Culture Magazine Thursday  20/01/2011 G Issue 330
فضاءات
الخميس 16 ,صفر 1432   العدد  330
 
جدلية العقل والنقل
عبدالله السعوي

كما أن أدبيات التشريع باشرت تحريك الواقع وتأسيس ملامح النظم الحياتية على ضوء قيم الوحي، فإنها أيضاً أبدت قدراً لا نظير له من الاحتفاء بالعقل، فحظت على بعثه من جموده الحركي، وأعلت من سقف حضوره من خلال الحظ على إمطاره بالأسئلة الطاردة لعامة كوابحه, وتوسيع حقل تأمله الممنهج لا في السِّفر الكوني المشهود فحسب بل وفي السفر الشرعي المقروء, ولفتت الوعي إلى محورية تفعيل أدواته والعمل على استحالته إلى عنصر محالف للنقل ليتحالفا معاً في توجيه دفة مسار الحياة وتجسيد قيمة الاستخلاف على هذه المعمورة. ثنائية النص والعقل محكومة بعلاقة جدلية بحسبهما الجهازين الرسميين لإنتاج المعرفة، وقد ظلت تلك الثنائية ولا زالت نقطة تجاذب جوهرية في حالة من الحراك الجدلي المحتدم بين توجهين تشاطرا عبر ضروب من التشكيلات الخطابية إثارة الصخب عبر صَلب القيمة الثقافية التي يتآزر النظر والخبر على التبشير بمعطياتها.

ثمة توجّه نصوصي ينهض على أولوية إلغاء العقل والحد من حيوية تدفقه وعلى تلك القراءة الحرفية المفتقرة لمسوغاتها, وتوجّه آخر يولي كثافة اعتبارية للعقل وتوظيفه كشعار للتمرد على النص وتحجيم خصوبة انسيابيته بل والتناطح لا التلاقح مع قيمه الابستمولوجية، وهنا كلا الطرفين يقتسمان جريرة شرعنة الحيف وانتهاك أعراف التّماس مع بنية الصناعة التأويلية وإطّراح مقتضيات قسمات المنهج الموضوعي.

المدرسة النصية اختطفت إشراقة النص، فهي تتوسل التعاطي القشري الذي لا يتجاوز إلى ما ورائيات النظام اللغوي ومحاولة التماس مع الأسرار المتوارية والعلل الثاوية والامتدادات المقاصدية. أما المدرسة العقلانية – مع التحفظ على ذلك الوصف – فقد نشأت استراتيجيتها التي خطفت العقل بجمالياته انطلاقاً من ذلك التأويل المفتوح على مصراعيه تحت ذريعة (القراء المتعددة للنص) التي تنجب طوفاناً من المداليل على نحو لا يؤول في الحقيقة إلا إلى القفز على حقائق النص وتهميش قواعده الكلية وامتهان إهانته بجعله تكلؤاً مباحاً وبالتالي مصادرة حضوره التبجيلي. إن الحقيقة السافرة التي لا يجوز تجاهلها تتمثل في أن ثمة علاقة تواصلية ووشيجة التحام بين العقل والنص – أو السمع في المفهوم التراثي – والتباين التعاكسي لا أثر له بوجه من الوجوه, حيث فرادة التعالق فرضت ذاتها على نحو لا يحتاج إلى كبير استكناه ولو عارض العقلَ الصريح- وهو الخالي من الشهوة والشبهة - سمعٌ فإن السمع- الحديث هنا غير صحيح إذ الصحيح ليس بينه وبين العقل أي تعارض وهذا هو الطبيعي لأن منزل النص هو موجد العقل. فالعقل السليم يتمحور حول النص يدور في فلكه ينضبط بشرطه ويستهدي بإضاءاته من خلال انفعال معرفي مقنن. أما إن خالف العقلُ النصَ فإن مبعث الخلل هنا يؤوب إليه دونهما (أي نصوص الوحيين) وفي هذا الصدد يقول ابن تيمية: «وقد تأملت ذلك في عامة ما تنازع الناس فيه فوجدت ما خالف النصوص الصحيحة الصريحة شبهات فاسدة يعلم بالعقل بطلانها بل يعلم بالعقل ثبوت نقيضها الموافق للشرع» (درء التعارض 1-147).

الصوت الواعي الذي يراد تغييبه يعلن أن العقلانية الحقيقية هي تلك تبدي توقيراً منقطع النظير للنص ولا تتعاطى معه بوصفه معزولاً عن تأثير أي تجدد يحدث في الواقع, هذا الواقع الذي له أثره العميق على تغاير التشريع. العقلانية المعتبرة هي التي لا تعطل العقل - فاحترام النص يقتضي بالضرورة احترام العقل لأن العقل دائماً يرد في الخطاب القرآني في سياق المدح - بل تكثف من إعماله في عملية وعي النص وتلمّس عميق مغزاه وتفكيك لغته لاستخلاص ما تستبطنه من أحكام يجب استلهامها وفهم جزئياتها على ضوء كلياتها. ثمة رباط تواصلي وثيق بين العقل والنص ثمة بعد جدلي يحكمهما في الصميم فالنص من غير إعمال العقل لاستيعاب مخزوناته ليس إلا إقصاء للنص وتحييداً تعسفياً لمؤدياته, وأيضاً العقل من دون الاستضاءة بأنوار النص ومن دون الاحتكام إلى أحكامه ليس إلا جنوحاً بالعقل وزجّاً به خارج مفهومه وسحقاً لكينونته وخروجاً عليه وتحكماً لا منهجياً في آلية حراكه على نحو لا يقود إلا إلى كسوف الشمس العقلية وخفوت وهجها الضوئي، فالعقل هنا ينكمش بقدر ما يتمدد ذلك الزعم باستصحابه, إن ملامحه تتوارى في هذا الخضم المتلاطم من تمظهرات اللامعقول فيفقد جراء ذلك مصدر دفئه وينخفض مستوى أدائه بقدر ما يجري توثينه.

إذاً فثمة حميمية وشائجية تربطهما ف»الأدلة الصحيحة اليقينية التي لا ريب فيها بل العلوم الفطرية الضرورية توافق ما اخبرت به الرسل لا تخالفه، وأن الأدلة العقلية الصحيحة موافقة للسمع لا تخالف شيئاً من السمع» موافقة صريح المعقول لصحيح المنقول, على هامش منهاج السنة 4-73 و»الرسل لا يخبرون بمحالات العقول فلا يخبرون بما يعلم العقل انتفاءه بل يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته» (المرجع السابق 6-83).

ولهذا دلالته لأن «النبوة مشتقة من الإنباء وهو الإخبار بالمغيب، فالنبي يخبر بالغيب، ويمتنع أن يقوم دليل صحيح على أن كل ما أخبربه الأنبياء يمكن معرفته من دون الخبر، فلا يمكن أن يجزم بأن كل ما أخبرت به الأنبياء منتف، فإنه يمتنع أن يقوم دليل على هذا النفي العام، ويمتنع أن يقول القائل كل ما أخبربه الأنبياء يمكن غيرهم أن يعرفه من دون خبرهم» (المرجع السابق 8-179).

إن العقل الذي آمن بالرسالة يفرق بين عالم الأزل وعالم الزوال، ويستحيل أن يعترض على شيء جاء به من النصوص، وإن أبدى العقل اعتراضاً ما فهذا يعني أنه يناقض نفسه، إذ كيف يعارض من شهد بمصداقيته قبلاً. أيضاً اعتراض العقل هو قدح في كفاءة أحكام العقل لماذا؟ لأنه حَكم وشهد قبلاً بمصداقية من بالمكنة معارضته، وبالتالي فإذا ثبت عدم كفاءة العقل البشري فهذا يعني أنه لا يسوغ أن يُعارض به النص الإلهي.

بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة