Culture Magazine Thursday  17/11/2011 G Issue 352
فضاءات
الخميس 21 ,ذو الحجة 1432   العدد  352
 
الخسارة..!
د. صالح زيّاد

أمران حدثا خلال الأيام الماضية، أولهما يتعلق بالانتخابات التي أجريت في قطاعين في المملكة، وهما: المجالس البلدية، ومجالس إدارات الأندية الأدبية، ومِثْل ذلك إجراء انتخابات مجالس تشريعية أو الاستعداد لها، لأول مرة، في بعض دول الخليج. والثاني مظاهر الاحتجاج على النظام المالي العالمي التي بدأت في أمريكا ثم بعض دول أوروبا، ووصلت في ذروتها -بحسب بعض الروايات- إلى أكثر من ألف مدينة في العالم. والحدثان معاً محفِّزان على التأمل في الحرية التي يبدوان موصولين بها أو متداعيين إليها من وجهتين مختلفتين. ولهذا سيكون الحديث هنا عن مبدأ الحرية من خلال محور التقابل بين الخسارة والكسب الذي يمكن أن نقرأ فيه - في ضوء الحَدَثَيْن- تجلياً من تجليات الحرية، وهو تجل جوهري، في الوجود والنشاط الإنسانيَّيْن بسبب علاقة التقابل تلك، بالرضا والسعادة وتحقيق الذات والسعة، والرغبة المستمرة عن الغياب والتلاشي والضيق والانسحاق.

الخسارة تعني عجز الذات أو إخفاقها في بلوغ هدفها، فالتاجر يخسر إن لم يحقق الربح من تجارته، واللاعب أو الفريق الرياضي يخسر في مبارزته أو مباراته إن لم يغلب خصمه ويحرز الفوز عليه، وبالمثل فإن المرشح للانتخابات يخسر لأنه لم يكسب من أصوات الناخبين ما يبوئه الكرسي أو الوظيفة التي وضع نفسه في موضع الاقتراع أو التصويت للحصول عليها. هكذا تصبح الخسارة مدار دلالة تنتهك الذات من حيث هي رغبة مستمرة في الوجود والتحقق واكتساب الاحترام والتميز. وهذه الدلالة تجد تأويلها وتحققها العملي في مجموع ما يدل على الفشل والهزيمة والانكسار والانسحاب والغياب والصمت والتلاشي والعجز والصغار والقلة والفقر والإحباط... إلخ، الذي يقف في قبالة مدار الدلالة على بلوغ الذات أهدافها وتحقق رغباتها وهو ما يترجمه مجموع الدلالة على الانتصار والغلبة والحضور والكلام والوجود والقدرة والكثرة والغنى والقوة والاحترام والتميز... إلخ.

لا أحد، إذن، يقبل الخسارة، بمعنى الرضا بها، والابتهاج، وتلقيها بكامل الارتياح؛ لأن قبولها بهذه الصفة مضاد لمعنى تحقق الذات وانتصارها الذي يغدو داعي المواجهة مع التحدي وخَوْض غماره. والحياة ذاتها مبنية على هذه المواجهة المستمرة التي جعلت «بكاء الطفل ساعة يولد» عند الشاعر القديم ابن الرومي نتيجة لما تؤذن به من صروف، وهي خسائر الإنسان وما يحل به من نكبات، كما جعلت أبا العلاء المعري يصفها بأنها «تعب كلها» ويتعجب من «راغب في ازدياد». ومع ذلك فلا أحد يكف عن طلب الازدياد من الحياة أي المواجهة للتحدي والمغالبة التي تُنْتِج النصر حيناً والخسارة أحياناً أخرى، ولم تكف الحياة من جهتها، ولن تكف، عن الإخصاب والتوليد الذي يستهله القادمون إليها بالبكاء!

لكن مستويات الحساب للخسارة والفهم لها والصدمة تجاهها والانفعال بها مختلفة بين الأفراد. فالحساب العقلاني للخسارة غير الحساب العاطفي، والمجتمعات في علاقة الأفراد بها تصنع ردود فعل فيهم مختلفة تجاه خسارتهم الذاتية؛ ففي المجتمع العربي والشرقي حيث إحكام القبضة الاجتماعية على الأفراد وتراجع مستوى الحرية، ما لا يطابق المجتمعات المتقدمة التي تتوافر للفرد فيها حريته واستقلاله ومسؤوليته الفردية. وإذا شئنا الاستدلال على ذلك فلننظر في مستوى العنف المادي واللفظي وترداد تهمة التزوير والإدانة بها، الذي يتفجر في مواسم الانتخابات والاقتراع السري في الدول النامية في مقابل هدوء الحدث نفسه وسلاسته في أكثر الدول تقدماً وديمقراطية. ومثل ذلك أن نقارن انفعال طفل بخسارته في اللعب مع أخته أو ضياع لعبته أو رسوبه مع السلوك الذي نتوقعه للحدث نفسه مع راشد.

وهذا يعني أن الروح الرياضية والديمقراطية وأن عَقْلَنة الذات وترويض أنانيتها مسلكيات تنمو بمقدار الانخراط في مجتمع يقدِّر العدالة والفردية ويفسح للحرية ويرتقي على الضرورة، ويؤمن أن التشارك والتسامح والعمل المؤسسي والجماعي هي ثمار الاختيار لا الاضطرار، والرغبة لا الإكراه. لكن المهم هنا ليس التنظير وإنما الممارسة، وممارسة الوعي وتهذيبه لا توجد كاملة أو لا توجد، وإنما تترقَّى وتغالب نقائصها واضطراراتها ولكنها في النهاية لا بد أن تصل خصوصاً في هذا العصر الذي صنع التشارك والتفاعل من خلال الميديا الاجتماعية وثورة الاتصالات الرقمية والفضائية.

هذه الانتخابات التي تؤشر -نظرياً- على وعي مختلف بالمسؤولية العامة، يحيل على فكرة الديمقراطية التي تبلورت في العصر الحديث، ونضجت، وآتت أكلها في التنفيس ونزع فتيل التوتر والعنف والتصادم الاجتماعي وضمان المشاركة للجميع في إنتاج السلطة عليهم وإدارة شؤونهم. وهو العصر نفسه الذي شرع للتجارة والاقتصاد مساحة الحرية على نطاق واسع. فصارت الحرية الاقتصادية مقتضى للحرية الاجتماعية بما يجمع بين الجانبين في دلالة الحرية على الاختيار لا الجبر، ويفتح النافذة بين الوجهتين على قيمة الفردية التي لا حرية اجتماعية من غير التثمين لها واحترامها. وهو المدى نفسه الذي اتصل بحقوق المواطنة وحقوق الإنسان ومفاهيم الاختلاف والتعدد والحوارية. والنتيجة هي إطلاق الطاقات البشرية وتفعيل حوافزها التي تتجمد وتموت في ظلام الإكراه وبؤس القيود.

لكن الحرية بهذا المعنى أفرزت الاحتكار ودُوَلة المال في أيدي القلة، وهذا يعني أن المجتمعات الحرة باتت تواجه خسارة قطاعات تتزايد فيها باستمرار، بالانضمام إلى طبقات الفقر، وهو فقر شديد الألم وتوليد شعور الغبن والذلة والقهر لتجاوره في هذه الحالة مع الغنى المحمي بالقوانين والممتلك للشرعية والمهيمن عليها والموجه لها. كيف يَكْسِب المرء من غير أن يَسْتبِد؟ كيف يحتكر من دون أن يَظلِم؟ هل يمكن أن يكون الفقير حراً؟ ماذا يفعل بالحرية في سجن عجزه وجهله وبطالته؟! أليست الحرية صنو العدالة ولازمتها؟ هل تتكافأ الفرص حقاً في مجتمعات الاحتكار والقلة الغنية؟!

لقد بقيت هذه الأسئلة مفتوحة لتنطُّح المجيبين عليها نظرياً وعملياً، وكانت منذ أقدم العصور هاجس الفكر الإنساني أمام مشكلة اجتماعه وانعقاد مواثيق مجتمعاته المتعددة، بل سبباً من أسباب تشكلها. فالحرية لا تنفصل عن العدالة في أساس الرغبة الإنسانية في الاجتماع وتأليف المجتمعات والأمم وقيام الدول والممالك، ولا تنفصل عنها في أكثر ما يفخر به مجتمع على غيره، ولا في ما يضمن له الاستقرار والقوة والاستمرار. وقد كانت الصورة المسكوكة عن العبيد والشعوب المغلوبة والمستعمَرة أنهم أقل كفاءة في أنفسهم من أسيادهم أو مستعمريهم، كما كانت الصورة المسكوكة في المجتمعات القهرية والدكتاتورية تَصْنَع باستمرار التضاد بين الحرية والأمن، ونتيجة ذلك الحتمية هي مقايضة الأمن بالحرية التي تغدو تجلياً للوحشية قد يشبه مقايضة لقمة الطعام بالحرية ويرادفها ويصحبها!.

ويخيَّل إليّ أن الوعي الإنساني، على رغم التجارب الدامية واتساع فرص الاطلاع والتعلم، لم ينجز -ولن ينجز- حسماً تجاه تجبُّر الشيوعية وإكراهات الأفكار الشمولية والأممية، مثلما لم ينجز -ولن ينجز- وعياً حاسماً تجاه وحشية الرأسمالية والعنصرية والديكتاتورية بكل المعاني. لكن هذا الوعي قطع، من دون شك، مسافات جيدة تجاه ذلك، في شواهد ملموسة ومجسدة، ليس الربيع العربي إن شئنا قراءته من زاوية الوعي، إلا أحدها، وقد كان الربيع العربي من هذه الزاوية -تحديداً- حاضراً وملهماً -على ما يبدو- في مواقف احتجاج عالمي مختلفة منها الهبة تجاه الرأسمالية. وإذا كان أمر الوعي الإنساني كذلك، فإن أقصى الدرجات الممكنة لن يكون بغير القوانين التي تنتجها وتحميها المؤسسات المدنية، في مناخ يقل فيه -لأن من المستبعد أن ينعدم- تسلط رجال الأعمال ورجال السياسة والإيديولوجيا، من أجل الظفر بحرية عادلة وعدالة حرة.

* الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة