Culture Magazine Thursday  09/06/2011 G Issue 345
فضاءات
الخميس 8 ,رجب 1432   العدد  345
 
(الإبرة والقميص)
من تَجليَّات (الكوميديا) الساخرة في الشعر العربي (8)
عمر بن عبد العزيز المحمود
-

لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ

إِبَـرَاً يَضِيـقُ بِهَا فِنَاءُ المنـزِلِ

وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَـعِيرُكَ إِبْـرَةً

لِيَخِيطَ قُـدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!

17- عدم انكشاف الهجاء إلا في آخر لفظة في النص، وهذه الميزة -وكثير من الميزات السابقة- لا تنكشف بشكل واضح إلا حين يقارن القارئ بين هذا النص ونصوص أخرى تنتهج الغرض نفسه.

وعدم انكشاف الهجاء في هذا النص إلا حين تحط آخر لفظة فيه رحالها أمام عيني المتلقي من أبرز ما يميز النص، وهو الذي جعل التشويق فيه يصل إلى أعلى درجاته، فإذا كان النص يتكون من اثنتي عشرة تفعيلة -باعتبار أنَّ بحر الكامل يتكون من ثلاث تفعيلات في كل شطر، والنص مُكوَّن من أربعة أشطر على بيتين-فإنَّ المتأمل في النص -أو حتى غير المتأمل- سيلحظ أنَّ الشاعر لم يتعرض للضحية/ المهجو إطلاقا في إحدى عشرة تفعيلة منها، بل كان خلالها يبني ويبين ويقرر ويخبر مشوقاً ومحيراً ورافعاً درجة الفضول إلى أعلى ما يمكن أن يصل إليه القارئ المتابع.

وحين تستقر تلك المعاني في ذهن المتلقي، ويستوعبها قلبه، ويكون في قمة التهيؤ لاستقبال الحكم النهائي ينكشف الهجاء الصريح في التفعيلة الأخيرة الثانية عشرة التي يفصح فيها الشاعر عن موقف ابن يوسف من طلب الفقير السكين الذي يقف أمام باب قصره طالباً استعارة إبرة واحدة ليخيط قميصه، هذا الموقف الذي يعرف من خلاله المتلقي شدة الطمع وقمة الجشع وغيرها من الأوصاف القبيحة التي يتصف بها هذا المهجو، ومن ثمَّ يستشعر المتلقي بكل حواسه المدى الذي وصل إليه ابن يوسف في كل نعت شنيع وقبيح، والشاعر بتأخيره الحكم النهائي يفتح الباب على مصراعيه للقارئ - الذي انتهى للتو من قراءة النص - لكي يحلق بعقله ويطير به في الآفاق ليتصور كل ما يمكن أن يتصوره من صفات بسبب هذا الموقف السلبي من المهجو الذي تجلى له في آخر لحظة.

18- استثمار القصص التاريخي وتوظيفه في تحقيق الغرض بشكل بديع، والقصة التاريخية مجالٌ رائع لإفادة الشعراء منه في قصائدهم، ولكنَّ مكمن الصعوبة في كيفية الاستفادة منها واختيار المكان المناسب لهذه الاستفادة، والشاعر في نصنا هذا يبدع أيما إبداع في استثمار قصة يوسف عليه السلام -على أحد الوجهين في المقصود بيوسف- ويلتقط مشهداً من مشاهدها -وهو مشهد هذا النبي الكريم مع امرأة العزيز وما نتج عنه من قَدٍّ لقميصه- بدقةٍ وبراعةٍ ليوظفه في هجاء هذا البخيل، والشاعر هنا يستغل شدة حاجة يوسف عليه السلام وموقفه العصيب في تلك اللحظة ليجعله مواجهاً لهذا البخيل طالباً منه المساعدة، ليكشف في نهاية المشهد رفض ابن يوسف تقديم هذه المساعدة لهذا النبي الكريم.

ولا بد أن أنوِّه هنا أنَّ استثمار القصة التاريخية نادرٌ عند الشعراء، وقلَّما تجد شاعراً يفعل ذلك؛ لأنَّ الإفادة من مثل هذه القصص تحتاج إلى شاعر متفوق ومبدع، لأنَّ القصة ذات مشاهد كثيرة، والشاعر مطلوبٌ منه أن يحسن اختيار المشهد المناسب منها ويوظفه بإبداع وتميز في خدمة غرضه الذي يتحدث عنه، وأنَّى لشاعر عادي أن يفعل ذلك؟.

أضف إلى هذا وذاك أنَّ القصة التي استثمر شاعرنا المبدع أحد مشاهدها ليست قصة تاريخية فحسب، بل هي قصة قرآنية نبوية متميزة حكتها سورة كاملة من سور القرآن الكريم، وهي قصةٌ رائعةٌ بمشاهدها المؤثرة وتحولاتها العجيبة، وكثيراً ما تناولها العلماء بالتأمل والتدبر.

19- دقة اختيار الشخصية المتضررة من هذه الصفة القبيحة، والشعراء حينما يهجون بالبخل فإنهم لا يولون اهتماماً في الغالب فيمَن يتضرر من بخل المهجو، بل يكون كل تركزيهم على هذا البخيل وكيف يبخل وبماذا يبخل ولماذا يبخل، أما على مَن يبخل فإمَّا ألا يُذكر أصلاً، أو يُذكر على أنه واحد من الناس أو مجموعة منهم دون تحديد لهوية.

أما في نصنا هذا فقد تعمَّد الشاعر إبراز هوية الشخصية المتضررة من هذا البخل القبيح بدءاً من تعيينه بالنص على اسم المهجو بنسبته إلى اسم أبيه ليُفَاجِئ المتلقي بعد ذلك بأنَّ الفقير المحتاج ما هو إلا والده أو نبي الله يوسف عليه السلام، فيُضيف بهذا إلى شناعة هذه الصفة شناعةً أخرى، وإذا كان المتضرر من بخله أقرب الناس إليه، فإنَّ غيره من باب أولى.

20- توافر كل مقومات الخلود للنص، وكل ما سبق من ملاحظات عامة تصلح لأن تكون ضمن تلك المقومات، وأخص منها: الثراء الدلالي اللافت، والمبالغات المتناهية المتزاحمة التي لفتت نظر الألوسي قبل كل شيء.

كما أنني لا يمكن أن أغفل الإيقاع الهادئ المشهور، والنص على اسم المهجو بعينه، ودقة اختيار الألفاظ وبساطتها، ودقة اختيار الشخصية المتضررة من هذا البخل، وحسن استخدام الفنون البديعية وفي مقدمتها التورية، والإفادة من مشهد قصة قرآنية، والتلاحم الشديد بين البيتين، وتوجيه الخطاب مباشرة إلى المهجو دون الإخبار عنه بأسلوب الغيبة، كل هذه الأمور كان لها أثر كبير في إدخال هذا النص ضمن دائرة الخلود في عالم الشعر العربي.

خاتمة:

وبعد هذه الرحلة الشائقة الماتعة مع نص قصير من نصوص شعرنا العربي الخالد، أود أن أدون هنا بعض الملحوظات الختامية -الخاصة والعامة- التي أرى أنه لا بد أن يتنبه إليها القارئ الكريم:

1- حين يود القارئ أن يتذوق النص وأن يستمتع به ويحلق في فضاءاته لا بد له أن يطيل التأمل ويزيد التدبر في ألفاظه وعباراته وصوره وأساليبه، وأن ينوع في زوايا النظر التي يرى بها هذا النص، وألا يستعجل في الحكم عليه وتدوين ملاحظاته إلا بعد زمن يعيش فيه مع النص، فإنه متى فعل ذلك فإنه سيستطيع أن يكشف عن أسرار تميزه، ويتلمس مواطن الإجادة والخلل فيه.

2- من أبرز الأمور التي تساعدك على اكتشاف مواطن التميز في نص لفت نظرك مقارنته بغيره من النصوص التي تشترك معه في الخطوط الرئيسة، وكان لها قيمة عالية في أدبنا العربي، وقد خطر في ذهني بعض النصوص التي اشتركت مع هذا النص في الغرض وهو الهجاء، والصفة التي كان الهجاء لأجلها وهي البخل، فاستثمرتُ ذلك ببيان الفروق بينها للوصول إلى سر علو قيمة هذا النص الذي معنا، وقد كان من أبرز تلك النصوص قول الشاعر:

قومٌ إذا استنبحَ الأضيافُ كلبَهُمُ

قَالُوا لأمِّهُمُ: بُولي عَلَى النَّـارِ!

وقول الآخر:

يُقَـتِّرُ عِيسَـى عَلَى نَفسِـهِ

وَليـسَ بِبـاقٍ وَلا خَـالِدِ

وَلَـو يَستَـطيعُ لتَـقتيـرِهِ

تَنفَّـسَ من مِنخَـرٍ وَاحِـدِ

وقد كنتُ أنوي أن أعقد في نهاية هذه السلسلة من المقالات موازنةً بين نصنا الرئيس وهذه النصوص لكي أبين السبب الذي دعاني إلى الإعجاب بالنص المدروس، ولكنني رأيتُ أولاً أن الحديث سيطول، ورأيتُ ثانياً أنني بذلك أصادر حقَّ القارئ بإعمال عقله وفكره ليقوم هو بنفسه بهذه الوظيفة، ورأيتُ ثالثاً أنَّ القارئ سيدرك هذه الموازنة إذا تأمل في الأسرار والتجليات التي كشفتُ عن كثيرٍ منها في هذه المجموعة من المقالات، ومن ثمَّ نظر إلى مثل هذه النصوص.

3- التكلف في التحليل والتعسف في الرؤية يمثلان أزمة في عالم النقد، ذلك أنَّ الناقد في بعض الأحيان يأتي بتحليلات ودلالات لا ناقة للنص فيها ولا جمل، ويُقوِّل المبدع ما لم يُرد، ويجيء بمعانٍ لا تجد في داخل النص أية مؤشرات تدل عليها، وقد حاولتُ خلال هذا التحليل أن أتجنب مثل ذلك، فأرجو أن أكون قد وُفقتُ في ذلك.

4- أدبنا العربي غنيٌّ بمثل هذه النصوص التي تتميز بالثراء الدلالي العجيب، وتحتاج إلى مَن يقف عندها ويحاول أن يُعايشها ويتأمل فيها ليكشف لنا عن بعض كنوزها، ويجلي بعض أسرارها.

-

+ Omar1401@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة