Culture Magazine Thursday  20/10/2011 G Issue 351
فضاءات
الخميس 22 ,ذو القعدة 1432   العدد  351
 
احترام الخلاف الفقهي
عبدالله بن محمد السعوي

كثيراً ما تنتابنا مشاعر التوجس من كل ما لم نألفه حتى ولو كان قولاً فقهياً له وزنه واعتباره، نعم قد نمنحه وزْناً على المستوى الورقي وقد نستوعب تداوله على مستوى معين وبالغ المحدودية فنتذاكره من باب الاعتراف بوجوده في بطون الكتب - وهو على كل حال اعتراف بارد وخجول - لكننا في حقيقة الأمر نستبطن لونا من النفور من انعكاساته التطبيقية حيث تستولي علينا مشاعر التشنج إبان تنزيله على أرض الواقع الذي نريد أن نكرس فيه نمطية واحدة من الخطاب الفقهي ونتجاهل ما عداها، بل قد نتعامل مع المخالف حتى ولو كان من الفعاليات الفقهية ذات الزخم الحضوري بروح صراعية تغذي روح التحزب على نحو يعكس قدرا من الازدواجية التي طالما شجبناها وتواصينا - نظرياً فقط! - على رفضها.

لقد جسد خيارنا الأوائل أروع الأمثلة في التعاطي مع الخلاف وكم من مرة يكون للصحابي الجليل عبدالله بن عباس رضي الله عنه رؤية لا تتقاطع مع النسق الفقهي السائد، وفي قضايا محسومة والخلاف فيها لبس بذاك ومع ذلك - وحتى قبل عدوله عن بعضها - ظل محتفظا بمكانته ولم تسرع إليه القالة ولم يكن الجو العام مشحونا ضده مع أن الأكثر كان يغايره في الموقف من عدد من القضايا كما في آلية التعاطي مع ربا الفضل وحصر الربا في النسيئة، وكالقول في مسألة العول وأن المسائل الفرضية لا تعول، وكتقرير نفي التوبة عن من قتل مسلما ونحو ذلك مما لا يتقاطع مع المعهود الفقهي.

وكان عبدالله بن الزبير - كما يذكر ابن تيمية وقبله الكاساني في بدائع الصنائع - يرى أن المبتوتة في المرض لا ترث مطلقا وهو بذلك قد خالف ما اتفق عليه الصحابة الذين انعقد اجماعهم على التوريث. وكان عبدالله بن عمرو بن العاص يقول بكراهة الوضوء من ماء البحر مع أن الحافظ بن عبد البرقد حكى الإجماع على خلافه وهكذا ومع أن الخلاف كان يجري على هذا النحو إلا أن الانسجام وحفظ المقام كان هو الذي يحكم العلاقة على نحو يعز نظيره.

يقال: «كلما كثر علمك كلما قلّ إنكارك» وهذا طبعا في مسائل الخلاف (المعتبر) وليس في ذلك الخلاف الناجم عن قصور في ملامح الرؤية الفقهية أو ذلك الخلاف الناتج عن مجرد محركات وجدانية هي بالضرورة فارغة من محددات البعد المنهجي. قلة الإنكار هنا لا تعني انعدام الغيرة بقدر ما تعبر عن مدى الإحاطة بالمسارات الفقهية على نحو يحدو لمحاورة المخالف محاورة علمية مؤصلة وليس الإنكار عليه بمعنى حمله قسراً على العدول عن رأي فيه للاجتهاد مجال.

أحياناً تتوتر الحوارات وتتكهرب الأجواء وتجتاحنا حالة من مشاعر الاحتقان عندما يُطرح قول فقهي مخالف للمألوف الثقافي حتى ولو كان هذا القول له حظ وافر من المنطقية والرصانة ومدعوم بالأدلة، بل حتى ولو كان صادراً من أسماء ذات قدرات فقهية بارعة ولها ثقلها المعرفي في الميدان الفقهي العريض. أليس من الأجدر منهجياً وأدبياً أن نتعاطى بدرجة عالية من النضج والعمق والرحابة وبأفق واسع مع تمظهرات التجاذب الفقهي ما دام أنها في إطار دائرة الاجتهاد؟! لماذا تغيب عنا تلك اللفتة المعرفية الشافعية «رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب»؟!

الملاحظ هو أن النمط الإقصائي يحضر وبوفرة ملحوظة تحت ذريعة التماهي مع القول الراجح ونجهل وأحيانا نتجاهل أن الرجحان هنا أمر نسبي فما هو راجح عند زيد هو ذاته مرجوح عند عمرو، وكل منهما له رؤيته التي لا يوجد مسوغ لمصادرتها، وما دام كل من الطرفين - وأكرر مرة أخرى أن الحديث هنا بطبيعة الحال هو عن ذلك الخلاف الذي له حظ من النظر - ينبعث من وحدة المرجعية ومن مركزية النص ومن منطلق الاستصحاب لما ينبغيات القراءة الفقهية فلماذا المبالغة في التثريب، نعم للمحاورة والمراوحة وفضّ الاحتقان عبر المداولة البينية المعبرة عن حراك ثقافي مفعم بالحيوية، لكن بعيدا عن التهميش والإقصاء والشخصنة والتطاول على أرباب التخصص وعدم حفظ مقامات أولي الفضل.

هناك من يبني منهجيته على ضرورة الخروج من الخلاف مع أنه عند التأمل لا تكاد تخلو مسألة فقهية من الخلاف ولذلك العلامة ابن عثيمين يقول: «كلما رأيت حكما علل به للخروج من الخلاف فإنه لا يكون تعليلا صحيحا... وإلا لزم القول بالكراهية في كل مسألة فيها خلاف خروجا من الخلاف ولكانت المكروهات كثيرة جدا لأنك لا تكاد تجد مسألة إلا وفيها خلاف» (الشرح الممتع 6-427).

ومحصول القول: إنه من غير اللائق أن نمارس لونا من التعاطي المذهبي المغلق فنتوقف عند المسائل الخلافية الجزئية الاجتهادية القابلة للقراءة المتعددة فننفخ فيها ونغذيها ونذكي أوارها ونتخندق خلف مفرداتها ونجعل منها أدوات للمفاصلة والانقسام والتشرذم الذي يعيد النفس الصراعي إلى الواجهة من جديد وإذا كان قول الصحابي واختياراته الاجتهادية ليست حجة ملزمة على سبيل الاستقلال وإنما على سبيل الاستئناس فلاشك أن من دون الصحابي من باب أولى.

Abdalla_2015@hotmail.com * بريدة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة