Culture Magazine Thursday  06/10/2011 G Issue 349
فضاءات
الخميس 8 ,ذو القعدة 1432   العدد  349
 
العقاد الذي لا يموت!
عبدالله العودة

هو عينه: عباس محمود العقاد.. الأديب والمفكر المصري الكبير الذي قال في كتاب «حياة قلم» بأن أقرانه يوم كان صغيراً كانوا يقولون : «كل الناس إلا عباس».

بالفعل.. فمع أن هذا الكاتب الكبير ترك عشرات الكتب ومدونات ضخمة في شتى فنون المعرفة والعلم في مراحل مختلفة من تاريخه وعمره، وعلى أنه كتب عن نفسه كتابين: «حياة قلم» وكتاب «أنا» الذي جمع من مقالاته عن نفسه.. إلا أن تلاميذه وأحبابه أبوا إلا أن يكتبوا عن حياتهم وتجربتهم الخاصة معه وشيء من أمزجتهم وخيالهم الذي لا يمكن للعقاد أن يفعله؛ فكل الناس إلا عباس.

الأستاذ القدير «أنيس منصور» كتب كتاباً رائعاً عن العقاد وصالونه «في صالون العقاد كانت لنا أيام» ومع ذلك الكتاب الممتع الذي تنقل معي في أماكن متفرقة من الأرض.. أغرقني في المعرفة والحدث والفلسفة.. كتب فيه عن العقاد وعُقدِه.. وحبه وكرهه.. وعن لينه وعنفه.. وعن غيرته الشخصية والحقد الخفي الذي يكنه لكل أديب كبير أو عمل أدبي بارز..وعن علاقاته مع أقرانه وأساتذته.. عن النديم وسعد زغلول، ثم عن توفيق الحكيم وطه حسين وعبدالرحمن بدوي وإبراهيم المازني وإسماعيل صبري وأحمد شوقي وغيرهم.. وكتب أيضاً عن العقاد «الخاص» الذي لا يراه إلا أنيس منصور وحده.. وفي هذا السياق شدني العقاد الذي لا يعرفه إلا أنيس منصور!.

العقاد المتوفى سنة 1964م خلف وراءه ما يكفي لمعرفته والحديث عنه، وما يكفي من أصدقائه وعلاقاته لمعرفة شخصيته. وبقَـدَرٍ محض كان الأستاذ أنيس منصور أحدهم.. وكان لاتجاهه الوجودي وميله للفكر الفلسفي الذي تبناه عبدالرحمن بدوي في ذاك الوقت أثراً في علاقته بالعقاد.. الذي لا يدع فرصة إلا سخر فيها من عبدالرحمن بدوي -حسب رواية أنيس منصور طبعاً-.

المهم: في ذلك الصالون المشهود.. توثقت صلة صاحبنا الأستاذ أنيس منصور بالعقاد.. ومنذ ذلك التاريخ وهو يتذكر كل شيء عن العقاد؛ جلسته.. وقفته.. نَفَسه.. تفاصيل الحياة الغريبة.. وربما خيالاته.. وأوهامه.

«في صالون العقاد كانت لنا أيام» يتحدث الكاتب في أكثر من 660 صفحة ليس عن ماكتبه العقاد فهذا معروف مدون بل عن ماقاله وأحس به وفعله.. وربما فكر به العقاد.. في عمل جميل.. ولكنه ياللحسرة ليس وثيقة كافية.. لأن علماءنا في توثيق الروايات يشددون على حديث الآحاد فإذا انفرد الراوي بخبر أسموه «غريباً».. فإذا كان ممن يهم في حديثه ولا يفرق بين العلم والحلم قالوا: «صدوق يهم» فإذا كان يكثر من السند العالي لينفرد به دون اقرانه ودون الناس جعلوا ذلك قرينة على نكارة أحاديثه.. ووقفوا أمامها وقوف المتفحص الذي يقلب الخبر على عقله.. وسمعه وقرائن الأدلة والأحوال فيعرف صدق الخبر من كذبه، و»السند العالي» هو أن يكثر الشخص من الرواية عن إمام كبير يقربه إلى صاحب الخبر الأصلي.

منهجية العلماء في معرفة الأحاديث ليست استطراداً مبتذلاً في هذا السياق بل هي ذريعة جيدة لتحكيم العقل والسياق والقرائن في الروايات.. فالروايات الضخمة عن العقاد.. والأحاديث الشفوية الطويلة له التي تمتد لصفحات عراض في كتاب الأستاذ أنيس والذي يريدني أن أقتنع بأن العقاد قالها ليست فقط غريبة على العقل بل وعلى السمع.. فالأحاديث الغريبة والمشتهرة تكون معروفة متداولة بين الناس لا ينفرد بها شخص واحد.. يكتبها في مدونته الخاصة لينقلها بعد عدة عقود في صفحات طوال.. يخلط معها كيف فكر العقاد.. وكيف نطق.. وحك رأسه.. ووضع رجلاً على الأخرى.

وبعد هذا الكتاب الضخم الجميل.. لا يزال الأستاذ أنيس منصور يكتب بشكل دوري عن الأستاذ الكبير العقاد في الصحافة اليومية.. متذكراً أحاديث أخرى عن العقاد الذي يأبى أن تنتهي قصصه، وعن العقاد الذي تتجدد أحداثه بقدر تجدد خيال الأستاذ أنيس منصور، وعن العقاد الذي قابله في الشارع فقال له كذا وكذا، وصادفه في مكتبه، ورآه في كل مكان كالعفريت الذي يخرج من حيث لا تشعر به ويراك من حيث لا تراه ويفاجِئك حيث لا تتنظره.

العقاد.. الكبير الذي نعرفه جميعاً.. والحكيم، و عبدالرحمن بدوي، وطه حسين، والمازني، وزكي مبارك كلهم جميعاً.. لدى الأستاذ أنيس ما يحكيه كل يوم عنهم من غير أن يمل وأن يقص حكايا شخصية انفرد به.. فحسن الحظ قاده وحده لمقابلة العقاد بالصدفة، والصدفة نفسها قادته لأن يصادف توفيق الحكيم في سوق، ومرة أخرى في الشارع، وثالثة قادت الأستاذ أنيس لأن يرافق طه حسين لوحده وأن يتحدث معه عن كل شيء.. وذلك الحديث نقله الأستاذ منصور على مدار فصول في كتابه وفي بعض كتبه الأخرى ولا يزال يتذكر منه شيئاً جديداً بين فينة وأخرى.. ولدى الأستاذ أنيس قدرة فائقة على قول ماقيل ومالم يقل.. وما فكر به الأخرون.. بالخصوص الكبار أمثال العقاد والحكيم والمازني وطه حسين وبدوي ومالم يفكروا به.. وربما على خطرات أنفسهم وخلجاتهم الخ فية وحبهم الذي لا يعلمه أحد غير الواحد الأحد.

ومع كل صباح يوم جديد أقفز إلى الصحافة اليومية لأرى كيف يكون العقاد بقلم أنيس منصور وكيف تتحول به الحياة.. وكيف لا يزال تروى عنه الأساطير العذاب، فالعقاد المتوفى 1964 يأبى الأستاذ أنيس منصور إلا أن يروي عنه عشرات الحكايا الجديدة التي ينفرد بها ويرويها لوحده ويتذكرها فجأة بعد قرابة نصف قرن على وفاة العقاد.. فذلك العقاد الميت من نصف قرن لم يرق للأستاذ أنيس منصور إلا أن يراه حياً.. فالعقاد.. وقصصه.. وحكاياه لا تموت!.



aalodah@hotmail.com * أمريكا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة