Culture Magazine Thursday  15/12/2011 G Issue 356
فضاءات
الخميس 20 ,محرم 1433   العدد  356
 
محاولة اختطاف عبدِالكريم الجهيمان!!
خالد الرفاعي

في المجلس الذي شهدَ العزاءَ في عبدالكريم الجهيمان - رحمه الله - تجاورتْ البنى الفكريةُ المتباعدةُ، وامتدّ الوطنُ...، فلم أرَ شيئاً من الحدود بين من عُرِفَ إسلامياً أو ليبرالياً، ولا شيئاً من الفروق بين الأقارب والأصدقاء، ولا بين المقرّبين والبعيد البعيد...

لقد تجاور الجميع في مجلس العزاء كما تتجاورُ أجزاءُ الوطن داخل أسواره، معبّرين – من حيث لا يشعرون - عن الرمزية الثقافية التي احتملها هذا الرجل بعد سنوات طويلة من العطاء والعناء...

بطبيعة الحال لا يعني اجتماع المختلفين من حول الجهيمان اتفاقهم على منجزه، بقدر ما يعني اتفاقهم عليه، كونه – أولاً وأخيراً - رمزاً ثقافياً من رموز هذا الوطن، وللرمزية اعتبارات ودلالات، تكون – عادة – محلّ اتفاق...، ومن وراء هذه الرمزية تفاصيل كثيرة، تظلّ محلَّ أخذٍ وردّ، ونقاشٍ يبدأ ولا ينتهي...

الذين كتبوا عن الجهيمان كانوا ينطلقون من هذه الرمزية، والذين أدّوا فيه واجبَ العزاء كانوا يستحضرونها، وأيُّ انتقال من هذه الرمزية المتفق عليها إلى مستويات أخرى دونها يعدّ محاولة اختطاف بائسة لهذا الرمز من رمزيته...

لقد اتفق المختلفون على الجهيمان، لأمرين مهمين، أولهما: أن واقعة الموت تُخرج الإنسانَ من التفاصيل التي يكمن فيها الشيطان – كما في المثل الإنجليزي - إلى مستوى يتّسق مع حقيقة الموت، التي لم يستطع أحدٌ إنكارها أو تجاوزها...

إن الإنسان أمام واقعة الموت يتجرّد من التفاصيل، ويخرج – طائعاً - من المسالك التي كفلت له التعريفَ أو التخصيصَ، ليعود – كما كان - إنساناً مجرّداً من المواقف والتموقفات، خالياً إلا من الرغبة الملحّة في الانتماء...؛ لأجل ذلك بكى جرير يوم ممات الفرزدق، وسمع في صمته صوت القوافل التي ستقلّه، ولأجل ذلك دمعت عينا يزيد بن معاوية على ما تبقى من جسد الحسين، وقال لحظتها ما يجلي لنا انتماءه إليه...

والثاني: أنّ الجهيمان لم يكن يوماً من الأيام رهينَ إيديولوجيا معّينة...، ولقد أراحنا فحسم بقلمه هذا الجزئية منذ خمسين عاماً أو أكثر، إذ نشر في العدد الخامس والثلاثين من صحيفة القصيم (الصادر في أغسطس 1960م) مقالة بعنوان: (أنا مؤمن وكافر)، قال فيها:

« أنا مؤمن بالإسلام وكافر بجميع الطواغيت.. أنا مؤمن بالإسلام وكافر بجميع ما يخالف الإسلام.. أنا مؤمن بالإسلام وكافر بالعرب وبالقومية العربية إذا كان في الإيمان بهما ما يناقض الإسلام أو يقدح في التوحيد.. فهل القومية العربية تخالف الإسلام.؟! إنني أؤمن بالعرب وأومن بالقومية العربية لا على أنها دين.. ولكن على أنها رمز يجمع شتات العرب، ويوحد صفوفهم ضد المستعمرين وضد الطامعين.. إنني أؤمن بالعرب وأومن بالقومية العربية لأنها وسيلة للاجتماع.. وليس على أنها تشريع، له عادات، وله طقوس تخالف الإسلام.. «.

في المقتطف السابق نلحظ الآتي:

أولاً: أنّ الجهيمان من الذين يعرضون المنجزات الفكرية على الإسلام، فيقبل منها ما قبله الإسلام، ويردّ منها ما ردّ، ويجعل هذا أساساً رئيساً في مقالاته، وفي تفاعله مع ما يقرأ، ويقدّمه في هذا المقالة كما لو كان ميثاقا بينه وبين القارئ، يُعدُّ الالتزامُ به شرطاً أخلاقياً ثابتاً...

ثانياً: أنه يبسّط التعامل مع هذه المنجزات، ويخرجها – عند التعاطي معها - من سياقها الثقافي، ومن دلالالتها الاصطلاحية أيضاً...

بهاتين الملحوظتين يكون الجهيمان – منهجياً - خارج حدود التصنيف؛ لأنه لا ينتمي إلى سياق ثقافي معيّن، ولا يؤطِّر نفسَه بدلالات مصطلح أو تيّار، وهذا تحديداً ما جعله فوق التصنيف على مدى خمسة عقود...

لا أختلف مع أحد في أنّ الجهيمان قد مرّ بحالاتٍ متعدّدة (وهو ما يحدث لكلّ إنسان يتفاعل مع ما حوله)، وأنه قد سلك في قراءاته مسالك مختلفة، تأثر فيها برموز تنتمي إلى دوائر متعدّدة ومتباينة...، لكنني لم أجده رهينَ خط فكري معين، ولم يستطع أحدٌ على امتداد هذه العقود أن يتجرأ على تأطيره بالإسلامية، أو الليبرالية... إلا إذا كان يعاني من خلل في معرفة دلالات المصطلحات، أو فهم سياقاتها...

بسبب الهزة التي أحدثتها واقعة الموت، وبسبب تعالي الجهيمان - طوال حياته - على التأطّر والتأطير، اجتمع المختلفون في مجلس العزاء، ووقفوا - رغم التباين الحاصل بينهم - على مسافات متساوية من جسد الراحل وروحه، وكلُّهم كانوا يعبّرون عن فقدهم إياه بلغة واحدة...، وكلهم كانوا شهوداً على رمزيته...

لم ترق هذه الحالُ لبعض المثقفين، المتعالين حتى على الموت، المسكونين بالانفصال والقطيعة، المأخوذين من أعناقهم بالثنائيات والفواصل والجدر، فكتبوا أخباراً ومقالات، حاولوا فيها – وعلى هذه جرت عادتهم – اختطاف الجهيمان من رمزيته، وسرقته من الوطن، ليكون مكسباً من مكاسبهم الخاصة، وكاتباً مطيعاً في دواوينهم مغلقة...، وهو ما أنتج في الصفّ ال آخر ردّة فعل، حاول من خلالها مخدوعون آخرون أن يجلّوا لنا صورا من انتمائه إلى التيار الإسلامي...، ولستُ مبالغاً إذا قلت إن الفئتين بذلتا خلال الأسبوع الماضي جهداً كبيراً في تقليب مقالات الجهيمان بحثاً عما به يثبت انتماؤه إلى فئة...

لقد تألمت وأنا أقرأ لأحدهم مقالة طويلة في الثناء على الجهيمان دون أن أجد فيها دعاء له بالرحمة والمغفرة، ربما لأن هذه الجملة من تراكيب الإسلاميين، وعلى الجهيمان أن يظلّ – من وجهة نظره – بريئا من الإسلاميين حتى بعد مماته...

لقد كتب الجهيمان مقالاته الصاخبة انطلاقاً من المثل العليا، التي تسكن الاتجاهات المتعدّدة، وتشكّل قاسماً مشتركاً بين الأديان كلِّها، وفي المنجزات البشرية بلا استثناء، ولم تكن له من القضايا إلا المطالبة ب (العدالة)، و(المساواة)، و(الحرية)، و(حقوق المرأة)، وجميعها – كما يعرف الجميع – مادة أساسية في أيّ دين، وأيّ نظام...

إن الذين حاولوا اختطاف الجهيمان أرادوا إشباع جوعتهم، ومداواة عقدتهم، على حسابه رمزاً، وعلى حساب الرمزية، وعلى حساب الوطن، وأرادوا أن يمزقوا هذه الصلات التي تربط بين الأديان والمنجزات الفكرية...، كلّ ذلك ليكثّروا به سوادَهم في مجتمع يكتشف يوماً بعد يوم أنهم عربة فارغة، كما اكتشف - من قبل – فراغ عربات أكثر وأكبر، وأرادوا أن يبحثوا لهم من خلاله عن أصل في ثقافة هذه البلاد، وإن دفعوا - مقابل ذلك - مصداقيتهم وأمانتهم العلمية...

لقد عاش الجهيمان مسلماً ووطنياً، ولم يكن إسلاميا ولا ليبراليا، ولم يخض معارك مع هؤلاء ولا أولئك، لأنه كان مشغولا بمعركة واحدة فقط، هي معركته مع الفساد...

إشارة: اختطاف الرموز شكل من أشكال الفساد..

Alrafai16@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة