Culture Magazine Thursday  17/11/2011 G Issue 352
قراءات
الخميس 21 ,ذو الحجة 1432   العدد  352
 
أبو المسكين الداري
جابر الأحمري

لقيتُ رجلاً قد جحظت عيناه، وتشقّقت أذناه، وبدا عظمُه، وحُتَّ شعرُه، وهُتِمت أسنانُه، واندلع لسانُه، وتهدّلت أجفانُه، وليس عليه إلا ما يستر بعض جسده، فهالني مرآه، وحين تفرّستُ محيّاه، عرفت أنه(أبو المسكين الداري)، فقلت له: يا أبا المسكين والله لكأنك من سكان القبور، وقد هرعت إلى المحشر في يوم النشور، نشدتك الله أن تخبرني عن حقيقة أمرك.

فقال أما وقد سألتني بالله، فإنه قد هلك مالي وباد، في سبعِ مجدباتٍ متوالياتٍ، ولي زوجة قد ضاق جلدها عن عروقها، فو الله إن عروقها لمن خارج جسدها، أما الّلحم فقد ذاب، وأما الشحم فقد غدا أخاً للغول والعنقاء والخلّ الوفي، وأما أبنائي فثلاثة كأنك وضعت مكان خدودهم قطعاً من كبدِ ناقةِ عُشار، وكنّا نسكن خيمة بالية، ويسكن معنا فيها سياران، أحدهما بالليل والآخر بالنهار، فوحقّ ما آمنت به العرب لم يطلا على الدنيا إلا من خيمتي، خيمةٌ فيها من كل ناحية فُرجة، قد شفّت حتى إنك لترى ضمير صاحبك من خلالها، ورقّت حتى إنه لو عطس فيها رضيعٌ لقطّعها مِزَقَاً، ولصِقت بالأرض حتى ظُنّت منها، تأنف الرّقاع من الالتصاقَ بها، وتستحي الخيوط من ملامسة فتوقها، ارتخت حبالُها فكأنّها من الخجل قد ذابت، وقصرت دعائمها فكأنها في الأرض قد ساخت، تتأفّف الإبر من اختراق أديمها الذي كان أسود كالفَحَم، فاحمرّ من لهيب الهواجر حتى اضطَرَم، فما استفقت إلا وهو رماد تذروه الرياح.

فتركتهم - والحال كما ترى - يفترشون الغبراء، ويلتحفون الخضراء، وقلت لهم أنظروني أياماً، آتيكم بما يسرّكم، فارتحلت مريداً زعيم عشيرتي، فإنني لا أجد من يقوم بحاجتي هذه إلاّ هو.

فوصلت إليه فرأيت خدّين كرغيفي خبز منقّى، وإذا خيمته تصدّ الريح من كل جانب، أطنابها مشدودة، وحبالها مثنيّة، وأرضها مفروشة، وعمدها منتصبة مرفوعة، فشكوت إليه حالي وحاجتي إلى بيت جديد، فقال لي: والله يا أبا المسكين لولا ثلاث لقحات كن عندي العام الفائت لكانت حالي كحالك، وإنه قد سبقك خلق كثير فإن شئت انتظرت معهم، وإن شئت نظرت لك، قلت له: فانظر لي إذن.

فناولني عصا قد نحتت وصبغت وزينت حتى غدت من أجمل ما يكون، وقال: خذها إلى زعيم عشائرنا، وناوله إياها، فإنّه سيعرف أنها لي، وأنك مرسل من قبلي، وأخبره حاجتك، وإنك لاقيه بكرةً في عرصة داره، وضحىً في منتدى القوم. فسرت وحين اجتزت مضاربه، وجدت إبلاً قد غصّ بها الوادي، فاستسقيت الراعي فسقاني من لبنها، وأخبرني أنها لصاحب العصا، قد فرّقها في قوم كثير حتى بطنها الخامس، فتركته ومضيت لحاجتي، وحين وصلت إلى ديار الزعيم دلفت على القوم في منتداهم، وسألت عنه، وما كنت لقيته قبل اليوم، فأشاروا إلى رجل كأن خديه قطع من الزبد الأصفر، قد أسند ظهره إلى جدار بيت لا تخترقه ريح إلا من بابه، لا تدخل عليه شمس، ولا يخرّ عليه فيه مطر، مبني بالجص والآجر، فيه من الأثاث والرياش والحشِيّات على الأرائك، ومن أصناف الجلود والوبر والصوف والشعر ما أقدر أنه مسلوخات قطيع كامل.

فناولته العصا وخبرته الخبر، وقلت: ليس رغبتي بناء بيت كبيتك وإنما أريد خيمة عوضاً عن خيمتي.

فقال: حيّ هلا بك، وهلم معي إلى قطيع لي بين جبلي طلحان وطليحين، فسرت معه إلى قطيع مثل مال صاحب العصا مرات ومرات، وأنا أحدث نفسي بالفوز والفلج، فلما قاربناها قال لي:

أمّا البكار التي ترى فإنها هذا العام لبني (اليلاعم)، وأما العشار التي ترى فإنها لأيتام العشيرة، وأما ما في بطونها فإنه لآل (صنقر)، وقد أصابتهم جائحة كما تعلم وقد سبقوك، وإنك مع القوم الذين سيأخذون وبر بنات ما في بطون هذه العشار، فليس أمامك إلا أن تضع هذه العشار نتاجها، ثم تنجو بناتها من الجوائح، ثم إذا كبرت واستفاد منها آل صنقر، وبلغت اللقاح وألقحها الفحل، فحملت ثم أنتجت فإنه يكون وبر نتاجها إذا كبر لك، وهنيئاً لك أنك ستبني بيتك الذي أردت.

قلت فأين الفحل فإني لا أراه؟.

فقال: إنه فحل عجيب وقد سمّيناه (الطفن)، وإننا في انتظاره منذ موسمين، فإنه طلب ليلقح في بلاد بعيدة، وسوف يأتي بخير كثير فلا تعجلوه.

قلت له: أفغير هذا؟

قال: هناك أمر آخر. فقلت: عليّ به.

قال: ليس لك إلاّ أن يتيتّم أبناؤك فندخلهم مع اليتامى من أبناء العشيرة. ولكنهم لن يحصلوا على الوبر إلا بعد أن يبحث عنك منتدى القوم ثلاث سنين، فإن لم يجدوك وتيقنوا موتك ألحقوهم باليتامى.

قلت: فإنهم يموتون في ثلاثة أشهر.

قال: فمالك والله إلاّ أبو شالخ اليهودي يقرضك.

فذهبت إليه، فقال لي: أقرضك مثقالين من ذهب تعيدهما على رأس الحول أربعة، فإن لم تفعل فإنك تزيدني مثقالاً فوقها على رأس كل حولٍ لا تقضيني فيه، وترهن عندي سيفك ورمحك ودرعك ومغفرك، وخيمتك، فإن لم تقضني مالي في عشرين حجة فإنني آخذ منك كل ما خفّ وثقُل، وكل ماهبّ ودبّ، وكل ما مشى وانساح، وكل ما جمُد وساح، وآخُذ من يدك كل ما قدُم وحدُث وكل ما طابَ وخبُث، ولا أترك لك ناهِقاًة أو صاهِلاً، ولا حالِباً أو حامِلاً ولا ذاتَ خفٍّ أو حافِر.

فقلت له: أما لك رغبة في أنفي وعينيّ، ولساني وأذنيّ، وإنْ أحببت فاسلخ جلدي واحشه، واقطع لحمي واشوه، واجعل منه إن شئت قديداً، ولا تترك لي عظماً موصولاً إلا فصلته، ولا سليماً إلا كسرته، وخذ شعر رأسي وبعه على الصلع، واخلع أسناني وركبها للثُّرم، وإن بقي مني شيء فذرّه مع الرّيح ذرّا، واستقبل به هوجاءَ في ظهيرة يومٍ أكلح، واسمي وكنيتي لا تنسهما، فإن اسم (شالخ) من أقبح ما سمعت، فقهقه اليهودي وهزّ لي رأساً قبيحاً بمكر.

فخرجت من عنده وأنا أسوف نفسي في المهامه والقفار، وإذا برياح الشتاء مقبلة، وأرى سيوف البرق مصلتة، والأمطار في انهمار، والسيول تجوب السهول، وزوجتي تولول، والأبناء يتضاغون، فعدت أدراجي إلى أبي المسكين... فصرت كما ترى.

فقلت: لا حول ولا قوة إلا بالله

مشى الداريُّ في الدربِ القديمِ

فسار على الخطى أيضاً بنوهُ

وينشأ ناشئ الفتيان فينا

على ما كان عوّدهُ أبوهُ

* أبها

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة