Culture Magazine Thursday  15/12/2011 G Issue 356
مراجعات
الخميس 20 ,محرم 1433   العدد  356
 
استراحة داخل صومعة الفكر
حقيبة الذكريات
سعد البواردي

طاهر زمخشري

مئتا صفحة

من فينا لا يحمل في دواخله حقيبة ذكريات هي حصاد حياة قضاها وأمضاها كرصيد عمر. يحمل المعاناة.. ويسجل الخطوات، والأمنيات بنجاحاتها وفشلها.. بحلوها وبمرها..؟! لا أحد.. فينا من يرصدها نثراً.. وفينا من يرصدها شعراً.. وفينا من يرويها كلمات محكية.. وفينا من يحتفظها لنفسه دون البوح بها..

شاعرنا الزمخشري أعطى ذكرياته لنا شعراً مقروءاً.. بماذا وعماذا باح من ذكرياته..

بدأها بالمناجات لخالقه: «إلهي»:

إلهي خطايا عن يميني ويسرتي

تلاقح خطوا كم بها يتعثر

وأشباحها سدت طريق مسالكي

بليل طويل صفحة ليس يسفر

وعزمي كليل كيف يحمل خطوتي

ويمضي بها والرشد مني محير

أسير بليل ستره حالك الرؤى

فكيف به يمشي الكليل المعثر؟

إنه خطاب استغفار.. واعتراف بالتقصير.. وكلنا ذلك الرجل.. نخطئ فنعترف تارة.. وأخرى نتمادى في أخطائنا دون اعتراف ودون استغفار.. ومن صومعة استغفاره يأخذنا إلى ذكريات صباه.. وفي بعض الصبوة الكثير من المثير:

ذكريات الصبا بفرط الحنين

حركت في الضلوع نار الشجون

ذكرتني درب ذكرى أثارت

في الحنايا لواعج المفتون

ذكرتني أيام كنت صبيا

أتلهى بصبوتي في سنيني

في ربيع حياته تذكر الشذا ورجع اللحون. والربا الضاحكة للأزاهر.. الورد الذي يغرد بأنفاسه.. القلوب التي تصفق للحب.. الهوى الذي ما زال يداعب أحاسيسه.. ذكريات حلوة لا شية فيها.. وأخرى لها مذاق الشكوى:

ذكريات الصبا استثارت ظنوني

وبحلو الرضا أعادت يقيني

قد دعاني الهوى إليها فلبَّى

خافق يسرع الخطى بالأنين

وأرتني الجمال يضحك للعين

بدنيا أطيافها تغريني

ذوبتني وأرقتني ولكن

نية النفس في الغرام الدفين

غرامه اللاهب بناره كواه أمام مشهد الفتنة التي تملكت حواسه.. وسيطرت على قلبه.. وأسرت عاطفته..

أستطيب الهوى ولو مزق النفس

بإعصار لاهب مكنون

وأعيد الحديث عن سطوة الحسن

وما في لحاظها من مجون

الحب الآسر كالحرب الكاسرة.. كلاهما سلطان جائر.. ومن ذكريات الصبا إلى ذكريات الأمس يأخذنا شاعرنا:

جف نبضي. فأخصبت آلامي

وتوارت عن ناظري أحلامي

فإذا لي على جناح الدياحي

شبح غاب في ثنايا الظلام

ومن الأمس لهف نفسي لأمسي

ذكريات لها تركت زمامي

يذكرنا بيته الأخير بمقولة الشاعر:

رب يوم بكيت فيه فلما

صرت في غيره بكيت عليه

الجراح التي كتبها في أعماقه ترامت وتقاطعت مع دجنة الليل.. رجع الصدى لديه ينزّ دماً! النبض لديه جف.. وسفينة أمسه ألقت إلى العبات مصيرها بعد أن تحطمت المجاديف دون منقذ..

جف نبضي.. وأُخرست أنغامي

فبماذا أنوح للآلام؟

وبقايا القيثار ذَوبُ فؤاد

سال من مقلتي فأبلى عظامي

لا شيء بقي لشاعرنا إلا القبول بما ارتضاه القضاء.. وإلا الإدراك أن الحياة مزيج من سعادة وشقاء..

فيوم علينا ويوم لنا

ويوم نُساء ويوم نُسرّ

تلك هي الحياة..

شاعرنا يسأل الصمت.. لأنه لا ينتظر جواباً.. لأن الصمت أخرس

يا ابنة النور ألف ذكرى بعي

نَيكِ تثير الهوى بقلبي المذاب

رجعت بي إلى الصبا في إطار

ضم أحلى الرؤى لعهد الشباب

في ضفاف بها المسرة تشدد

والمزامير فرحة الأحباب

فالخريف المنهوك ما زال يهفو

لارتشاف المنى بدنيا التصالي

نيابة عن الصمت أقول الخريف أبداً لا يعود إلى ربيع.. والتمني أبداً لا يسترجع المحال وما هو في حكمه شاعر قبلك تمنى، وفشل:

ألا ليت الشباب يعود يوماً

فأخبره بما فعل المشيب

شاعرنا زمخشري غرق حتى أذنيه في بحر الهوى دون أن يقترب من الشط كي يتنفس «دروب النوى» و»على التيار» و»يوم التلاقي» كلها مشبعة بشجون الهوى وشئونه تكاد تعزف على وتر واحد من الحنين والأنين ولحسن الحظ أخذنا فارس رحلتنا معه هذه المرة نحو «مرفأ الأحلام»:

يا شراع الهوى بليل الغرام

لا تخفِ عاصف الهوى المترامي

فالمجاديف ما تزال تغني

والمزامير خفق قلبي الدامي

فاطوِ آماد غربتي بالأماني

فعروس الإلهام لاحت أمامي

ورؤى حسنها تهادت حيالي

ثم راحت تحد من أوهامي

إلى أن يقول مختتماً قصيدته:

فعلى البعد بالرؤى القرى

وأدوس الأشواك بالأقدام

وعلى نوره يجدف ملتاع

ويرسو بمرفأ الأحلام

جولة كسبناها معاً.. وأحسب الجولات القادمة تشي بما ليس في الحسبان.. وهذه واحدة منها في ميزان الربح.. «عبر الأثير» يقول فيها:

أرق من النسيم على الأثير

صدى صوت يغرد كالطيور

معطرة مخارجه بأحلى

وأندى من شذا الورد النضير

تغلفه البشاشة في ابتسام

وتنثره المفاتن كالزهور

«حلم» أو ما يشبه بالحلم طغى على خياله الشعري فأثراه توصيفا وتوظيفاً لمفردات الحسن.. هكذا قال. وغيره على حد قوله قالوا:

وقالوا فتنة نطقت فجاءت

بأصفى من سنا القمر المنير

في هذا ما يكفي وزيادة.. ومن فاتنته إلى حيث الشاطئ المحور وشاعرنا يرجع تغريده..

يا شعر قيدت من خطوي بميزان

فرحت أخطر مزهوا ببستان

الحب في فيئة قد مدَّ أروقة

بها الأماني تناغي رجع ألحاني

تثير فينا الهوى نهفو للاعجه

ولو رمانا لإعصار ويلجان

ولا أزال على الابتهاج يحملني

فلك يدور ولا يرسو بشطآن

وما تكسر مجدافي ولا وهنت

عزيمتي فالهوى المشبوب سفاني

هكذا حال الشعراء تارة يغرقون وتتكسر مجاديفهم.. وأخرى ينجون ويغنون للنجاة.. مرة يصرخون حزناً.. وأخرى يصدحون فرحاً.. هذه العناوين أتجاوزها في حب لأنها عن الحب وشظايا الحب. وآهات الحب.. وشاعرنا الكبير الراحل أتخمنا حبا بآهاته وتأوهاته إلى حد الشبع.. «وحدي»، «رفيق العمر» «الأمل الأخضر» «أنفاس الصمت» «ما وراء الصمت» «سفراء أغنية» «على الدرب» «وفي السطح». ونتوقف سوياً مع شاعرنا «بين الخيام» لعل وعسى:

فوق هام السحاب في الأفق الأخضر قامت مسارح للأماني

وتراءت آماده بالبشاشات تبث الفتون ملء المكان

وانتفاضات بدعج في الحنيا تترامي فوق «الهوا» بالأغاني

لا مفر ولا مهرب من الحب.. الشعر العاشق يفرض نفسه على الزمان، والمكان، والإنسان لأن الحياة وحياة بلا حب موات:

هي في زحمة المواكبة بالحسن تناغي القلوب بالألحان

وهي بين الخيام تنعم بالنجوى وقد لفها الرضا في أمان

والنسيم لاعليل يسترق السمع ويفضي بالسر للأغصان

رائع بيته الأخير:

أما شاعرنا.. فقد عرفنا بمكانه:

وأنا فوق صخرتي ألثم الفجر وقد لفَّ بالسنا أشجاني

هذه المرة يأخذنا إلى خيمته البيضاء المنصوبة في الهدا صبيحة يوم جميل شمس السماء شعاعها يعانق نور وجه الأصيل والرداء البنفسجي وضيء الذيول كما يصفه.. وحيث الحسناء تختال من فتنتها على وقع أغاريد الصبية والصبايا:

الهوى في الهدا. وفي الخيمة البيضاء أشرق بسمة للعليل

والصفاء المنسوج في مغزل الزرقة يلهو بهاؤه بالعقول

يقرع السمع بابتسام الأزاهير وقطر الندى وهمس النخيل

كلها تنشر المفاتين في الربوة والسفح وانطلاق السهول

ترى من تكون هذه الحوراء الفاتنة التي تملكت لبَّه.. ومنحها شعره عصارة فكره

وهي «شامية» إذا ما استهلت ونسيب الاثنين أزكى الأصول

وعلى الحب صفقا للتلاقي فاستعاد الصفاء» طاب مقيلي..

من خيمته إلى الربيع الذي عاد من جديد بالأفراح. وظلمة الجراح:

أنتِ يا بلسم الجراحُ تنزت

فتصيدت شافيا لجراحي

أنتَ يا عودة الحياة لقلب

عاد يشدو بخفقة الصداع

للسنا فيكَ للشذا في حوا

شيكَ. لمعنى السمو بالأرباح

بشارة حبه تعزف أجمل ألحانها كيف لا وقد علمته الهوى. وأردت بالجنان أحاسيسه وأترحت أفراحه فكانت منه بمثابة الصباح حيث الآمال.. وحيث الليالي الملاح.. ويردف قائلاً:

قلتَ إني الربيع هذا صحيح

والبراهين في اللحاظ الصحاح

لم تكسّر إلا لتزداد فتكا

وتمد الفتوت في كل ساح

كثيرة تلك اللقاءات «تارة في أعماق البحر. وأخرى في الشطر ومرة داخل الخيمة. ورابعة في الهدا. وخامسة على «باب الهوى»..

على باب الهوى وقف الجمال

وبالأشواق طال بنا المطال

وكاد العذل يقطع حبل ودِّي

فأوثق حبلَ صوتنا الكمال

تكاشفنا فأكد لي هواه

بأن الصفو يفسده الجدال

ترفق في العتاب فماتَ غما

بحلو عتابه قيلٌ وقال!

أهيم به على الدنيا وأشدو

وترجع رجع إنشادي التلال

الواو في الشطر الأخير زائدة ومخلة بإيقاع البيت. شاعرنا فقد رفيقه.. وبعد لأي وطول جهد وجده في طريقه يختال بقوامة الرشيق.. حدثته بجفونها عن الهوى.. أثارت لديه الشجون ثم أذكت بما أثار حرقته:

ظمأ الشوق كاد يخرس آهاتي

فأفضي بما أحس شهيقي

يا ربيع الهوى أعدت لي العمر

ربيعا مفرد التنميق

كثيرة مواقفه بعدد عناوين شعره.. منها هذا الموقف الجديد:

في الدياجي لدار أخت الثريا

لم أزل أعبر الحياة شقيا

كل ما أرتجيه كان لقاء

لبيته يا لشقوتي ماتهيا

جاذبتني الهوى فقلت نعيمي

في ظلال الرضا يفيض نديا

فتبسمت موقنا أن سعدي

مدَّ روقا بظله أتفيا

أعرف الرواق لا الروق ربما لضرورة الشعر: فارس شعرنا الوجداني الراحل طاهر زمخشري اختار لنا الحمراء محطة نتوقف عندها وقد عاد إليها يستعيد شيئاً من حقيبة ذكرياته:

يا بساط الرمل في أكرم بيد

ومجالي الحب في أرض الجدود

يا براري كتب السحر بها

آية الفتنة في وجه الصعيد

يا جبالا أتلعت أعناقها

ليباري الحسن فيها كل جيد

إلى أن يقول وقد طال به الشوق والحنين.. والوحدة..

وحدتي تجمع أطراف المدى

فوق أهدابي على الطرف السهيد

والنوى طال وما زلت على

دربه أهفو إلى العود الحميد

وفي ختام مقطوعته يصف عروس البحر (جدة) حيث الحمراء التي يهفو إليها ويصفها:

فهي للبحر عروس ثغرها

راقص الإشعاع يشدو للخلود

أطياف الحلم الأخضر محطة جديدة أجتزئ منها هذه الأبيات الثلاثة:

يا حطام القيثار صوت أنيني

لم يعد هامسا برجع أنيني

معزفي كان خائفاً يتغنى

ويروح الصدى بفرط حنيني

كلما رفَّ أو هوى لجِمال

سكب الآه في شفاق الدجون

تجاوزنا بعضا من محطات الرحلة.. نتوقف سوياً مع محطة «الأذن تعشق»

«الأذن تعشق قبل العين أحيانا»

فهل أُلام إذا أصبحت هيمانا؟

وقيل: في النظرة الأولى مثار هوى

وهمسة منك أذكت فيَّ نيرانا

قد مرَّ عامان والذكرى تعاودني

كأنما انسكبت في مسمعي الآنا

وكيف تسأل عن سر أكاتمه؟

وقد أثارته بالتسآل بركانا

لا خشية من السؤال في قاموس الحب المباع.. حتى الصمت أحياناً إنه يرقى إلى درجة الصوت لأن علامة القبول..

شاعرنا اختار روضته في العيد..

لست أدري أفرحتي باللقاء

أخرست معزفي فجاد بكائي؟!

كيف يبكي من المسرة صبّ

عاش نضواً ممزق الأجزاء؟

تنتهي به الشجون من البعد

فتندى جفونه بالدماء..

وعلى غير موعد جاءت اللقيا

بأحلى منىً فطاب مسائي

«مناجاة زهره» بماذا أوحت لشاعرنا الزمخشري؟

يا زهرة الروض بي حب أكابده

فهل تعالجه بالسحر عيناكِ؟

فأي يوم عيوني لا تراكِ به

تعشى وتبصر إن لاقت محياكِ

في كل ثغر ولي من رجع وردته

لحن يناغم بالأنفاس رياكِ

في كل طرف ولي من سحر نظرته

شدو. ومعزافه أسياف سفّاكِ

إلى الخليج انتسابي والفداء له

فرض. وأحلى الهوى موتي بيمناكِ

وأنتِ أخت الثريا. والحنين لها

أثاره في حواشي النفس مرآك

هكذا شاعرنا لا يكل ولا يمل.. شعره عاطفة عاصفة مشبوبة الأدار لا تكاد تنطفئ رغم هبوب العواصف في وجهها.. لأن عواطفه هي وجباته التي يملأ بها قلبه.. وهي مداده الذي يحرك به حبه.. دون أن يجف مداده.. ولا يخف صوته واستعداده.

ومع شاعرنا الراحل طاهر زمخشري في مقطوعته «أحلى من الخبر» عبر ديوانه «حقيبة الذكريات»..

آمنت أن الهوى يأتي على قدر

وأنه إن رمى يصطاد بالنظر

ما كنت أحسب أني قد فتنت به

وكان أول ما ضيعته حذري

نادى عليَّ بإيماء أخذت به

وما فطنتُ بأن السهم في الحوَر

تُرى من السهم هل ألقى إذا اشتعلت

فيَّ الحرائق ما ينجي من الخطر؟

في مقطوعته يعترف بمسار حبه.. يراه هبة روح تسبق السماع والرؤية.. وأنه مَخبر أحلى من الخبر:

من الملائك شفاف الضياء وإن

بدا بهيئته في صورة البشر

له الفداء حياتي لا أضِن بها

حتى ولو لم أنل من حبه وطري

يكفي اعترافي بأني للهيام به

وهبته الروح قبل السمع والبصر

حتى إذا قيل من تهوى أقول لهم

من جاء مخبره أحلى من الخبر؟

أخيراً.. مع هذه الأبيات الأربعة المعبرة والمعنونة «أنت الخصم والحكم»

تقول بالعين شيئاً لم يقله فم

وإنها للذي تخفيه تبتسم

يا صب إن كنت مفتونا فكن حذرا

إني أخاف إذا أحببت تنظلم

فردَّ عني قلب كلما همست

بالجفن ضاع من دقاته الألم

إني وربكِ يا سعدى أسير هوى

فإن ظُلمتُ فأنتِ الخصم والحكم

إلى هنا.. وتنتهي رحلة الأشواك والأشواق إلى درجة الاحتراق.

الرياض ص. ب 231185 الرمز 11321 فاكس 2053338

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة