Culture Magazine Thursday  12/05/2011 G Issue 341
ترجمات
الخميس 9 ,جمادى الثانية 1432   العدد  341
 
شغب عبدالعزيز بخيت
انزياح المعنى
إبراهيم الزيدي
-

إن الحداثة بوصفها سؤالاً، تم إنتاجها عبر المعرفة التي انفلتت مما هو كائن وممكن، ورجمت في الغيب لتُنتج ما يفصح عنها، وتكون (سمة فرق، لا سمة قيمة) في الإبداع الأدبي، فكان أكثر من شاعر قديم -بناء على تلك الفروق- شاعراً حديثاً، وبقي أكثر من شاعر معاصر في حيّز المسبق!!

فالطاقة التأثيرية لخاصية الأسلوب -والتي هي ذات طابع شخصي بالضرورة- مرتبطة بالبنية الرمزية للغة، التي يمكن أن نسميها -انطلاقاً من وظيفتها- البنية التحتية للأدب، والتي بناء عليها يأخذ الشاعر مكانه في ضمير الماضي الثقافي لأمته، أو الحاضر، وقلة قليلة من يأخذ مكانه في ضمير المستقبل الثقافي لأمته، وبما أن الشعر حالة، وليس صفة، فإن البيانات التي تشتغل على سمة الفروق تأخذ باعتبارها القصيدة، وليس المجموعة، أو الديوان، وفي مجموعة «شغب» للشاعر عبد العزيز بخيت، الصادرة عن مؤسسة الانتشار العربي عام 2008- ثمة خروج على المعاني الاصطلاحية للكلام، في انحرافات أخذت في حسابها المعنى أكثر مما أخذت اللفظ المفرد « للكلمة»: (للمحاصيل ميقاتها - حين لا تُجتنى، سوف يلقي بها الغصن فوق التراب - لكن الجالسون على رئة الجائعين - إذا جاء ميقاتهم، ثم لا يذهبون - سيلقي بهم شغب الجوع تحت التراب).

في هذه القصيدة التي حملتها مجموعة البخيت اسماً، ثمة معادلة استخلص الشاعر حدودها من خلال مقارنة كسر الشاعر سياقها الأسلوبي بعنصر غير متوقع، تمثله النتيجة التي يؤول إليها عنصر الطبيعة «سوف يلقي بها الغصن فوق التراب»، والنتيجة التي يؤول إليها العنصر البشري «سيلقي بهم شغب الجوع تحت التراب» إضافة للانزياح الذي تُحققه لفظة (تحت) من خلال مصاحبها اللغوي (التراب)، وتأثير معنى لفظة (تحت) حين تتبعها لفظة (تراب).

ولا يقتصر التقابل بين الطبيعة والبشر على قصيدة (شغب) في المجموعة، فالشاعر في أكثر من قصيدة ينطلق من رؤية تأملية للطبيعة في فلسفته للوجود الإنساني، ففي قصيدة «فبراير» يقول:

(التضاريس علّمت الدارسين، بأن العلوّ مساحات ضيقات- وأن الكثير من الأرض سهل، وليس حزونة - فالذي في تضاريسه رفعة، إن تراءى اتساع العلوّ له - لا يطول به المكث - لكن يطول به المنحدر).

هذه الطريقة التي يتجلّى بها التشبيه، لا يمكن أن نتبين أهدافها إلاّ في نهايتها، فطاقة الكشف المصيري مختزنة في الجملة الأخيرة من القصيدة (لكن يطول به المنحدر) المرتبطة منطقيّاً بالكلمة الأولى من القصيدة (التضاريس) وبالجملة الأولى، وبالقصيدة كلها، وهذا يقودنا إلى الحديث عن الوحدة العضوية للقصيدة، من حيث هي أجزاء تكاملت من خلال وظائفها، بطريقة شبه عفوية، فالتراص الإحالي الذي يطال كل مقاطع القصيدة، وكأنه وجد ليمهد الطريق لنهاية يكتسب من خلالها المعنى العام صفة الانزياح، فتتحقق وحدة القصيدة، وشعريتها بآن:

(أعطني مهجة - كي أعيش الحياة نديّاً - وأشهق فيك، إلى أن تكون النفس - كي نعيش زماناً يمرّ، ولكننا لا نحس - كيف أحيا وجسمي جليد - وروحي قبس).

إن لفظة (نديّاً) الواردة في نهاية المقطع الثاني من القصيدة، بررت الطلب الذي بدأت به القصيدة (أعطني)، والمقطع الأخير من القصيدة (وروحي قبس) يبرر الرغبات التي سردت على منحى الإحالة الدلالية، وفق التسلسل المنطقي لنص القصيدة، وكما هو ملاحظ فإن قلة الانزياحات اللفظية تم تعويضها بانزياح المعنى، فجملة (وأشهق فيك إلى أن تكون النفس) لا يمكن تقسيمها للوقوع على الانزياحات اللفظية فيها، من حيث إن الانزياح تكامل فيها لصالح المعنى.

هذه الآلية تتكرر في الكثير من قصائد المجموعة:

(لا تصوم القلوب عن الحب - لا يعرف البحر إلاّ المراكب والأشرعة - لا تصوم القلوب - ولا تعرف الفطر في لحظة مسرعة - جاء هذا الصباح - لأبدأ عنك الصيام - وأقرأ في وجهك الكتب الأربعة).

إن دلالة ألفاظ هذه القصيدة تحيلنا إلى طقوس العبادة، والمتمثلة في الصوم والفطر، وباعتبار هذه الطقوس واردة بكافة الشرائع السماوية، جاءت الخاتمة (وأقرأ في وجهك الكتب الأربعة)، من حيث أن القراءة في كتاب مقدس عادة تفترضها حالة الصوم، وهذا التراصف الرمزي يعتمد على المعطيات الأسلوبية للنص، لتأكيد وظيفتي اللغة التي يقول بهما بيير جيرو (وظيفة تعطي الأشياء دلالاتها، ووظيفة تعبر عن موقف المتكلم إزاء هذه الأشياء).

والملاحظ على أغلب قصائد المجموعة، أن الاشتراك الدلالي لألفاظها لا يقوم على علاقة بين المسميات، بل على معنى الصورة فيها، كما في قصيدة (كينونة البدء):

(علمته وساوس كينونة الأنبياء بأن يغسل الضوء - منذ لا شيء، والناس تكتب ميلادها بالدخان ولا تحترق - ونغرق في سدّ مأرب، حتى يضيق التنفس بالماء في مائه، ثم لا نختنق - منذ لاشيء مرّ المكان، ولم تعبر الأزمنة).

وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الأسلوب إنتاج مشترك، في زمنين متتاليين، يتعاقب فيهما الكاتب والقارئ، حسب رأي الدكتور منذر عياشي، أي أن ما ذكرناه في هذه القراءة لمجموعة «شغب» ليس نهائياً، حتى من منظور التحليل ألألسني، ما هو نهائي وأكيد أن تلك التيمات التي شكلت إحداثياتها «شغب» عبد العزيز بخيت، قد حاولت تقديم أجوبة دلالية على مواقف معينة لخلق توازن بين الذات والموضوع.

-


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة