Culture Magazine Thursday  19/05/2011 G Issue 342
أوراق
الخميس 16 ,جمادى الثانية 1432   العدد  342
 
(الإبرة والقميص)
من تَجليَّات (الكوميديا) الساخرة في الشعر العربي (6)
-

لَو أَنَّ قَصْرَكَ يَا ابنَ يُوسُفَ مُمتَلٍ

إِبَـرَاً يَضِيـقُ بِهَا فِنَاءُ المنـزِلِ

وَأَتَاكَ يُوسُفُ يَستَـعِيرُكَ إِبْـرَةً

لِيَخِيطَ قُـدَّ قَمِيصِهِ.. لَم تَفعَلِ!!

ملحوظات عامة على النص:

وما دام القارئ الكريم قد استوعب هذه الدلالات التي تكشَّفت لي بعد تأملٍ طويلٍ وتدبرٍ عميقٍ لهذا النصِّ العجيب، أقول: ما دام القارئ قد استوعب ذلك فليعلم أنَّ الأمر لم ينته هذا الحد، وليتيقن أنني لم أكتب عن هذه الأبيات لأجل ما سبق -وإن كان ما سبق كافياً للفت النظر إليها-، فإن كان ما مرَّ يُعدُّ ملاحظاتٍ تفصيليةٍ توقَّفنا فيها عند كل لفظةٍ وتركيب، وحاولنا استجلاء الدلالات الكامنة وراء ذلك، فإنَّ في هذا النص من الملاحظات العامة التي جعلته يصل إلى هذه الدرجة من الجودة والإتقان، كما جعلته يتجاوز كثيراً من أبيات الهجاء الساخر بمراحل بعيدة بما تميز به من ميزات تتبدى للقارئ الكريم بعد أن يعي تلك الملاحظات التفصيلية السابقة، وسأحاول أن أوجز في ذكر هذه الملاحظات العامة لوضوحها من جهة، ولأنَّ القارئ سيدرك تفاصيلها فوراً بحكم استيعابه لكل ما سبق، فمن ذلك ما يلي:

1- الجمع بين سهولة الألفاظ وقرب فهمها وعمق دلالاتها وكثرة معانيها، وهذه الميزة ربما تفتقدها كثير من الأبيات الساخرة، فبعض النصوص التي تتجه هذا الاتجاه الساخر تكون بسيطة واضحة يدرك القارئ جميع دلالاتها من القراءة الأولى، ولا تحمل ذلك الثراء الدلالي والعمق الذي يجعل القارئ يخرج بأشياء جديدة كلما أعاد قراءتها، وبالتالي تُنسى من القراءة الأولى ولا يُكتب لها الخلود، وبعضها الآخر تكون صعبة ذات ألفاظ وحشية تحتاج من القارئ أن يتبين أولاً معاني الألفاظ الأولية لها، ومن ثمَّ يدرك المعنى المراد وربما لا يدركه، أما هذا النص الذي معنا فقد جمع بين سهولة اللفظ وعمق الدلالة، وهذه ميزة قد لا تتوفر في كثير من النصوص خصوصاً إذا علمنا أنَّ هذا النص -مع جمعه بين هذه الأمور- قد قيل في وقتٍ متقدم؛ مما يعطيه قيمةً أعلى ودلالةً أحلى.

2- المبالغات المتزاحمة التي يكاد النص يغص منها، وهذه المبالغات هي السبب الرئيس التي لفتت انتباهي لهذا النص، وقد أبنتُ في الملاحظات التفصيلية عن كثير منها، ومما يستدعي التذكير في هذا السياق أنَّ هذه المبالغات التي ينضح بها هذان البيتان هي التي لفتت قبلي الإمام الألوسي حينما ألمح أنَّ فيهما ما يزيد على العشرة، ومَن يتأمل في البيتين ويقرأ في الصفحات السابقة يعلم أن الألوسي لم يتجاوز الحقيقة قيد أنملة.

3- طرافة الصورة وجدتها وابتكارها، وهذه الميزة واضحة لا خفاء فيها، فكثيرٌ هم الشعراء الذين تعاطوا مع غرض الهجاء ورموا مهجويهم بالبخل الشديد وبصور مختلفة، لكنني أزعم أنَّ التصوير في هذا النص فريد من نوعه ومتميز في أسلوبه ومثير للانتباه بشكل لافت.

4- العفة والنظافة والبعد عن الفحش والتفحش، ولا يلحظ هذه الميزة إلا من يتتبع صور الهجاء الساخر وكيفية تعاطي كثير من الشعراء معه، فالكثير منهم يعتقد أن قوة الهجاء وشدته يكمن في الإقذاع بصور فاحشة وصفات بذيئة وأمور يستحي الإنسان من ذكرها ويخجل من التعرض إليها، ورغم هذا فإنَّ نصوصهم في ذلك لا تصل إلى المستوى الفني العالي المأمول، أما هذا النص فقد أثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنَّ الإبداع في فن الهجاء وروعة التصوير فيه لا يُشترط له الإقذاع أو البذاءة.

5- دقة اختيار الألفاظ، وهذه الميزة غير خافية على المتأمل الذكي، وما هذا الثراء الدلالي الذي كشفت عن شيء منه خلال ما سبق إلا دلالة واضحة على عدم الاعتباطية أو الجزافية في الاختيار، وأنَّ العدول عن غيرها كان في غاية الدقة والإتقان، يتضح ذلك مثلاً في إيثار القصر على الدار والبيت، وإيثار الفناء عن غيره من أماكن المنزل، وتسميته بنسبته إلى أبيه دون غيرها من الطرق، وإيثار الأفعال (أتاك) و(يستعيرك) دون غيرها، وقل مثل ذلك في بقية ألفاظ النص.

6- التورية التي أضافت إلى النص ثراءً دلالياً ضخماً، والتورية التي أقصدها هي التي أوضحتها في لفظة (يوسف) ذلك الفقير الذي جاء يستعير إبرةً من هذا البخيل ليخيط قميصه المقدود، فقد يكون يوسف هذا هو والد هذا البخيل ابن يوسف، وقد يكون هو يوسف عليه السلام، ولكلا المفهومين ما يدعمه في النص ويؤيده، وكل واحد منهما يُوجِّه النص توجيهاً متميزاً، ويجعل له مساراً مختلفاً، ويخلق في فضاءاته دلالاتٍ ثرية ومبالغاتٍ ضخمة.

7- التشويق الفائق المنقطع النظير، وهذا التشويق أوضح من أن يوضح، ويشعر به قارئ النص من أول وهلة، وعند التأمل نجد أنَّ التشويق في هذا النص يتجلى في مستويين اثنين هما:

أ- المستوى الكلي للنص، أي أنَّ التشويق في هذين البيتين يبدأ من أول وهلة ويستمر حتى نهاية آخر ل فظة، وقد استثمر الشاعر -في إضفاء هذا التشويق المهيمن على النص كله- الحرف (لو) الذي افتتح به النص، وهذا الحرف كما هو معلوم حرف امتناع لامتناع، ويحتاج إلى فعل وجواب، والمتأمل حينما يمر عليه هذا الحرف فإنه لا يهدأ حتى يستوفي فعله وجوابه لكي يستوعب المعنى، ولا تنقطع المتابعة، وكلما طالت المسافة الفاصلة بين الفعل والجواب زاد اشتياق القارئ وتسارعت أنفاسه لإدراك الجواب، فكيف تتصور إذن درجة اشتياق القارئ وشدة متابعته وهو يرى افتتاح البيت الأول بهذا الحرف ولا يأتي الجواب المتمم للمعنى إلا في نهاية البيت الثاني؟

إنَّ هذا الأسلوب وبهذه الصورة يجعل القارئ ولا شك يتابع المعنى ويتتبع الألفاظ خطوة بخطوة وهو يحسب في كل مرة أنه سيصل إلى الجواب، وكلما طالت المسافة زاد الشوق وارتفعت درجة الاستيعاب؛ لأنَّ تلك المعاني التي يمر عليها أثناء طريقه إلى الجواب الشافي تزيد من فضوله لمعرفة جواب (لو) الذي تابعه منذ البداية، وحين يصل إلى الجواب ويحصل على الحل في اللحظة الأخيرة فإنَّ لذلك وقعاً في حسه وحلاوةً في نفسه لم تكن لتوجد لو حصل على الجواب المطلوب في مكان آخر قبل ذلك.

ب- المستوى الجزئي للنص، فإذا كان ما سبق يكشف عن التشويق المهيمن على كامل النص فإنَّ فيه مواضع أخرى تستفز القارئ وتخلق فضوله الشديد، وتجعل المتأمل يقف عندها متعجباً متسائلاً يبحث عن إجابة، ومن تلك المواضع:

1- حين يعرف القارئ امتلاء قصر ابن يوسف بالإبر حتى ضاق بها الفناء يتساءل عن سبب الإخبار بذلك ولماذا اختيار الإبر دون غيرها، وهذا يدفعه إلى متابعة القراءة لمعرفة مغزى هذا الوصف.

2- عدم إفصاحه عن هوية الشخص المحتاج والاكتفاء باسمه فحسب وبالتالي بروز التورية التي كشفنا عنها فيما سبق، كل ذلك من شأنه أن يشوق القارئ ويبحث عما يدل على هوية هذا الشخص الغريب.

3- حين يطلب يوسف إبرة واحدة من هذا البخيل يتساءل القارئ عن سبب هذا الطلب الغريب، وعن الأمر الذي دعاه إلى القدوم إلى هذا القصر المنيف لاستعارة هذه الإبرة.

كل هذه الأمور -وغيرها مما قد يلاحظه القارئ- تسهم في ارتفاع عنصر التشويق في النص، وتزيد من درجة الفضول لدى المتابع، مما يؤدي إلى علو القيمة الفنية للنص، وانتفاء وجود الإملال الذي تعاني منه كثير من النصوص.

8- الإيقاع الرائع والمتميز، فبحر هذين البيتين هو الكامل: (متفاعلن) ثلاث تفعيلات في كل شطر، وقد وُفِّق الشاعر تماماً في اختيار هذا البحر إيقاعاً لهذا النص، ويتجلى سبب ذلك في الآتي:

أ- أنَّ هذا البحر من البحور الشهيرة المعروفة، ولا أبالغ إن قلتُ إنَّ هذا البحر هو من أكثر بحور الشعر استعمالاً عند العرب.

ب- ثم إنه بحر هادئ الإيقاع يساعد القارئ على التأمل والمتابعة، وبالتالي استيعاب ما يريد الشاعر أن يفصح عنه.

ج- أضف إلى ذلك أنه سهل الحفظ والترديد، مما يجعل انتشار هذا الخبر بين الناس أمراً لا مفرَّ منه.

-

+ Omar1401@gmail.com - الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة