Culture Magazine Thursday  15/12/2011 G Issue 356
فضاءات
الخميس 20 ,محرم 1433   العدد  356
 
الحنبلية المبكرة في الدراسات الاستشراقية -4-
سعود السرحان

أنهى نمرود هورفيتز أطروحته عن أحمد ابن حنبل ونشأة الإسلام السني في جامعة برنستون عام 1994، وداوم منذ ذلك الوقت على نشر دراسات عن أحمد ابن حنبل والحنبلية استل أغلبها من أطروحته المذكورة. فكانت أول مقالة عن السِيَر والزهد المعتدل (1997). تلاها بعض الدراسات عن حادثة محنة خلق القرآن وموقف أحمد فيها، فنشر دراسة «المحنة بوصفها دفاعاً عن النفس» عام (2001)، وفي العام نفسه نشر دراسة بعنوان «مَن المتهم؟ محنة أحمد ابن حنبل». ثم نشر كتابه «نشأة الحنبلية: التقوى في السلطة» (2002)، وتلا ذلك دراستان عن نشأة المذهب الحنبلي، الأولى بعنوان «من الحلقات العلمية إلى الحركات الجماهيرية: تكوّن المجموعات الفقهية في المجتمعات الإسلامية» (2003)، ثم دراسته عن مختصر الخرقي ودوره في نشأة المذهب الحنبلي (2007). تردد جميع هذه الدراسات الأفكار نفسها، بل تكاد تكون صوراً مكررة لبعض، لذا فسأكتفي بعرض كتاب هورفيتز عن نشأة الحنبلية. قسم هورفيتز كتابه ثلاثة أقسام، تحدث في القسم الأول عن حياة أحمد ابن حنبل وعائلته وتعليمه وتقواه وزهده. أما القسم الثاني من الكتاب فكان عن تكوّن المذهب الحنبلي، حيث يرى هورفيتز أن الطلاب التفوا حول أحمد معجبين به ومتأثرين بزهده المعتدل وتقواه، وبعد ذلك قام هؤلاء الطلاب بجمع تعاليم أحمد في مجموعات أطلق عليها اسم «مسائل». وبناءً على هذا، كما يرى هورفيتز، فإن الحنابلة لم يكونوا فقط مجموعة من الفقهاء الذين كانت مسائل الفقه اهتمامهم الوحيد، بل كانوا أيضاً حركة اجتماعية تتشارك قيماً أخلاقية وعقدية متماثلة. أما المذهب الحنبلي الفقهي فيرى هورفيتز أن آراء أحمد ابن حنبل كانت الخطوة الأولى الرئيسة لتطور المذهب، أما الخطوة التالية المهمة في تطور المذهب فكانت –كما يرى هورفيتز- تأليف أبي القاسم الخرقي لمختصره الشهير في الفقه الحنبلي. أما القسم الثالث من كتاب هورفيتز فكان عن محنة خلق القرآن ودور الإمام أحمد فيها.

إن دراسة هورفيتز تستحق الإشادة لا سيما في إثارته البحث في قضيتين هما طبيعة الزهد المعتدل لأحمد ابن حنبل، وتأكيده على أهمية المكون الاجتماعي للطلاب المحيطين بأحمد. إلا أن هناك عدداً من الإشكالات المنهجية الكبيرة حول كتابات هورفيتز، بالإضافة إلى أغلاط علمية. ولا يسمح المقام هنا بعرض جميع الملاحظات؛ لذا فسأكتفي بالإشارة إلى بعضها. أولى هذه الإشكالات هي عدم استعماله للمصادر الأولية بشكل كافٍ. فعلى سبيل المثال ذكر في كتابه عن نشأة الحنبلية (2002) أنه لا توجد سوى ثلاث من مسائل الإمام أحمد، ومع ذلك فلم يستفد من هذه المسائل في كتابه إلا بمقدار قليل جداً. والمطبوع من المسائل أكبر من الرقم الذي ذكره هورفيتز، فهناك ثماني مجموعات من المسائل مطبوعة اليوم. ومثال آخر، فقد حكم هورفيتز على الخلال وكتبه بأن تأثيرها على نشأة المذهب الحنبلي كانت قليلة، كما أن الخلال لم يكن سوى جامع للمسائل ولم يكن له أي رأي مستقل. واضح من هذا الحكم أنه رد على ميلتشرت الذي أكد على مركزية الخلال في نشوء المذهب الحنبلي. الأمر اللافت للنظر في حكم هورفيتز أنه أطلقه من دون أن يقرأ أياً من كتب الخلال أو يحيل إليها. وبلا شك فهذا خلل منهجي كبير، بالإضافة إلى كونه مغالطة علمية، ليس هذا مكان شرحها. وبإختصار إن كثيراً من أحكام هورفيتز بناها على قراءته في المصادر الثانوية مثل كتب الطبقات والتراجم وليس على المصادر الأولية.

والإشكال المنهجي الآخر هو أن هورفيتز لم يكن على معرفة كاملة بطبيعة بعض الكتب القديمة مما جعله يقع في بعض الأخطاء في استنتاجاته منها. فعلى سبيل المثال ذكر هورفيتز أن تلاميذ ابن حنبل المقربين منه كانوا معروفين بولائهم له واتباعهم لطريقته في الورع والزهد، لكن لا أحد منهم كان معروفاً برواية الحديث، ولذا فلا وجود لهم في كتب تراجم المحدثين. لتأييد هذا الادعاء أحال هورفيتز إلى غياب تراجم تلاميذ أحمد المتوفين بين عامي 256- 275 هـ من كتاب «تهذيب التهذيب» لابن حجر العسقلاني. وهذا يدل على عدم إلمام بطبيعة كتاب التهذيب؛ فهو ليس مخصصاً لتراجم المحدثين في القرن الثالث الهجري كما يُفهم من إحالة هورفيتز، بل هو فقط مخصص لتراجم الرواة في الكتب الستة المعروفة. ومؤلفو الكتب الستة هم في طبقة تلاميذ أحمد، لذا فليس من المتوقع أن يروي هؤلاء بإسناد نازل عن تلاميذ أحمد مع إمكانية أن يرووا الأحاديث نفسها بإسناد أعلى. وأيضاً فثلاثة من أصحاب هذه الكتب هم من تلاميذ أحمد الذين يروون الحديث عنه مباشرة، وهم البخاري ومسلم وأبو داود السجستاني. كما أن الثلاثة الآخرين رووا أحاديث قليلة عن أحمد من خلال تلاميذه الآخرين (كما هو موضح في تهذيب الكمال، وسير أعلام النبلاء).

كما وقع هورفيتز في أخطاء أخرى، سواء في فهم النص العربي أو في قراءة أسماء بعض تلاميذ أحمد المقربين، فمثلاً فهم مقولة أحمد عندما سئل عن نسبه :»نحن قوم مساكين» على أن أحمد من عائلة فقيرة، وإنما مقصود أحمد إظهار التواضع وعدم الفخر بالنسب. كما كتب المَروَذي وفوزان بدلاً عن المَرُّوذي وفوران.

تُرجم الكتاب إلى اللغة العربية ونشر عام 2010، وهي ترجمة لا بأس بها في الجملة. لكن الناشر قام بتغيير عنوان الكتاب ليصبح «أحمد بن حنبل وتشكل المذهب الحنبلي: الورع في موقع السلطة». وقد أصلح المترجم بعض الأغلاط التي وقع فيها هورفيتز في قراءة الأسماء مثل المروذي وفوران، لكنه أخطأ في مواقع لم يخطئ فيها هورفيتز، فمثلاً في ص 24 تم وصف حنبل بن إسحاق بأنه عم أحمد. والصواب أنه ابن عمه كما في الأصل الإنجليزي. في ص 25 تم وصف أبي الوليد بن أحمد بن أبي دؤاد بأنه رئيس المحققين في المحنة. والصواب أنه ابن رئيس المحققين كما في الأصل الإنجليزي. وأيضاً تتحدث النسخة المترجمة عن سيرة إسحاق بن حنبل ص 27، والصواب حنبل بن إسحاق كما في النص الإنجليزي. وللأسف فلم أقرأ إلا جزءاً يسيراً من الترجمة العربية لذا فلا أستطيع تقدير حجم هذه الأغلاط. وهناك بعض الملاحظات الأخرى على الترجمة، لكنها تبقى في مستوى المقبول.

بريطانيا

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة