Culture Magazine Thursday  17/02/2011 G Issue 332
فضاءات
الخميس 14 ,ربيع الاول 1432   العدد  332
 
تحية لحضور الغياب
فيصل أكرم

من حيث المبدأ، عندما يموت أحدُ العظماء فيسارع عددٌ من الروائيين وكتاب الدراما ومخرجي ومنتجي المسلسلات التلفزيونية إلى التجهيز لإعداد وإنجاز عمل روائي - درامي تلفزيوني يتناول سيرته الذاتية ومشواره من الولادة إلى الوفاة، فإن ذلك يبدو استغلالاً لقيمة الفقيد واستثماراً تجارياً وفنياً - سطحياً ومستهجناً - لا يقبله الفكر الواعي الملتزم بالمبادئ الأدبية والضمير الثقافي الداعي إلى التأبين اللائق والاستحضار المتوالي المتزن حتى الخلود..

وحين سمعتُ أن عدداً من أصدقاء الشاعر الفلسطينيّ الراحل محمود درويش يعملون على تحضير مسلسل درامي عنه (كرمز) خطر ببالي أنني سأرفضه (كمشاهد) لأنه لن يخرج عن إطار الدائرة الاستغلالية المندفعة إلى تكريس شخص بمبالغات تجعل منه (أسطورة) تقضي على عظمته (الإنسانية) كمبدع من كبار مبدعي الكون الذي نعيش فيه..

غير أن البرنامج التلفزيوني الشهير (خليك في البيت) الأسبوع الماضي، جعلني أغيّر تلك النظرة السلبية وأترقب بكثير من الإيجابية عملاً كبيراً يستحق المشاهدة، فقد كان لقاء الأستاذ زاهي وهبي بالفنان والمنتج فراس إبراهيم في غاية الشفافية والصدق النابع من محبة الرجلين للراحل الكبير، مما أظهر التفاني في الإخلاص لسيرته.. وقد بدا واضحاً أن مسلسل (في حضرة الغياب) لم يكن نتاج فكرة استثمارية نجمت حين وفاة الشاعر وفقدان الوسط الثقافي لصوته المدوّي في أرجاء الوطن العربي كله مناضلاً من أجل القضية الفلسطينية، بل هو شيء آخر تمت دراسته بكثير من المصداقية والمحبة والرغبة في المحافظة على القيمة التي حققها الشاعر في رحلة كفاحه، لتكون وثيقة فيها ما فيها من الإضافات الافتراضية غير المخلة بالسيرة أو المزيفة لها، إنما فقط من أجل تقديم صورة تحتمل الأوجه الإنسانية المتعددة لإنسانٍ موهوبٍ مبدعٍ عرف كيف يكون رمزاً شهيراً ومتطوّراً وحاضراً ومؤثراً في أجيال عديدة من الشعراء..

كان حديث فراس إبراهيم مقنعاً جداً، بصراحة، ومع أن لا وجه شبه بينه وبين محمود درويش إلاّ أنني رأيته مناسباً للقيام بدوره، حتى يعطي القدر العالي لقيمة المنجز الشعريّ والثقافيّ الذي اشتغل عليه محمود درويش بمنأى عن تفاصيل الملامح والجسد ونبرة الصوت الحادة والمميزة التي ارتبطت بطريقته في إلقاء شعره على الجماهير.. وفي مشهد من المسلسل تم عرضه في البرنامج، يظهر فراس إبراهيم ممثلاً لدور محمود درويش واقفاً على المنبر يلقي إحدى قصائده، وقد كان الفرق شاسعاً جداً بين هيئة الممثل وهيئة الشاعر، والفرق الأكبر كان في نبرة الصوت، إذ لم يقترب الممثل وربما لم يحاول الاقتراب من النبرة العالية الصاخبة التي عُرف بها الراحل، فطبقات الصوت في الحنجرتين مختلفتان جداً، وقد كان ذلك الاختلاف – برأيي – هو الخيار الأفضل من أجل توثيق القيمة الفكرية متجرّدة عن المؤثرات المتمثلة في الهيئة الشخصية للشاعر وقدراته الجسمانية المتفق على تميّزها، فهي محفوظة ومسجلة ومتوافرة عند من يرغب في الرجوع إليها.. لهذا كله، ولغيره، وجدتُ أن المسلسل سيكون عظيماً، ويستحق التحية والإعجاب، منذ عنوانه المستعار من عنوان كتاب (نص) نثري بروح الشعر والشاعر (في حضرة الغياب) وحتى بقية التفاصيل التي ننتظرها بمحبةٍ وإجلال..

يقول الراحل محمود درويش، رحمة الله عليه، ضمن كتابه (في حضرة الغياب) الصادر قبل غيابه عن دنيانا بعامين:

(وعليك ما عليك:أن تدافع عن حق النافذة في النظر إلى العابرين، فلا تسخر من نفسك إن كنت عاجزاً عن البرهان؛ الهواء هو الهواء ولا يحتاج إلى وثيقة دم).

ffnff69@hotmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة