Culture Magazine Thursday  09/06/2011 G Issue 345
فضاءات
الخميس 8 ,رجب 1432   العدد  345
 
وقفات "العلي" أمام "مرض اللغة وشلل الفكر"
علي الدميني
-

يقارب «محمد العلي» في كتاباته بشكل عام ومقالاته القصيرة مشكلة التخلف الفكري العربي، من عدة مستويات، لكنه يتوقف أمام أبرزها في وجهة نظره، وهو تلازم مرض اللغة بتوليد شلل الفكر، حيث يرى أن اللغة القاموسية هي التي تقود الفكر إلى اجترار أمراضها بدلاً من أن يقودها الفكر للخروج من أسر كهوفها القديمة.

ويوضح ذلك في مقالة بعنوان (أزمتنا اللغوية)، حين يستهلها بالتأكيد على أن «اللغة هي المؤثر المهيمن الأول في صوغ ذهنية الفرد ووجدانه ورؤيته للكون... ولكن كيفية استخدام اللغة وتحكمه في السلوك الإنساني..هو ما يجب الوقوف عليه طويلاً.. لأن استخدام اللغة هو الفاصل بين فكرة شخص وفكرة شخص آخر، بل هو الفاصل بين أمة وأخرى».

ثم يربط التغير الاجتماعي بعلاقته باللغة، بقوله: «نحن نعرف أن التغير الاجتماعي تغير مستمر لكننا لا نعرف أو أننا نتجاهل ما ينتج عن ذلك من أشياء كثيرة.. من أهمها: تغير دلالات المفردات اللغوية والمفاهيم.. الأمر الذي يؤدي تراكمه بالضرورة إلى انزياح السياق المعرفي.. لأن السياق المؤثر في سلوكنا اللغوي والفكري والوجداني.. سياق قديم.. إنه سياق صِيغ منذ قرون.. وهذا معنى ما يجهر به بعض مفكرينا من تحكم الأموات في الأحياء.. إذ كيف يواجه الإنسان الحاضر فيضان الحياة من حوله بسياق ذهني مات زمنه وأصحابه شبعوا موتاً» (كلمات مائية - 322).

وقد أشار في إحدى محاضراته (مفهوم التراث) إلى أن لغتنا لغة قاموسية جامدة وليست لغة تاريخانية تتطور مع الزمن، ومشكلة اللغة ليست في نحوها أو صرفها، ولكنها تكمن في مرجعية التعريف القاموسي لمفرداتها، التي بقيت ثابتة عبر الزمن، لذا يرى أن التفسير أو التأويل أو التعريف الذي يقارب ثقافتنا التاريخية والاجتماعية، وفق حمولاته الذاتية من الثقافة واللغة القاموسية هو السبب الكامن خلف تخلفنا، وأنه «السبب الأكبر في كل تفسير للموضوعي بالذاتي، ورفض كل جديد لا يحمل رائحة القبور وسراب الخرافة» ( كلمات مائية - ص 120).

ولعل قارئ كتابات «العلي» سيلحظ اهتمامه البارز بموقع اللغة في منظومة التفكير والتطور الحضاري، في الكثير من محاضراته ومقالاته، صريحاً في العنوان أو مضمراً في النص، (مثل: اللغة والهوية، ومشكلة التعريف، والتفسير، وأزمتنا اللغوية، والإرادة واللغة، ومرض اللغة، وجدار اللغة، وقيادة اللغة ،..الخ)، وقد عبرّ عن ذلك بقوله: «لقد تحدثت كثيراً في زوايا متعددة سابقة، عن العشوائية في سلوكنا اللغوي ومن ثم في سلوكنا الفكري والعملي.. ولو كنت صبوراً وذا موهبة تأليفية، لصنفت أكثر من كتاب في هذا الموضوع، ولكن ماذا أصنع وأنا أعتقد اعتقاد نازك الملائكة بأن ( الصبر تلك فضيلة الموتى)؟».

ولإضاءة هذه الفكرة المركزية في كتاباته عن «اللغة» نورد بعض تجلياتها فيما يلي:

مشكلة التعريف:

«حين يعرَّف مفهوم في زمن ما، في ظروف معرفية ولغوية محددة، يستمر هذا التعريف مستقراً في أذهان الناس، في حين أن المفاهيم يحكمها قانون التطور المعرفي وقانون التطور اللغوي كذلك (...).

فالمفردات لا تبقى على حال وضعها الأول القاموسي بحيث يصدق عليها ما يسمونه (التعريف اللفظي) بل هي تتطور عن طريقين: طريق المجاز وطريق العلاقات في الجملة. ولذلك أصبح الشعر الحديث عسير الفهم، لأن المفردات فيه انزاحت عن معناها القاموسي، فأصبح تعريفها اللفظي متخلفا عنها.

(....)

ومعنى ذلك أن التعريف لا بد أن يتطور هو الآخر وإلا أصبح بلا معنى، أو على الأقل متخلفاً عن المفهوم وعن الهدف..بل إن أذهاننا أيضاً تتوقف عند القرن الرابع الهجري، وبذلك تصبح خارج العصر وخارج الزمان والمكان» (كلمات مائية - ص 117).

وفي مقالة أخرى نشرها في جريدة اليوم في 7-1-1989م يستشهد في هذا السياق بما قاله - بشجاعة مبكرة - الأصمعي من أنه:

(كان للعرب كلامٌ على معان فإذا تبدلت تلك المعاني لم تتكلم بذلك الكلام، فمن ذلك قول الناس اليوم:

ساق إليها صداقها، وإنما كان هذا يقال حين كان الصداق إبلاً وغنماً.. ومن ذلك قول الناس اليوم قد بنى فلان البارحة على أهله، وإنما كان هذا القول لمن كان يضرب على أهله في تلك الليلة قبة أو خيمة وذلك هو بناؤه).

و يؤكد الكاتب بعد ذلك على أن «الأصمعي هنا يُشير صراحة لا ضمناً إلى أن المعاني هي التي تؤثر في الألفاظ، وهي التي تلدها، وهذا بخلاف ما كان معروفاً من بعده من أن (المعاني مطروحةٌ في الطريق).. إن الألفاظ هنا هي التي يمكن أن تطرح في الطريق».

ولعل هذه الرؤية تفسر جانباً من أسباب انحياز «العلي» أديبا وشاعراً (منذ 1965م وحتى اليوم) إلى تجربة التجديد والتخطي التي سارت فيه القصيدة الحديثة، وإلى تجذير موقفه الحداثي، إبداعاً وموقفاً فكرياً جديداً.

اللغة وتطور الفكر:

في مقالة بهذا العنوان يحضر موضوع اللغة ومكانتها كرافعة للتقدم أو كمعيق له حين يناقش فيها بعض آراء المفكر القومي «ساطع الحصري» عن دور اللغة في تكوين الأمة. فالحصري يقول: «إن أس الأساس في بناء الأمة وتكوين القومية هو وحدة اللغة ووحدة التاريخ.. فاللغة تكوّن روح الأمة وحياتها، والتاريخ يكون ذاكرة الأمة وشعورها».

ويحاوره كاتبنا: «أنا مع الأستاذ الحصري في أن أساس الأمة إنما يقوم على اللغة، لكن لا بالمعنى الذي قصده وهو أن اللغة روح الأمة وأن التاريخ شعورها، فهذا كلام طوباوي..»

ويحدد مأخذه على هذا الرأي، الذي لا يهتم بضرورة تطور اللغة كاستجابة لتطور الفكر في حياة الأمة الناهضة في هذا العصر، بقوله:» الذي غاب عن ذهن الحصري شيء واحد ومهم هو تلازم اللغة والفكر، تلازم الجدال الدائم بينهما.. بحيث تكون اللغة متطورة بحسب الفكر والوعي، أما حين نعتبر أن اللغة (روح الأمة) فمعنى ذلك أنها ثابتة وأزلية، بل وغريزية، وهذا هو خلاف الواقع..

فانفصال اللغة عن الفكر كارثة نعيشها دون شعور بها، وهذا ما سبب لنا سلب الإرادة والأوطان وحقوق الإنسان، وباختصار (الحرية)»

(كلمات مائية – ص 209-210).

مرض اللغة

يستمر في تعميق رؤيته لأهمية دور اللغة في تطور الفكر أو إعاقته، وبالتالي تقدم المجتمع أو تخلّفه، بما جاء في زاويته المعنونة بـ «مرض اللغة» والتي يقدم لها بتساؤل ساخر حول اختياره لهذا العنوان بدلاً من الحديث عن قضايا أكثر إلحاحاً مثل، التمزق الاجتماعي، قضايا المرأة، غياب فلسفة التعليم، الاستبداد، الأمراض النفسية..الخ.

ولكنه يستدرك بعد ذلك قائلاً: «وما أدراك أن جُلّ هذه الأمراض التي ذكرتها ليس له ارتباط بمرض اللغة؟!».

ونجتزئ ما يخص هذه الفكرة من مقالته، فيما يلي:

«إن أشد الاختلافات الاجتماعية توتراً وحدة قد أتى من جذرين: إما جذر قانوني، وهذه معظمها شخصية ولا نتكلم عنها، وإما جذر عقدي، ومعناه أنه مرض وراثي جاء من التاريخ الاجتماعي الذي تختلط فيه عصور الضياء بعصور الظلام، وتتراشق فيه الآراء من فئات متعددة.. وحين نسأل: كيف انتقل لنا هذا المرض من الأجداد ؟! سنجد فوراً أن الاختلاف في فهم المفردات اللغوية التي تحولت من مفردات إلى مصطلحات ومفاهيم هو السبب في هذا الانتقال».. في مثل وحول المفردات: «الخلافة، الإمامة، العقل، النقل، الاجتهاد، التقليد، أهل الرأي، أهل الحديث، الثابت، المصلحة..الخ، (....) وهل هناك من يشك في أن اللغة هي الناقل لكل الماضي سواءً كان صحة أو مرضاً؟» ( كلمات مائية - ص 397-398).

خيالية اللغة:

يعرض في مقالة أخرى إلى بعد آخر من أبعاد تأثير اللغة، وهو ما أسماه بـ « خيالية اللغة» الذي ابتلينا به «كمرضٍ قاتل منذ العصر الجاهلي وحتى الآن. ذلك لأن خيالية اللغة معناه الانفصام عن الواقع..

إذا بلغ الفطام لنا وليدٌ

تخرّ له الجبابر ساجدينا»...

ويواصل حديثه هنا مستغرباً من أن «مرور الزمان وتلاقي الحضارات صراعاً وحواراً لم يغير من هذه اللغة. فنحن نعتبر جميع الحضارات... حضارات جاهلية... وعلينا أن نعيد ضوء حضارة استقرت في أعماق التاريخ، لنطرد الظلام عن كل الشعوب وكل الحضارات وكل التاريخ».

ويخلص بعد ذلك إلى القول بأن «هذا الخيال المرضي لا نراه في حقل واحد من حقول نشاطنا الفكري، بل نراه في كل الحقول: الشعر والوعظ والفلسفة ومخازن ( العادات العربية الأصيلة)».

(كلمات مائية - ص 240).

-

+ الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة