Culture Magazine Thursday  13/10/2011 G Issue 350
فضاءات
الخميس 15 ,ذو القعدة 1432   العدد  350
 
مساقات
رواية «النَّبَطي» (وقفاتٌ نقدية: 3)
أ.د.عبد الله بن أحمد الفَيفي

يروي (الأصفهانيّ)، في كتابه «الأغاني»، في أخبار (مِسْكين الدارميّ، -89هـ= 708م)، أن تاجرًا من أهل الكوفة قَدِم المدينة المنوّرة بخُمر، فباعها كلَّها، لكنّها بقيت السُّود منها لم تَنْفُق، وكان التاجر صديقًا للدارميّ، فشكا ذاك إليه، وقد كان الدارميّ نَسَكَ وترك الغناء، وحتى قولَ الشِّعر؛ فقال له: «لا تهتمّ بذلك، فإني سأُنفقها لك حتى تبيعها جميعًا!»ثم أنشد:

قُلْ للمَليحةِ في الخِمارِ الأسودِ

ماذا صَنعتِ براهـبٍ مُتَعَبِّدِ؟!

قد كان شَمَّرَ للصَّلاةِ ثيابَهُ

حتى وَقفتِ لهُ ببابِ المسجدِ!

وغنّى ذلك الشِّعرَ، وغنّاه أيضًا (سِنان الكاتب)، وشاع في الناس. وقالوا: «قد رَجَعَ الدارميّ عن نُسْكِه وتَرْكِه الغناء». فلم تَبْقَ في المدينة ظريفةٌ إلّا ابتاعت خِمارًا أسود، حتى نَفِدَ ما كان مع العراقيّ منها. ذَكَرْنا هذا، وصاحبُ «النَّبَطِيّ» يزعم أن الخمار الأسود كان مفروضًا على المرأة العربيّة منذ ما قبل الإسلام. وكُنّا قد ألمحنا، في المقال الثاني من هذه الوقفات، إلى أن الخِمار الأسود إنما فُرض في قرون متأخّرة. حتى لم يعد الآن اختيارًا جماليًّا، تتوخّى المرأة فيه أن تكون كذات الخِمار الأسود الدارميّة، بل أصبح فرضًا مفروضًا(1).

وبقطع النظر عن مقايسة الحضارة إلى المَظاهر والأعراف والتقاليد، فلقد كانت الجزيرة العربيّة بعمومها منبعًا تاريخيًّا للحضارة، معرفيًّا وروحيًّا، ولم تكن بتلك الصورة النمطيّة البالغة الانغلاق. بيد أن نهج يوسف زيدان، كما يبدو، كان أن يقيس الماضي على الحاضر، في العادات والتقاليد والطقوس، فما أشبه الليلة لديه بالبارحة! وتلك رؤيةٌ للقِيَم الإنسانيّة غير سديدة، إنْ في علائقها بحضارات الأُمم، أو في الوعي بفلسفة القِيَم المتغيّرة باستمرار. ولعل تلك كملحوظات أُخَر- عدا الأخطاء اللغويّة غير القليلة- تاريخيّة/ فنيّة، ممّا جاء في سياق تلك الرواية. وذلك كقوله، مثلًا، على لسان شَخْصٍ من ذلك الزمان: «نادى رجلٌ من مكانٍ قريبٍ بصوتٍ غريبٍ أجشّ: السفينة سوف تُبحر إلى أيلة بعد ساعة، فاستعِدّوا»! (ص206). أو قوله، (ص212)، على لسان مارية: «ما بين الحوش والكنيسة، ساعةُ سيرٍ على الأقدام، أو أقلّ قليلًا»! وما كانت المواعيد تُحدَّد في ذلك الزمان بالساعات والدقائق، بطبيعة الحال، وإنْ ذُكرت «ساعة»، فإنما كان ذلك بمعنى: «حِين»، أو «بُرهة»، كقول (الحارث بن عباد):

فَأَصبَحوا ثَمَّ صَفْوًا دونَ بيضِهِمُ

وأَبرَقوا ساعَةً مِن بَعدِ ما رَعَدوا

أو قول (عبدالله بن العجلان النهدي):

ولَم أَرَ هِندًا بَعدَ مَوقِفِ سَاعَةٍ

بِأَنعَمَ في أهلِ الدِّيَارِ تُطَوِّفُ

أو قول (عمرو بن قميئة):

فَدارَتْ رَحانا ساعَةً ورَحاهُمُ

ودَرَّتْ طِباقًا بَعدَ بَكْءٍ لقوحُها

أو قول (ابن مقبل):

ثُمَّ نَوَّمْنَ ونِمْنَا سَاعَةً

خُشَّعَ الطَّرْفِ سُجُودًا في الخُطُمْ

ومثل ذلك قول زيدان أيضًا، على لسان المتنبّئ (النَّبَطي): «حبّات حليب»! (ص231). بدل «قطرات حليب». أو على لسان آخَر: «حبّات مطر»! (ص319- 320).

وكذا يلفتُ النظرَ زعمُه أن العرب لم يكونوا يسمُّون (عبداللات)، عادةً، بل وهب اللات، وأيم اللات، وتيم اللات! وذلك في إجابة النَّبَطِيّ عن سؤال مارية: «لماذا لا تسمِّي الناس عادةً عبداللات؟ فقال، ما فحواه: إن الرَّبَّة واهبةٌ مانحةٌ تريد من الناس أن يعرفوها ولا تحتاج أن يعبدوها»(2). ومع أن (تيم اللات) يعني: (عبداللات)، فإننا لا ندري كيف ذهب زيدان إلى ما ذهب إليه على لسان النَّبَطِيّ؟ وكيف يصحّ تعليله لعدم تسمية العرب: (عبداللات)، بالذات، مع أنهم كانوا يَعْبُدُون أشياء كثيرة، ويتسمَّون بعُبوديّتها. وقد كانت اللات من أعظم آلهة العرب المعبودة في الجاهليّة، ترمز إلى الشمس المقدَّسة لديهم(3). غير أن زَعْم زيدان غير صحيحٍ أصلًا. وإلّا فماذا عن إشارات علماء التاريخ والسِّيَر والعربيّة إلى أن العرب يُسمُّون: عبدالعُزَّى، وعبداللات، وعبديغوث، ونحو ذلك؟! ومِن المسمَّين بهذا الاسم، مثلًا: جَدُّ أُمِّ خارجة، المذكورة في المَثَل: «أسرع من نِكاح أُمِّ خارجة»؛ فأُمّ خارجة هي: عَمْرَة بنت سعد بن (عبداللات) الأنماريّة. وكذلك جَدُّ (الكلبي)- الراوية المعروف- اسمه: (عبداللّات) بن رفيدة بن ثور بن كلب(4). فإذن كان العرب يسمُّون: عبداللّات، كما يسمُّون تيم اللّات، ولا أصل لما زعمه زيدان(5). وأمّا كلام المؤلِّف المصفَّفُ كأبيات الشِّعر المقفَّى، الذي كان يسوقه- من إنشائه هو طبعًا- على لسان بعض القائلين، ولا سيما صريع العواتك، (ص286)، زاعمًا أنه من شِعر ذاك الزمان، أي فترة صدر الإسلام، فحكايةٌ أخرى، أقلّ توفيقًا من كلّ ما سَبق من عباءات تاريخيّة! وهو لا يستقيم شِعرًا، وإنْ على لسان شاعرٍ نَبَطِيٍّ صريع! ويا ليت زيدان يكفّ عن سُعاله الشِّعري ذاك، إلى غير رجعه، ويهتمّ بتغريده السرديّ، فالسرد موهبته الحقيقيّة، لا «الشِّعر»! ولسنا بهذه الوقفات النقديّة نُنكر على المؤلِّف تجربته المختلفة، وثراءها المعرفيّ، وأهميّتها النوعيّة في الرواية العربيّة الحديثة، ولا نُقلّل بحالٍ من الأحوال من مَلَكته السرديّة الجديرة بالاحتفاء والتقدير. وإنْ كان المؤمّل مستقبلًا أن يَخرج بنا عن خزائن المخطوطات، والأقنعة التاريخيّة المشفّرة، لنقرأ يوسف زيدان آخَر، يُضيء نفسه بنفسه، ليحظى بجائزة الأدب الخالدة، لا بجوائزه العابرة للثقافات والحقائق.

* * * *

(1) وما كان لأحد أن يفرض نوعًا من اللباس على الناس، ما أنزل الله به من سلطان، وإن طُولب بمبدأ الاحتشام. وإلّا لَزِم من يفرض مثل ذلك أن يتولَّى بنفسه دعم ما فرضه، بحيث يصبح في متناول المواطنين كافّة، بأزهد الأسعار. غير أن ما حَدَثَ خلاف ذلك؛ ففَرْضٌ تعسفيٌّ صارمٌ من جهةٍ، ومغالاةٌ في الأسعار من جهةٍ مقابلة. ومثل ذلك يمكن أن يُقال عن فرض أزياء مدرسيّة على الطالبات، وتبديلها بين عهدٍ وآخر. فلقد كان يجب أن لا تُفرض، إلّا أن تُصرف مجّانًا لهنّ. إنّ ما يسمّى «المريولات» المدرسيّة اليوم تُستنزف من ورائها «المليارات» من جيوب الناس، وبلا وجه حقٍّ. ولقد بات ذلك نِقمة على الفقراء، في الوقت الذي يبرَّر بأنه مراعاةٌ لمشاعرهم! تُرى مَن استفتاهم في تلك المُراعاة المزعومة؟! ومتى كان هذا التحكّم في خصوصيّات الناس، بما في ذلك ألبستهم، وأنواعها، وألوانها، في غير زماننا الماديّ الاستهلاكيّ؟! إنّ الزِّيَّ المدرسيّ يُفرض كذلك بتبريرٍ لا معنى له، كغيره من الفُروض المستبدّة بحياة المجتمع؛ وإلّا فإن التفاوت الشرائي بين البَشر أمرٌ طبيعيّ، لا مفرّ منه، ومظاهره سُنّة قائمة في الحياة كلّها. ثم إذا كان الهدف مُراعاة بعض المشاعر- وفي حِسٍّ «شيوعي» من نوعٍ خاص!- فإن غاية ذلك أقرب من ذلك المدار الغريب؛ إذ كان يمكن أن يُعالج بسَنّ قيودٍ على أنواع معيّنة من اللباس، وتقييد المبالغة في أنواع أخرى. أمّا أن يُفرض ما يلبس الناس تحت أيّ ذريعة، فلعمري إنما يَصُبّ في جيوب المنتفعين منه؛ وهو- بلا شك- تجارةٌ رابحةٌ لمن تبنّاه واستغلّه، منذ «الخِمار الأسود» الذي روّج له (مسكين الدارميّ) إلى آخر الخِمارات والمساكين، بالألوان والأشكال كافّة. ولكَم تُجنَى الأموال الطائلة من وراء التلاعب بالشعارات الفارغة والكلمات الرنّانة!

(2) زيدان، يوسف، (2010)، النَّبَطي، (القاهرة: دار الشروق)، 291.

(3) انظر كتابنا: (2001)، مفاتيح القصيدة الجاهليّة: نحو رؤية نقديّة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (جُدّة: النادي الأدبي الثقافي)، 79 فما بعدها.

(4) يُنظر: ابن جِنّيّ، (1962)، التمام في تفسير أشعار هُذيل ممّا أغفله أبو سعيد السكّريّ، تحقيق: أحمد ناجي القيسي وخديجة عبدالرزاق الحديثي وأحمد مطلوب، مراجعة: مصطفي جواد (بغداد: مطبعة العاني)، 114- 115؛ العسكريّ، أبو هلال، (1988)، جمهرة الأمثال، عناية: أحمد عبدالسلام وأبي هاجر محمّد سعيد بن بسيوني زغلول (بيروت: دار الكتب العلميّة)، 1: 432؛ ابن خلّكان، (1971)، وفيّات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تح. إحسان عبّاس (بيروت: دار صادر)، 4: 309.

(5) واستطرادًا إيضاحيًّا يستثيره ما وَرَدَ حول «اللات»، فإن لفظ الجلالة نفسه «الله»، الذي يصوِّره بعض أهل الكتاب أحيانًا على أنه اختراعٌ عربيّ أو ابتداعٌ إسلاميّ، وربما عَزَوْه إلى بعض آلهة العرب، كـ(إل)، الذي يقولون إنه كان اسمًا للقمر، أو لزوجته اللات، الشمس، هو- في الحقيقة- اسم الله القديم، في مختلف الدِّيانات. وهؤلاء الزاعمون ابتداعَه، أو أنّ أصله من دِيانة العرب الوثنيّة واعتقادهم في الكواكب والنجوم، يتناسون أن لفظ «الله» مقترنٌ بأسماء أنبياء الله، في كُتبهم نفسها: كإسماعيل، وصموئيل، وإسرائيل، وغيرها ممّا لا يُحصَى من الأسماء؛ إذ هذه «الإيل» في نهايات تلك الأسماء ما هي إلّا لفظ الجلالة: «الله»، مضافًا إليه نعتٌ من النعوت؛ فهي نظيرة: عبدالله في العربيّة. بل إن الكلمة «الله» بلفظها مستعملة في العبريّة، بمعنى الإله، وكذلك بلفظ «أوليهم»، وهذه الأخيرة لعلّها في العربيّة: «اللهُمّ»، في الدعاء. ومَن حَفِظ- وحَفِظت لغتُه- حجّةٌ على مَن لم يَحفظ. غير أن التعصّب الدِّينيّ قد يصل إلى إنكار التاريخ واللغات، للزعم ببطلان دِينٍ ما وصحّة آخر. ولئن اعتقد العرب في الشمس والقمر وسمّوهما بأسماء الآلهة، فإنما يبدو ذلك كاعتقاد المسيحيّين- بعد حين من الدهر- في المسيح، وتسميته بالربّ، أو بالله، أو ابن الله.. إلى آ خره. ذلك أن تأليه الإنسان، أو الحيوان، أو الكوكب، أو النجم، نهجٌ بدائيّ، نَجَمَ عن انحرافاتٍ بَشريّة في البحث عن حقيقة «الله»، جلّ جلاله، وتصوُّره، أو قُل: البحث عن الطاقة الكونيّة الخالقة. ولقد فَعَل ذلك إبراهيم، عليه السلام، كما حكت عنه الآيات القرآنية، (الأنعام: 76- 79)، في قوله تعالى: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ، رَأَى? كَوْكَبًا، قَالَ: هَـذَا رَبِّي! فَلَمَّا أَفَلَ، قَالَ: لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ! فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا، قَالَ: هَـذَا رَبِّي! فَلَمَّا أَفَلَ، قَالَ: لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي، لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً، قَالَ: هَـذَا رَبِّي؛ هَـ?ذَا أَكْبَرُ! فَلَمَّا أَفَلَتْ، قَالَ: يَا قَوْمِ، إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ! إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، حَنِيفًا، وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ». فالأصل: الاعتقاد في (الله)، لكن العقل قد يذهب مذاهب شتى في البحث عنه، وإلقاء أسمائه على سواه، وليس العكس. أي أن تلك المفردات لم تنشأ عن حكاية عبادة الكواكب، ثم بعد إدراك أنها ليست آلهة، أطلق الناس أسماءها على الإله، الذي تبيّن لهم أنه الحقّ، بل ما كان يحدث هو العكس؛ فالفكرة الأوّليّة هي فكرة الإله، واسمه، متحدِّرين عن دينٍ قديم أو فكرٍ قديم، إلّا أنه قد يُجانب الإنسانَ الصوابُ مرارًا في فهم الألوهة، أو في إطلاق اسمها على مستحقّها، كما صَوَّر القرآن ذلك في الآيات المذكورة. بيد أن تلك هي مغالطات الجَدَل الدِّينيّ المعهودة. ومِن هؤلاء مَن لا يتورّع عن تضليل العقول القابلة للتضليل بمثل تلك المزاعم، جاعلًا العربة أمام الحصان، موهمًا أن اسم «الله» هو اسم القمر (أصلًا)، لم يجد العرب عنه بديلًا اسمًا لربّ السماوات والأرض! وهذا ما يفعله- على سبيل المثال- القمّص زكريّا بطرس ومَن لَفَّ لَفَّه، في برامجهم التبشيريّة الفضائيّة. والحق أن «الله» في مختلف الدِّيانات القديمة- وعلى اختلافها في نطقه- هو اسم «الإله»، بشكلٍ مطلق، لا اسم القمر ولا اسم الشمس، وإنْ كان مِن تلك الأُمم الجاهلة مَن قد يُطلقه على إلهه المتوهَّم، ظنًّا أنه القمر أو الشمس، أو غيرهما.

-


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة