التأمل العميق في الحياة وأشكال الانفعال بها وطرق التعبير عن ذلك، لأن الانتقال من التجزيئية إلى النظرة الكلية دليل عافية فكرية، مؤشر حضاري بارز»، كما يؤكد الناقد، ويشير كذلك إلى أن الشاعر صار يميل في هذه المرحلة إلى استخدام الرمز الموحي، وقوة الحنين إلى أحضان الطفولة.

كما يرى ميل الشاعر إلى افتراع موضوعات جديدة، ويلتمس إليها أساليب فنية تلائمها، فضلاً عن وضوح ملامح التجديد في لغته الشعرية.

وعلى وفق تجربة الشاعر التي أخذت تتعمق شيئاً فشيئاً، فقد حاول الدخول في كتابة القصيدة الحديثة الحقيقية، واستخدام تقنيات الحداثة فيؤسس بذلك للطور الأهم في تجربته الشعرية كما يؤكد ذلك ناقد شعره في الفصل الخامس من الكتاب، ويرى أنه انتقل في هذه المرحلة من النظر في خارج الذات إلى النظر في داخلها، ويقول «إنّ حدود هذا الخارج يصنعها الدّاخل وحده. وبتعبيرٍ آخر: إنّ كل العناصر الخارجية كموضوعاتٍ بعيدة عن ذات الشّاعر عبد العزيز خوجة، لا تكتسب أهمية، إذا لم تتمظهرْ عبر مرآة الذّات، وإذا لم تتشكّل بناءً على نداء الدّاخل، وذلك للقيام بالمهمّة الجماليّة وحدها. الشّاعر هنا لا يدخل في تفاصيل الخارج، ولا يتوسَّعُ كما كان في التركيز عليها، بل يكثّفها وينطلق من إخضاعها لمصفاةٍ داخلية أو ل (فلترٍ) داخليّ إذا جاز التّعبير، لنرى هنا أنّ الذّات هي الأهمّ، ولكنها ليست الذّات الأنانية، الفردية، بل ذاتٌ تتعدّد وتكثر، وتُوجِزُ داخلَها كلَّ العالم بمُجرَياته وأحداثه وتفاصيله»، ويرى أن تجربة ديوان أسفار الرّؤيا، نموذجٌ مثاليٌّ للعلاقة بين القصيدة والعالم من منظار شعريّ خالص.

وقد وضع الناقد اسم «بوح الفراق» للفصل السادس ليستوعب تجربة الشاعر المنصبة على الانكفاء على الذات، وفاعلية البوح الوجدانية التي تستند إلى الفراق في هواجسها الداخلية الكامنة في ذات الشاعر، ويقع هاجس الموت، وهو الفراق الأبدي، في الصميم منها، وهو يفارق حبيباً أو رفيقاً أو صديقاً عزيزاً، فترتبط تجربة الشاعر الإبداعية بالتعدد والتنوع والتناقض والجدل، وليس بالراهن الزائل.

أما الفصل السابع الأخير فقد جعله المؤلف مسرحاً لدراسة الجوانب الفنية واللغوية والأسلوبية في شعر الشاعر عبد العزيز خوجة، وهنا تتجلى قدرة الناقد عبد العزيز بخيت على استبطان تجربة الشاعر الفنية بالدقة التي تتيح له دراسة الجوانب النفسية التي تتساوق باستخدامات الشاعر للإيقاعات المختلفة.

قسم الناقد هذا الفصل على محورين أساسيين هما «الوزن والإيقاع» وقد درس من خلاله الأوزان التي استخدمها الشاعر مؤكداً أنه استعمل البحور الخليلية من خلال القصائد المقفاة، وشعر التفعيلة من خلال الشعر الحر، مع نزوع الشاعر إلى تجاوز الأنماط التقليدية والتعامل مع الإيقاع بروح منفتحة، وتعلقه بالأوزان الرشيقة القصيرة، والأوزان الصافية، كما لاحظ «رغبة الشّاعر في تحقيق انزياحاتٍ إيقاعيةٍ جديدةٍ، أو منطلقةٍ من أصلٍ ما، تطوّره وتثريه. وهذا يحقق الخروج من رتابة الوزن وجموده، وفق التدفقات الانفعالية المتحركة داخل الشّاعر، أي أن الوزن لا يصبح إيقاعيّاً ما لم يكن صورةً حقيقة عن اضطرام المشاعر وصخبها، أو هدوئها وانسيابها، في داخل الشّاعر. وهو يؤمن أن الإيقاع حركةٌ داخلية وليس وزناً وتفعيلات فقط».

أما المحور الثاني فقد تطرق فيه الناقد إلى آلية التناص في شعر عبد العزيز الخوجة، محاولاً إيجاد الجذور التاريخية لقصائده مع الاحتكام للقرآن الكريم أو الحديث الشريف أو الموروث من الشعر العربي القديم، فضلاً عن حوادث التاريخ ووقائعه، وهو مما يدل على ثقافة الشاعر ومحاولته إكساب شعره طرافة وغنى، كما يدل، بلا شك، على قدرة الناقد على تحليل النص بشكل دقيق واستنطاق جميع جوانبه، وذلك من أهم أدوات الناقد للوصول إلى دواخل النص الأدبي وما وراءه.

إن الناقد عبد العزيز بخيت دلَّ من خلال كتابه النقدي هذا على قدرة نقدية جديرة بالإشارة والاهتمام، كما استطاع باقتدار واضح أن يرسم صورة جلية ناصعة لتجربة واحد من أهم شعراء مكة التي هو أدرى بشعابها.

* شاعر وناقد وباحث أكاديمي عراقي مقيم في السويد migdad25@hotmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة