Culture Magazine Thursday  05/05/2011 G Issue 340
سرد
الخميس 2 ,جمادى الثانية 1432   العدد  340
 
قصة قصيرة
حلم يتحقق!
روزميري تمبرلي
-

ترجمة - أحمد عثمان البسام

في ليلة باردة من ليالي ديسمبر، وفي صالة الاحتفالات التي ساد فيها الدفء، وعبق جوها برائحة التبغ، وتزاحمت تحت سقفها سحب من دخان سجائر الحاضرين، جلس (توم) هادئاً منتظراً دوره للكلام.. كان يحدق في خوان المائدة التي جلس عندها، والناظر إليه يدرك أن الأفكار تزدحم في رأسه الكبير ذي الشعر الكث الذي غزاه المشيب، وذلك من نظرته الثابتة العميقة من عينيه السوداوين، والابتسامة تبدو على شفتيه، ورغم إجهاده الشديد وهو في السبعين، إلا أنه اليوم يشعر بالسعادة والحيوية!

إنه يذكر كيف وصل إلى عمله هذا الصباح، وكيف عانى الأمرين وهو يشق طريقه وسط تلك الثلوج المتراكمة، وأنفاسه تتلاحق في الريح الباردة.. كان يشك في استطاعته حضور الحفل التوديعي الذي يقيمه له زملاؤه الليلة بمناسبة تقاعده، وذلك بسبب ما يحسه من تعب، إلا أن انهماكه في العمل أنساه ما أصابه، كما أن العشاء اللذيذ بعث الدفء في جسمه، وجعله يشعر بالجرأة والنشاط.. إنه سوف يعود إلى بيته بعد نهاية الحفل، وسينتهي معه كل شيء، وهناك في البيت يمكنه أن يمضي أيامه سعيداً برفقة زوجه الطيبة، وسوف تكون أيامه القادمة كلها إجازة، وسيصبح من اليوم سيد نفسه، وسيجد أمامه مستقبلاً كله راحة وطمأنينة.. لقد سعد بحياته وهو يعمل، ولقد آن له أن يتمتع ويسعد بالسنوات القليلة الباقية من عمره!.. التقاعد! بعض الناس يخشاه، أما هو فسعيد به.. سوف يكون لديه وقت يقضيه بجانب زوجته الوفية.. وقت ينصرف فيه إلى مزاولة هوايته المفضلة: النجارة.. وقت.. ولكن صوت عريف الحفل قطع عليه سلسلة أفكاره، وهو يقول:

والآن.. وكآخر دليل على حبنا للسيد (توم جيرارد)، وكتذكار لسني عمله المدهش معنا، وبرهاناً على تقديرنا الذي نكنه نحوه، يسرنا أن نقدم إليه هذا التذكار الصغير تعبيراً عن احترامنا له جميعاً!.. وبين الهتاف والتصفيق، قام (توم)، فتقدم منه مدير المعمل نفسه ووضع بين يديه علبة صغيرة مغلفة بورق زاهٍ.!

إن (توم) يعرف ما تحتويه العلبة، إذ قد سئل من قبل عما يفضله هدية بمناسبة تقاعده، ومع ذلك فقد أسرع يفتح العلبة وهو فرح كفرح الطفل بهدية العيد..!

ثم نظر إلى رفاقه ذوي الوجوه الودودة المستبشرة، يقول لهم:

- أيها السادة لن أحدثكم طويلاً، فالشيوخ ثرثارون ولكن في الوقت الذي أشكركم فيه على هديتكم الرائعة هذه، أود أن أخبركم لماذا اخترتها هي بالذات، دون سواها:

كما لا يخفى على أكثركم أنني بدأت العمل هنا قبل ست وخمسين سنة، حينما كنت في الرابعة عشرة من عمري، ولم أكن وحدي آنذاك، بل كان معي زميل في مثل سني، اسمه (جيم والاس)، وكنا نطلق عليه لقب (المقاتل)، لأنه كان دائماً مستعداً للدخول في عراك مع أي إنسان، وكان لكل منا: (المقاتل) وأنا، أمنية عزيزة هي أن يحصل على ساعة حقيقية تصبح ملكه وحده، ساعة جيب ذات سلسلة، كهذه الساعة التي أهديتمونيها الآن، ولكن لا (المقاتل) ولا أنا استطاع تحقيق أمنيته، غير أني واثق من أن (المقاتل) لو علم أنني حصلت عليها أخيراً، فسوف يكون سعيداً، لأن الحلم تحقق لواحد منا على الأقل، إذ من النادر أيها الرفاق، أن يحقق إنسان حلمه وهو في السبعين! أشكركم جميعاً.

وما إن أنهى كلمته حتى أحس بالزهو، فقد كانت رائعة، وإلا لما هتف له الجميع!

وبعد ذلك، وبينما هو في طريقه إلى بيته، سأله رفيقه (بل):

- ولكنك لم تخبرني: ماذا جرى لصاحبك (المقاتل) هذا.. أم أنه نزح من هنا؟!

أجابه (توم) بهدوء وفي نبرة حزينة:

- مات..!

ثم أردف يقول وكأنه يحلم:

- يا له من شيطان صغير مسكين.! كان صبياً نحيفاً ضئيل الجسم كالقزم، تكسو رأسه خصلات من شعر أحمر تبهر العين، أعتقد أن إحساسه بضآلة حجمه كان السبب في (شقاوته) الزائدة عن اللزوم.. ذات ليلة، اصطدم مع فريق من (الأشقياء) الصغار، رآهم يؤذون ولداً صغيراً، فانتصر له، فكان بينه وبينهم عراك مرير، انتهى بأن طرحوه أرضاً، فأصيب في رأسه، ثم نقل إلى المستشفى فمات فيه..

لقد قامت ضجة حول الحادث، ولكن بعد التحقيق كان الموت (قضاءً وقدراً) هو القرار الأخير الذي اتخذوه! وهكذا فإن (المقاتل) لم يسعده الحظ في الحصول مثلي على ساعة جيب، طالما حلم بالحصول عليها!.

ثم دس الساعة في جيب معطفه، وهو يودع رفيقه (بل)، وانطلق نحو بيته!

وفيما كان يسير بحذر ومشقة في الثلوج، سحب قفازيه من جيب معطفه، ودس فيهما أصابعه المتجمدة، ثم أسرع قليلا، وأخيراً رأى بيته والنور ينبعث من إحدى نوافذه، واستطاع أن يرى خيال زوجته يتحرك أيضاً، ثم دخل بيته في لهفة وكأنه عاشق، فأقبلت عليه زوجته فقبلته قائلة:

لا بد أن كلمتك كانت رائعة.. أليس كذلك؟!

جداً.. جداً.. أنظري إلى الساعة التي أهدوها إليّ:

وأدخل يده وهي ترتعش في جيب معطفه، ولكنها خرجت من جيبه فارغة فامتقع وجهه، فسألته زوجته:

ماذا جرى؟ أتراك نسيتها هناك؟

فقال وصوته يرتجف!

فقدتها.. فقدتها!!

وأحس تماما بأنه مريض، وأن القشعريرة في بدنه، ثم تذكر جذبه لقفازيه من جيبه، فقال:

- هي الآن وسط الثلوج في الطريق من هنا حتى المعمل.. أنا ذاهب للبحث عنها! ولكن زوجته اعترضته قائلة:

- - لن تقدر على الخروج في مثل هذه الطقس.. سوف يقضي عليك!

- وفي هذه اللحظة، دخلت ابنته (ألن) عائدة من السوق، فأخبرتها أمها عن ساعة أبيها الضائعة، فما كان منها إلا أن أسرعت خارجة للبحث عنها!

- قال لها أبوها:

- لن تجديها.. إبرة في كومة من القش!.. يا لله، ما أسخفي حتى أعيرها كل هذه الأهمية، ولكن! وهنا شرق بدموعه!

- قالت زوجته:

- سوف أحضر لك كوباً من الشاي!

- وبعد نصف ساعة، وفيما هما يحتسيان الشاي في صمت حزين، دخلت (ألن) بوجنتين متوردتين، وعينين متألقتين كلؤلؤتين, ورفعت يدها بالساعة وهي تقول:

- ها هي يا أبي.. كانت تحت الثلج، تكاد تكون مدفونة!

- فصاح أبوها في غمرة من الفرح الطاغي:

- ساعتي!.. ساعتي..

- قالت: (ألن) وهي تعّبر عن سعادتها أيضاً بالعثور على الساعة.

- إنني في غاية السرور يا أبي.. حقاً إنها بديعة!

- قال أبوها:

- كم أنت (شاطرة) يا ابنتي، إذ وجدتها!

- قالت (ألن):

- الحقيقة يا أبي، لست أنا التي وجدتها.. بل الذي وجدها صبي صغير، مضحك نحيف الجسم، ذو خصلات من الشعر لم ترَ عيني حمرة أشد منها!

- فسألتها أمها:

- وهل هو من بلدتنا؟! أو لم تسأليه عن اسمه؟!

- قالت (ألن) وهي تضحك:

- بلى، سألته! ثم أردفت تقول: وما زالت تضحك.

- تصور يا أبي.. رغم صغر سنه وضالة حجمه، فقد قال لي وهو يربت بيده على صدره بتحدٍ:

- أنا .. (المقاتل)!!

-

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة