Culture Magazine Thursday  12/05/2011 G Issue 341
أوراق
الخميس 9 ,جمادى الثانية 1432   العدد  341
 
أيّها الوسط من رآك..؟!
تركي محمد التركي
-

أنا وسطي لا ليبرالي ولا سلفي كما أنني ضد التسميات والتصنيفات أصلاً، هذا ما يردده الكثير وهو نفسه ما يريدون سماعه منك في ظل ما يعتبرونه صراعاً دامياً بين أطراف متطرفة، لذلك وتحت كثير من هذا الضغط الفكري والنفسي تحاول أن تتبرأ من جميع الأطراف حتى لو كان لأفكارك من أفكارهم نصيب لتنتمي لهذا الوسط الثابت والمثالي، الحاضر الغائب والذي عبثاً تبحث عنه هو أيضاً فلا تجده ولكنك وكالعادة تجد من يروجون له ويدّعون وصله ليتبادر لذهنك سؤال وطني وعربي بامتياز, وهل هم وسطيون حقيقيون؟! وهذا هو نفسه سؤال «لحظة الحقيقة» المتكرر والمشهور لدينا، كسؤال هل هناك ليبراليون حقيقيون؟! للأسف تبقى الإجابة مرواغة لأن هذا الوسط الثابت أوالحقيقي المطلق كفكرة في الأذهان يصبح على أرض الواقع كغيره من الأفكار الليبرالية أو السلفيه زئبقي ومراوغ و بابه مفتوح لكثير من التأويلات والآراء الفكرية والفقهية؛ فلا يسمح لأحد بأن يمسكه أو لمجموعة أن تتفق حوله ولكنه في نفس الوقت يطلب كغيره من الأفكار المثالية من الجميع الدفاع عنه مع الوعد بأن يكونوا في أفضل موقف مقارنة بمتطرفي اليسار أو اليمين ؛ فليس هناك نظرياً أجمل وأكثر راحة من أن تكون في منتجعك الوسطي ساكناً ومتأملاً تنتظر فقط أن يخطيء المتصارعون المتحركون من جميع الأطراف فكرياً (مع العلم أن من يتحرك لابد وأن يخطيء) لتبدأ انت في تقريعهم وتشنيعهم وتذكيرهم بالحقائق المطلقة والمثاليات أو في أحسن الأحوال تبدأ في محاولة الصلح والإصلاح بينهم بحكم طبيعة موقفك الوسطي والعقلاني المعتدل!.

لعل من الأفضل أن نترك الأشخاص ومواقفهم وأن نبحث ونتحاور حول الأفكار وتجلياتها بالقدرالذي تكشفه لنا هذه الأفكار عن نفسها على أرض الواقع، وليس بقدر ما يتمثلها أشخاص بعينهم، لذلك لابد لنا من أن إعادة صياغة سؤال لحظة الحقيقة على منوال سؤال عبدالله القصيمي أيها العقل من رآك لنقول أيها الوسط من رآك؟.

الوسط أو الوسطية حالة متغيرة ونسبية وليست نقطة ثابتة نستطيع تحسسها والوقوف عليها بكل ثقة لنحارب بسيوف النقد الخشبية طواحين الأطراف,لأن الانسان بطبيعة فكره وإدراكه للأمور يصعب بل يستحيل أن يكون حيادياً متزناً أو موضوعياً للدرجة التي نرجوها أوالتي نستطيع معها تسميته وسطياً فما بالك بمن يدعيها وكأنه يزكي نفسه، ومن هنا كانت حتمية وجود الطرفين الأكثر انفتاحاً والأكثر تحفظاً؛ فهذا صراع أزلي انساني ومعرفي تنبه له المفكرين والعارفين بطبائع النفوس والمجتمعات ليقترحوا أكثر الأنظمة المدنيه فعالية حتى هذا اليوم، وأعني هنا نظام الحزبين الذي تأخذ به أقوى الدول صناعياً وفكرياً في قناعة تامة بأن طبائع الناس لا تكاد تخلو من هذين النوعين وهو ما يُعرف أيضاً لدى علماء النفس بنوعي الشخصية الانطوائية والانبساطية، فالأولى تجد استقرارها النفسي دائماً في تحفظها و الانغلاق على ذاتها وثقافتها خوفاً على هويتها، أما الأخرى فهي أكثر جرأة في هذا الجانب ولا تجد ما يمنع أو يخيف من التحديث والتواصل مع الآخرين وتجاربهم ومكتسباتهم.

إذاً هناك ضرورة مبدئياً لتفهم هذا الحراك وأطرافه وأيضاً حساسيته وغرابته على مجتمع تعود وجود طرف واحد ولون واحد خلال ثلاثين سنة مضت كما تعود على أن يتفق حول جميع أموره أو فليضمر اختلافه ومن هنا نعلم أن مثل هذه المخاوف من بقايا تلك الفترة الساكنة المشحونة بالكثير, وبالتالي فإن هذا الكثير لابد وأن يظهر بداية كردود أفعال منها المتحفظ ومنها المتهور, منها من تنفس هواء الحرية للتو ومنها من بدأ يخشى ضياع تفرد وسلطة, أضف لذلك أن هذا الحراك يحصل في فترة متوترة بالأساس عالمياً وفي وقت لا نستطيع فيه أن نفصل ظروفنا عن ظروف الآخرين من حولنا لأن هذا العالم الذي نعيش فيه اليوم أصبح متصلاً لأبعد الحدود اقتصادياً وسياسياً وحتى اجتماعياً بشكل حتمي وتقدمي لا رجعة فيه، لذلك لابد من الاعتراف بحق هذه الأطراف في الوجود والاعتراف أيضاً بمخاوفها ورغباتها التي هي أساس طبيعتها وتكوينها, وعدم وضع أي أولويات لما يجب وما لا يجب أن تعبر عنه وتكتبه وفقاً لاهتمامات طرف من الأطراف، ومن ثم يمكن وضع أنظمة وقوانين تحكم هذا الحراك الذي يجب أن يكون تحت مظلة قانونية من حرية الفكروالتعبير شرط أن لا يكون فيه أيّ تحريض مباشر أو غير مباشر على أيّ فعل سلوكي مؤذٍ أو حتى تشهير أو مزايدة على المعتقد أوالوطن وبذلك نبقى في حالة طبيعية جداً من الشد والجذب الذي مهما بلغت قسوته الفكرية أوغرابة طرحه وتجاوزاته فنتيجته الطبيعية من وقت لآخر خلق هذه الحالة التي يسميها اليمين وسطية ويعتبرها اليسار تعددية وهي حالة من التوافق جميلة بتعدد الألوان التي أوجدتها.

نعم نحن أمة وسط، ولكن يبقى السؤال بنظرة أشمل: أيها الوسط الغائب من سيُحضرك؟ ومن سيكون له شرف المساهمة في وجودك نموذجاً ونظاماً فاعلاً على أرض الواقع لا على أرض الأماني و الأحلام؟

الإجابه لن تكون بـ «مَن» لسبب بسيط وهو أن الوسطية كما اتضح حاله من الحراك توجِدها تعددية الأفكار وليست حصراً على أشخاص أو تيارات، لذلك أتصور أننا سنعلم فقط بعد إجابة هذا السؤال عملياً بأنه لابد من أطراف ولابد من تعدد واختلاف وبأن كل من ساهم في هذا الحراك والتنوع سواء كان هذا الشخص ليبرالي من أقصى اليسار أو سلفي من أقصى اليمين, سيُحسب له على الأقل أنه من المتحركين والمتدافعين قصد هذا الوسط أم لم يقصده، وقد يكون بفكره من أفكاره قد ساهم بإيجاده كحالة متغيرة تمتزج فيها كافة الألوان والخبرات، وهنا تلزمنا دعوة كل من يحاول قتل هذا الحراك في مهده أو يحاول التحقير من شأنه لأنه لم يتفق والمنظور المثالي الساكن الذي يحمله، ندعوه لأن يشارك برأيه فكرياً وعملياً بعيداً عن مهاجمة الأشخاص الفاعلين والمماطلة بالسؤال عن مدى حقيقيتهم فالأشخاص يذهبون والأفكار تبقى. الآية الكريمة تقول: ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض.

-

Alturki.tt@gmail.com - جدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة