Culture Magazine Thursday  17/11/2011 G Issue 352
أوراق
الخميس 21 ,ذو الحجة 1432   العدد  352
 
الرواية والمدينة السعودية (1)
سيمون نصار

لطالما اعتبرت الرواية الابنة الشرعية للمدينة، كما يوضح جورج هنري لاري في بحثه حول الرواية الأوروبية والمدينة. لكن ليس للمدينة في حراكها الاجتماعي والإنساني فقط. بل وفي حراكها السياسي ونظمها وقوانينها وبنيانها، أي كل ما يطال تعبيراتها الجدية عن حداثتها، من هنا تحديداً. يمكن الإشارة إلى أن بعض كتاب الرواية الكبار على مستوى العالم، كتبوا ما كتبوه نتيجة لتأثرهم بتطور المدينة الناتج حكماً عن كل هذا الحراك وعلى كافة مستوياته. ولكن أيضاً، وفوق هذا كله، الارتباط العضوي بين المدينة والرواية لما توفره المدينة من هامش سردي يطال مستويات العلاقات الاجتماعية وتشعباتها وعلاقات المجتمع المديني الأصيل بغيره في الأطراف، كما علاقة الفرد بنفسه.

على هذا النحو، شكلت الرواية السعودية منذ نشأتها، بغزارة، في العقد التاسع من القرن الماضي، وغزارتها الاستثنائية، في العقد الماضي واستمرارها على الدرجة نفسها من الغزارة. شكلت حالة أدبية تتجاوز الأدب نفسه، لتعبر عن علاقة ناس المدينة بصعود حداثي لا يزال ينجز مفرداته ومكوناته, تارة من خلال التعبير عن العلاقة المجتمع بالسياسة وما يجمعه بها ( غازي القصيبي، تركي الحمد، إبراهيم الخضير، عبده خال ) وتارة أخرى، عن علاقة المجتمع مع نفسه، أي مع النظم الصارمة لعلاقة الفرد بالمجتمع وبنفسه وبالنظم التربوية والتقليدية الصارمة (نورة الغامدي، رجاء عالم، رجاء الصانع، بدرية البشر، ليلى الجهني) أما العلاقة مع المدينة نفسها، فقد أخذت حيزاً كبيراً في غالبية الروايات التي نشرت في العقد الأخير (عبد الله بن بخيت، محمد حسن علوان، فهد العتيق) وهنا بالتحديد، تم التعبير، غالباً، عن هذه العلاقة بكتابات تؤسس لنوع جديد من الالتباس القائم على رؤية متذبذبة لواقع المدينة ومداراتها، التي كانت تأخذ السرد في عدد كبير من الأعمال إلى حالة صدام نفسي، غالباً ما كانت تهمش الواقع الاجتماعي لتخلق حالات وشخصيات ترى إلى المدينة من زاوية شديدة الملاحظة ودقيقة في التركيز.

بهذا المعنى، فإن الرواية السعودية، تحدثت، وستتحدث طويلاً، على الأرجح، عن إشكالية وجود الفرد وعلاقته مع نفسه والآخرين والعالم من خلال تموضعه في المدينة. وهو تموضع، ظرفي، وزمني، إذا أخذنا في الاعتبار، الروايات التي أنجزها كتاب لا ينتمون إلى المدن الكبيرة (الرياض، جدة) بل إلى المدن الصغيرة (عواض العصيمي) الذي تتمحور أعماله على الخبرة الحياتية البعيدة عن المدينة بما تمثله من حراك اجتماعي وسياسي.

يقال ذلك لسبب أن المدينة السعودية، بعيداً عن مدن الحجاز وحراكها الكوسموبوليتي بفعل الحج، دخلت إلى الحداثة من باب الإنماء الاقتصادي وكل ما نتج عنه من طفرة بنائية ومعمارية وهندسية، إن كان لناحية تقسيم المدينة هندسياً أو حتى لناحية العزوف عن التمسك بطرق البناء التقليدية، لصالح أنماط هندسية أقل تخففاً من التقاليد البنائية القديمة العازلة للداخل عن الخارج، كما في حالة الرياض الجديدة.

والحق أن أحد أهم العوامل التي ساهمت في إغناء الحراك الروائي السعودي وتفعيل علاقة الفرد مع نفسه والمجتمع، كانت الثورة التكنولوجية التي أسقطت الجدران العالية للمدينة التي كانت تحجب السرد، لتقيم علاقة بين الفرد ونفسه قائمة على البحث عن الذات أولاً في زحمة المجتمع، وثانياً بروز نماذج يمكن لها أن تشكل شخصيات نموذجية لسرد لا يمكن أن يتحمله سوى الرواية، وبالتالي ولادة الفرد كقيمة حرة فتحت له نافذة على الآخر وعلى العالم. نافذة جعلت من تقنيات السرد الروائية أكثر ملامسة للواقع الذي يعيشه الفرد في مدينة متحركة.

ينطبق هذا على ما مرت به الرواية الأوروبية في بداياتها حين كانت شخصية المتشرد المنبوذ اجتماعياً من خلال انفصاله عنه، هي المحور الذي ارتكزت عليه روايات القرنين السادس عشر والسابع عشر على ما يقول كولن ولسن في - فن الرواية. إلى جانب الشخصيات الأخرى، التي مرت روائياً في كافة مراحل تشكل المدينة الكبيرة في أوروبا، دون نسيان الحالات الاستثنائية، التي عبرت عن نسيج العلاقات الاجتماعية في مدن الأطراف الصغيرة وفي غالب الأحيان الهامشية.

يجوز القول: إن الشخصيات التي حفلت بها الرواية السعودية، وعند غالبية الروائيين، أصابت في كثير من الأعمال، قلب المجتمع السعودي، ذلك أن، المدن وما أن تبدأ صعودها سلم الحداثة تبدأ بفرز جوهري للأفراد وعلاقتهم بها، وكذلك للطبقات الاجتماعية وعلاقتها بالمدينة وحراكها وعلاقتها بالتقاليد، هذا إلى جانب البعد السياسي - الاجتماعي المؤثر في عقلية الفرد ونظرته إلى نفسه والآخر، وإن كانت الرواية السعودية قد أصابت في الإضاءة على هذه المسألة من خلال شخصياتها المتنوعة، إلا أن جزءا يسيرا من الروائيين، قد منحنا فرصة الاطلاع على هذه النماذج بشكل شبه مكتمل، في حين أن عددا كبيرا من الروائيين، وفي خضم انخراطه التجريبي لم يستطع سوى تقديم شخصيات مشوهة غير قادرة على مواجهة المدينة وحراكها وتطورها وصعودها الحداثي.

باريس

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة