Culture Magazine Thursday  17/02/2011 G Issue 332
سرد
الخميس 14 ,ربيع الاول 1432   العدد  332
 
قصة قصيرة
المسلك
سعاد فهد السعيد

رقم الملف: 15411

الاسم: سارة ناصر سلمان

المهنة: طالبة في السنة الثانية الثانوية

العمر: 17 سنة

ترتيبها: الثالثة من خمسة أبناء

بنت وولد أكبر منها، وبنت وولد أصغر منها

* * *

قلما تنظر وجهًا لوجه إلى والديها، تحدثهما -لو جاءت مبادرة حديث منهما- صادة مصعرة وجهها، أو تجول ببصرها في كل الاتجاهات وتتحاشى التطلع إلى جهتهما، ولو انتبه والداها لوجدا أن آذانهما لم تُطرق بكلمة «أمي وأبي» فهي منذ وعت نبذتهما من حواسها، فقط تناديهما في وحشة غرفتها لتعلنهما بعذابها. وتراقبهما خفية -متى لهت أبصارهما عنها- في كل تحركاتهما وتعاتبهما بلا صوت وتلومهما على اختيار هذه الوظيفة، على قسوتهما في تجاهل مشاعرها والرعبِ الموزعِ في أجناب البيت المتدفقِ مع المياه الجارية فوق الأموات. تنظر إليهما على أنهما سبب تعاستها، وأنهما منحاها أقبح لقب (ابنة مُغسِّلي الموتى). ورسما في مخيلتها أبشع الصور صور الأموات وجثثهم الحائلة، فغدت منطوية تتجنب زميلاتها في المدرسة، لا تحدثهن، ولا تعلب معهن، تجلس في زوايا الفصول، وزوايا الأسوار، تهرب من كل مخاطبة لها تخوُّفًا أنه قد وصل إلى علمها أنها (ابنة غسَّالي الأموات). آلم يوم في حياتها والذي جعلها تهاب كل متحدثه وتخشى كل مرافقة يوم صدمتها تلميذة في الفسحة تجلس قريبًا منها فابتعدت متلفظة «إني أتقزز من الأكل بجانبها، دائمًا أرى الجثث تدخل منزلهم». المدرسة كابوس يومي تنتظر الجرس يرشقها برنينه لتفوق من تعاقب ساعاته التي تُفتِّتْ أعصابَها وتُصدِّع تماسكَها، تستبشر بتهالكها تدريجيًا دون أن تتقاسم الحديث عن عمل والديها، وتدخل في صراع مع ساعات أخرى؛ البَدْأَة ساعة ولوج البيت خاصة حين ترى سيارة تقف عند الباب والجثث تُنزل منها. رائحة أوراق السدر النشير في البيت تبث الكآبة في نفسها، وعندما تفوح رائحة المسك ينقبض صدرها فتمتنع عن الأكل والشرب، ارتبطت تلك الروائح ببَدْء مراسم مروعة. سمعت بمغاسل الأموات، وودت لو أن أمها وأباها يلتحقان بتلك المغاسل، لكنهما يحبان ممارسة الطقوس التقليدية في عملهما، الطقوس التي تذبحها. تذهب أمها أحيانًا إلى البيوت لتغسيل موتاهم، وكانت بهذا تغسل مخها وتوهم نفسها بأن أمها تذهب إلى مكان بعيد فإذا جاءت فلا تحدثها ولا تسألها أين كانت، وما فعلت؟ وكذلك يفعل أبوها. عندما تشاهد إخوتها الأصغر منها يأكلون تقول لهم «في الوقت الذي تصلون فيه الصف السادس الابتدائي ستُبغضون الأكل والشرب، وتقرفون من هذه الحلوى التي تتصارعون من أجلها». لا تضحك ولا تبتسم ولا تلعب كالأطفال، متكورة في إحدى غرف البيت، وتحقد على الأطفال الذين تشاهدهم في التلفاز، وتلفاهم لا يشبهونها لأنهم لا يحترقون بمناظر خراطيم المياه وليف الدلك والصابون والأقمشة البيضاء وقوارير العطور المختلفة؛ الأدوات التي قهرت طفولتها بالخوف.

زهدت في مراهقتها عن متطلبات المراهقات من مكياج وموضات الأزياء والأحذية والحقائب، وإذا عرضت عليها أمها لتذهب وتشتري ما يحلو لها، ترفض قائلة «لا أريد» ولا تزيد هذه اللفظة، لا أريد الحياة في عيشة قاتمة تخنق البهجة، لا أريد من يعرض علي التجمل الخارجي، ويمنحني الخراب الداخلي، لا أريد من يُقدِّم إلي الزينة الجسدية، ويُشوِّه روحي بالحزن. اقتناء الملابس وأدوات الزينة لا يجلو قنوطها من منظر ازرقاق الأجسام وابيضاض الشفاه وزوغان الأبصار وتيبس الأعضاء، من رائحة أمها وأبيها، ترفضهما وترفض وجود جسدها معهما.

الجامعة عالم آخر ليس مثل المدرسة التي تتبع الحي وكل من فيها يهمس بوظيفة والديها، دخلتها كدخول بلد أجنبي، في سفر عن حارتها، صارت متكتمة لم يسمع أحد عن عائلتها، الجميع يعرفها باسمها (جوهرة)، تدفن عائلتها مع مرورها ببوابتها. مع أنها كانت تزهد في الأشياء الجديدة لأنها لا تجد لها قيمة في بيئة عائلية يعبر الخلقُ خِلالها من الهواء إلى التراب؛ بَدَأَت في الجامعة تسعد ولو بشكلٍ قليل بكل ما يستهوي الشابات، لا بأس بالصداقات التي تُجهل فيها العائلات، لا مانع من الصديقات اللائي لا يعرفن شيئًا عن الحياة الخاصة، ولا يسألن عن الخصوصيات؛ تآلفت مع طالبة، وصارت مرافقة لها وصديقة مقربة. تكثر صديقتها من ترداد اسم أخيها عبر نقل أخباره، حتى أنها في بعض الأحيان عندما تتصل بها تقول «اسمعي أخي! ما يقول! هاتك انصحيه ليكفَّ عن مضايقتي بمقالبه! دافعي عن صديقتك الغالية من تظارف أخيها المزعج». كان إعجابها بالشاب كإعجاب فتاة بمذيع أو مطرب أو لاعب كرة، لا تسمح لمخيلتها بالحفر وإخراج الأحلام، سايرتها مخيلتُها فجعلت تربتها صلبة. وهذا الدفن للمشاعر وا لأحاسيس صار تبلدًا تلقائيًّا لا يسبب لها مضايقة فهي متكيفة معه، بل ويجعلها أكثر انبساطًا وتقبُّلاً للحياة. بعد كل مكالمة تسمع فيها أخبارَ أخي صديقتها أو صوته تجلس أمام المرآة وتفلي خصلات شعرها وأطرافه، لا مُحفِّزَ لتسريحه، كلما أمسكت بالمشط تظهر صورة أمها وهي تُرجِّل شعورَ الجثث وتضفرها جدائلَ مسترخية باسترخاء عالمهن. مقتت تجميله.

بينما تجلسان ذات يوم في حديقة الجامعة تشرب صديقتها الشاي مع وجبتها، في حين (جوهرة) بلا شهية، لم تمس وجبتها، فوجئت بصديقتها تضع طبق البطاطس المقلية أمامها وتدعوها لتشاركها في الأكل، كانت هذه الدعوة صدمة، تخدَّرت للحظات تصن في أذنيها «أقرف من الأكل بجوار ابنة مُغسِّلي الموتى» لم تمد يدها، وشكرت صديقتها، التي ظلت تلح عليها حتى باغتتها قائلة «(جوهرة) ما رأيك لو أخطبك إلى أخي؟» أطالت (جوهرة) السكوت، ولم يكن من فجأة ألمّت بها أو فرحةٍ تكتمها أو حزن تبطنه، بل قناعة منها باستحالة الأمر، لا تطلب شيئًا في هذه الدنيا مادام والداها يتنفسان خليط الحياة بالموت، وحالما ينفد نفس الحياة عندهما ستفكر بالحياة، حتى دخول الجامعة لم يكن من الأمور المحببة لها أو الأُمنية السعيدة، لا فرق عندها أن تجلس في البيت أو تلتحق بالجامعة، بل إن أيام المدرسة كانت أيامَ شقاء ومن المراحل المقيتة. وردت بكل اقتناع ودون تردد «أخوكِ ظريف وحبيب، لكن لا أرغب في الزواج».

- «لمَ يا جوهرة؟ فكري في الموضوع! ألا تودين أن نكون الصديقتين الدائمتين في الجامعة وخارجها؟» (جوهرة) لا تحب صديقتها ولا تكرهها، شعورها اتجاهها عادي سواءً عندها انفصلت عنها أم لازمتها، ومبادرة الصداقة جاءت من الصديقة، تقبلتها فليس في الأمر ما يزعج مادامت لا تعرف عائلتها. قالت الصديقة: «على حين غرة ودون مقدمات ستريننا في منزلكم نطلب يدك» وحست (جوهرة) أن كتلَ تراب تضغطها داخل قبر.

دخلت غرفتها، ووجدت على تسريحتها أغراضًا جديدة؛ علبة مكياج وأدوات زينة، وإكسسوارات، سألت أمها عن هذه الأغراض، وأجابتها بأنها اشترتها عندما خرجت من مستشفى تشهد احتضار إحدى المريضات، قالت جوهرة «أرجوك لا تحضري لي شيئًا، لا أريد شيئًا، فقط أريد أن أموت... أعيش إلى يوم مماتي وتغسلينني وتكفينني ويأخذني والدي ويسقطني في حفرة ويهيل التراب علي» ثم رمت بالأغراض خارج الغرفة وأغلقت الباب. وصاحت بصرخة مكتومة بالمخدة «أنا أكرهك يا أمي.. أنا أكرهك يا أبي.. لماذا أنتما والداي.. لا أحبكما.. أمقتكما يا ليتكما تموتان وأرتاح منكما.. آه لو تموتان! لو تصدمكما سيارة في الطريق! آه لو ينهدم عليكما المسكن.. تحترقان.. صديقاتي يتقززن مني وأنا أقرف منكما.

أفاقت من نوبة البكاء التي أخذتها في غفوة طويلة منذ مجيئها من الجامعة إلى هذا الوقت من الليل. في عتمة الغرفة بدأت تفكر في طريقة للخلاص من بيت الأشباح ومن رائحة السدر وشم المسك، من منظر أبيها وهو يتردد من غرفة تغسيل الأموات الملحقة بحوش البيت إلى داخل المسكن، من منظر أمها التي هيَّأت هي أيضًا حجرة في الوحش لغسل الموتى من الإناث، غرفتان في المسكن الذي تنام فيه وتأكل وتشرب مخصصتان للأموات، غرفة للموتى الرجال، وأخرى للموتى الإناث -حقدها على أمها يفوق حقدها على أبيها مع أنهما لهما نفس الوظيفة ذلك أن أمها ترغمها دون قصد على معايشة تلك الطقوس المفزعة، تنادي عليها أحيانًا لتطلب منها بعض الأشياء في أثناء عملها، فتطلب إحضار الصابونة وأحيانًا الليفة، فترضخ بكل ألم- قررت أولاً ترك الجامعة، فلن تذهب من هذا اليوم إليها، وبيَّتت النية في ضحاه؛ فبينما إخوتها في المدرسة، ووالدها خارج المنزل، وأمها تنتظر وصول جثمان، سبقت أمَّها إلى غرفة التغسيل ودعكت أرضيتها بمسحوق التنظيف، فلما دخلت الأم لتجهيز الغرفة، وفي أثناء تحركها تَغفَّلتْها وبللت أرض الحجرة بعد أن عرفت المسافة بين أمها وصنبور الماء الذي يمتد فيه الخرطوم، فتزحلقت الأم وتحاشت عند سقوطها الحنفية، فاصطدم بالجدار فدفعتها البنت إلى الحنفية فصكت رأسَها ورشق الدم، وانتظرت ريثما تسيل الدماء، وتفقد الكثير منها.

عادت إلى غرفتها وحين سمعت طرق الباب وبعد فترة طويلة من الطرق خرجت لتفتح فإذا بعائلة الميتة ومعها الجثمان، قالت «لحظة سأنادي أمي أنها تغسل أرضية الغرفة وتنظفها استعدادًا لكم، تفضلوا!» وحالما وقفت بباب الغرفة مع العائلة صرخت وهُرِعت إلى أمها تنادي «أمي أمي ساعدوني أرجوكم، أمي مغمى عليها، أمي تنزف» وأسرعت تطلب أباها بالهاتف.

جاءت الإسعاف وأعلن الطبيب وفاة الأم بسبب سقوطها على آله صلبة تسببت في إصابتها بجرح بالغ نزفت على أثره نزفًا مستمرًا حتى فارقت الحياة. جاءت الشرطة، وقال الأب «هي معتادة على تنظيف غرفة التغسيل وغسلها قبل استقبال الزبائن».

يد أصغر إخوتها تهز كتفها في اليوم الثالث من وفاة أمها، ويقول «أبي يطلبك في الحوش»، استقبلها أبوها بقوله «بارك الله فيك يا ابنتي، اتبعيني» ودخل معها غرفة غسيل موتى الإناث، فرأت أمها مسطحة، فعرفت غرض والدها، لكن صمتت لينطق بطلبه، ولم يطل حتى قال «بارك الله فيك، اغسلي أمك» وشرح لها طريقة الغسل، كانت تعرف أن ملف الطب الشرعي موارب ولم يُحكم إغلاقه، وحتى يُقفل ويَضيع مفتاحه لا بد أن تخضع لمطلبه، خرج أبوها، فأقامت ثلاثة جدران قبل اقترابها من الجسد المتجمد بفعل بُقْيَاه في ثلاجة المشرحة إذ تسلَّمه الأب قبل قليل؛ الجدار الأول أقامته على عقلها ليصطدم به الزمن ويتوقف فلا تتموج الأحداث العالقة به بين القبل والآن والبعد، والجدار الثاني على عينيها ليغطي كُنْهَ الجرم المتمدد أمامها لبشرٍ يكون أو قطعة أثاث، والجدار الثالث على روحها ليحجز مشاعرَها سواء ما يؤدى منها إلى الإحساس بالذنب وتأنيب الضمير واقتراف الخطيئة، أو التي تؤدي إلى الانشراح بالانتقام، والعزاء بالتخلص من مسبب تعاستها، والتفريج بالخلاص. غسلتها ليس بالكيفية التي أرشدها إليها أبوها؛ مررت خرطوم الماء ليغمر الجسد ذهابًا وإيابًا. في حين لم يثر فيها الجسدُ الخائر بخرمه البنفسجي في مؤخرة الجمجمة نزيرَ المشاعر؛ هزها مرأى الصنبور لما التفت لتحبس الماء، وشرخ الحيطان الثلاثة لثوانٍ، فألفت نفسها في ساعة ضحى في غرفة تغسيل الأموات تمارس عملية الغسل على جسد أمها وأن منفذًا في النخاع هي التي أحدثته لتمر منه روح أمها ويغيب جسمها إلى الأبد عن عينيها وعن البيت، وحست بالقهر الخالي من الندم، فتداركت نفسها وزادت من سماكة الحوائط, ولفت أمها في الكفن وخرجت متجاهلة إعلام أبيها الذي جاء قبيل صلاة الظهر وحمل الجنازة.

بعد أسبوع ناداها أبوها وقال «يا ابنتي، أنت تركت الجامعة، فلِمَ لا تمسكين مكان أمك في العمل؟» تأججت وكادت تنفجر في وجهه هاجمةً ممزقةً له، لكن الشرطة لم تبرح دارهم طوال هذا الأسبوع تأخذ الأقوال وتعاين، وكأن في الموت لغزًا، فلمْ ترفض إبعادًا لشبهة بغض عمل والدتها. وخيّرها بين العمل مُغسِّلة موتى في المنزل، أو غسَّالة موتى في المغاسل الخارجية، قالت «بل أفضّل المغاسل الخارجية». قال «على راحتك».

أخذها في الغد إلى المَغْسَلة، وقال لقد اتفقت مع صاحب المَغسَلة على كل شيء فقط اذهبي إلى فلانة لترفقك بالعمل وتشرح لك الأمور.

مرت تسعة أشهر وهي تعمل مُغسِّلة أموات، أهملت فيها إخوتها الأصغر منها، تدخل البيت دون أن تعطيهم فرصةَ نشدانِها حاجتهم، وتخرج منه صامتة، حتى نظرها لا يعبهم، يكتفي إخوتها بأكل الخبز الذي يحضره والدهم مع المعلبات والأشياء الفورية التحضير التي لا تحتاج إلى طبخ، فقط تحتاج إلى تسخين أو تقليب على النار، لا تدري من ذهب منهم صباحًا إلى المدرسة ومن عاد في الظهيرة. تظل بالثلاثة الأيام والأربعة لا يستقبل جسمُها الطعام، ومتى تذكرت حق بدنها تناولت قطعة خبز مع المربى أو الجبن، ولا غضاضة عندها لو أنها تناولتها حافة. قصت شعرها حتى لا تحتاج إلى تمشيطه، وفي العمل تلفه بالطرحة وتنسها أحيانًا ملفوفة على رأسها في البيت، بل وداخل غرفتها.

أخبرتها المشرفة ذات يوم وهي في مَغسَلة الموتى أن ثمة سيارة إسعاف قد وصلت، وعليها تولي غسل الجنازة، أُدخلت الجثة وبرفقتها خمس نساء؛ امرأة متوسطة العمر باديًا عليها القنوط والتأثر. وضعت (جوهرة) الجثمان للتجهيز، وجاءت عيناها على عيني شابة، كانت صديقتها، الجثمان لامرأة عجوز فعرفت أن المرأة المتأثرة ابنتها، وأنها أم صديقتها، وربما الثلاث الباقيات يكن الخالات. كأنها وصديقتها لم تكونا يومًا رفيقتين حميمتين في الجامعة، وكأنها لم تعزم عليها يومًا بطبق البطاطس المقلية ليتقسما الطعام معًا، وكأنها لم تطلبها زوجة لأخيها، كلتاهما تتجاهل الأخرى وتتنكر لها. لم يبدُ على الصديقة التأثر والحزن على جدتها، ولم يبدُ على (جوهرة) الإحراج من عملها، ومارست طقوس الغسل والتكفين بكل مرونة وثبات، وغادرت المكان إلى غرفة أخرى في المَغسَلة.

في طريق عودتها إلى المسكن استنكرت عدم سؤال صديقتها عن سبب تركها الجامعة، وعن سبب عملها هذا، فتأكدت أنهما الآن في عالمين؛ عالم حي تعيش فيه صديقتها، وعالم الأموات تعيش فيه هي والجثث، لذلك صعبٌ استقبالُ كل واحدة منها الأخرى وإقامةُ حوار معها.

عند مدخل البيت شاهدت أباها فرددت «أكرهك يا أبي، أمقتك يا أبي»، ودلفت داخلاً، وقالت بصوت عالٍ وهي تلج غرفتها «ليتني أقتل الأموات» وصلتها ضحكةُ أخيها مع تسكيرها الباب، شمت ألبستها ويديها فشمت فيها بقايا روائح الموت؛ رائحة ورق السدر والمسك فانقبض قلبها وانحدرت نحو ظلمات ذات طنين صاخب، ثم قبت من ذاك المنحدر وهي تردد «أكرهك يا أبي أبغضك»، جاء النهار ولم تنم ولم تبك مثل تلك الليلة التي رسمت فيها مقتل أمها، نفضت الأغطية المندسة فيها، وخرجت من لهيب حج رتها حالما اطمأنت أن إخوتها غادروا إلى مدارسهم عدا الأصغر منها الغاطس في النوم، وكانت تعلم أنه سيكون مستغرقًا في نومه لسهره إلى استطارة الفجر.

ولجت المطبخ وأخذت أكبر القدور، وارتقت الأرفف السفلية ووضعت القدر الكبير فوق الأرفف العلوية، ثم صفت في جوفه صحون الصين الثقيلة الواحد تلو الآخر ثم غطته ونزلت ووضعت كرسيًّا على الأرض مباشرة باتجاه القدر، ثم خرجت إلى الحوش تنادي أباها الذي يبتكر بعض التركيبات العطرية ويقص أمتار الأكفان ويصنع النعوش، فوالدها بالإضافة إلى عمله كمُغسِّل للموتى يعمل حفار قبورٍ، يُلْحِد الأمواتَ في أجداثهم. أقبل عليها من غرفة التغسيل، فقالت «عجزت عن الوصول إلى القدر في أعلى أرفف المطبخ، هل لك سحبه وإنزاله». صعد الكرسيَّ -المقام سلفًا- مرتكزًا على أصابع قدميه مد يده وسحب القدر وآماله باتجاهه، فضربت إحدى أرجل الكرسي بقوة صاعقة، اهتز أبوها واضطرب القدر بين يديه واختل توازنه وسقط، ولما كان الصنبور بعيدًا عن أمها ودفعتها إليه، كان أبوها بعيدًا عن حافة زاوية الرفوف السفلى الحادة فدفعته في أثناء تهاويه إليها، فتناءى عنها محاولاً التشبث بأبواب الرفوف العليا فسحبت رجليه بشدة ليصدم رأسُه الحافةَ ويرتطم في الأرض متراطشًا دمُه على البلاط، فتكرر منظر نزف أمها لكن هذه المرة لا تستطيع الانتظار حتى تستنزف دمه ثم تطلب النجدة من أخيها فالمطبخ ليس من اختصاصات والدها، بل وجوده فيه يَلزم وَزُوعًا منها، بعكس تواجد أمها في غرفة غسل الموتى حيث من اختصاصاتها تنظيف الغرفة. أبطأت على أخيها الذي هُرِع إلى المطبخ وصرخ فيها لتطلب الإسعاف. تكرر سيناريو موت أمها، وقررت كي تذهب الاشتباه في وفاة أبيها الإبقاءَ على عملها لبضعة أشهر حتى نسيان موضوع مقتل الأب، وقفل ملف التحقيق.

عادت إلى العمل بعد تركها إياه بعد حفظ التحقيقات، عادت بعد أن وجدت درج النقود فارغًا من المال، والبيت أقفر، ولم تجد ما تعيش به هي وإخوتها الأصغر منها، الأخ الأصغر مباشرة لايزال يطرق أبواب المؤسسات والشركات والوزارات، أما البقية فمازالوا على مقاعد الدراسة؛ مجبرة على الصرف ليس حبًّا فيهم وشفقة، بل تراه دورها ولا بد من ممارسته، ألفت البحث عن عمل آخر في غاية الصعوبة والمشقة، وأن عملها في مَغسَلة الأموات جاهز، خبرت طريقة العمل، وحتى المواصلات منه وإليه متوفرة لا تحتاج عناء.

- أرى أنه لا حاجة أن ترفق الصفحات (11 و12 و13 و14) في الملف لأنها لا تخص الحالة.

- بالعكس يا حضرة المديرة هذه الصفحات ضرورية، بما أني أستاذة علم اجتماع أجد أن معرفة البيئة التي تعيش فيها الحالة والمحيطين بها تُسهِّل عملية الدراسة والتقويم.

نعم، أنا مع الدكتورة رقية في إبقاء تلك الأوراق ضمن الملف، ومادام الدكتورة ذكرت الاختصاص، فأنا كذلك بصفتي أستاذة علم نفس أجد هذه الصفحات مهمة لمعرفة نفسيات المتعايشين معها، لذلك أنا قلقة من المرض النفسي الذي أصاب أختها وأودى بها إلى الانتحار أن ينتقل إلى (سارة) وتُقدِم على الانتحار، خاصة وأني لاحظت سعادتها بموت والديها وقد استغربت ذلك الفرح، لا وبل ذلك التواطؤ الذي جعل (سارة) تَكتُم سرَّ أختها في حياتها، لذا أرى أنا من واجبنا البدء بمرحلة علاجٍ قبل التأهيل.

- مع أنك يا دكتورة سحر أيَّدتني في أهمية هذه الصفحات التي تخص (جوهرة) أخت سارة، أخالفك في مسألة انتحارها، أنت نفسك ذكرت غبطة (سارة) بمقتل والديها؛ فهذه البهجة والتي أسميها أنا دليل الرضا، بالإضافة إلى ما سمعته منها فعندما تسرب الغاز ذكرت «أنها كانت تنظف السطح، وأختها (جوهرة) نائمة، والأخ الذي يكبرها ذهب إلى موعد في المعهد، والأخت والأخ الأصغر منها في المدرسة»، وجودها في السطح هربًا من رائحة الغاز الذي تنتظره يعم البيت ويقتل أختها النائمة، ونزولها منه كان مباشرة إلى الشارع تستنجد -لقد أحاطت نفسها بحماية من استنشاق الغاز- ولا أنسى أنها ذكرت بَغَاضَة عمل أختها، فعملها كما قالت «مريع»؛ كل هذه الأمور تجعلني أظن أنها وراء مقتل أختها.

لا، أنت بهذا، ذهبت بعيدًا، حتى لم يبق إلا أن تقولي، فاضطرت إلى غسل أختها حتى لا يشك فيها أحد.

- تسخرين يا سحر! فكيف لو ذهبتْ ظنوني أبعد من قتلها أختها، وخاصة وأنك أنت من آثار موضوع السر المكتوم، وإذا كنتِ لاحظتِ حبسها لسر أختها في حياتها، فأنا استنكرت إفراجها عنه في هذا الملف وبعد انتحار أختها. واطمئني يا دكتورة، المنتحر حسبي علمي لا يغسل.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة