Culture Magazine Thursday  23/06/2011 G Issue 347
فضاءات
الخميس 21 ,رجب 1432   العدد  347
 
«محمد العلي» واهتماماته الفكرية (1-2)
(النسيان وإعادة البناء)
علي الدميني
-

ضمن اهتماماته الفكرية بإشكالات النهوض والتقدم الحضاري للأمة العربية، يستخدم «العلي» آليتي «النسيان، وإعادة البناء» في اشتغاله على تحليل ونقد مكوناتنا الثقافية في أبعادها التراثية والمعاصرة.

كما يقوم من الجهة الأخرى، في جلّ مقالاته القصيرة، بتحليل علاقة تلك المكونات بالقيم والمفاهيم الحضارية المعاصرة، وضرورة الإفادة من مقوماتها، كالعدالة الاجتماعية، والحرية، والديمقراطية، والتعددية، وحقوق الإنسان، فيما يعلن عن رفضه لبعض ما تنطوي عليه شعاراتها المموهة من استهدافات، كالعولمة أو النظام العالمي الجديد.

وحيث يجد قارئ مقالات «العلي» استشهاده، في غير موقع، بمعنى عبارة (الفرنسي إدوارد إيريو) من أن «الثقافة (الحقيقية) هي ما يتبقى عندما ننسى كل شيء»، فإننا سنقف على نماذج من أدواته التي يستخدمها لتعميق طريق «النسيان» الذهبي والشائك معاً، عبر توظيفه لأبجديات المنطق العقلاني وفاعلية الشك والتساؤل حيال مكوناتنا الثقافية، قديمها و جديدها، معاً!

وفي هذا الأفق يأتي تعبيره عن تطلعات كتاباته وأهدافها، في مقالتين، يتساءل في الأولى عن: «أيهما أصعب».. أن تغرس فكرة أو رأياً في ذهن فرد أو مجتمع، أو أن تقتلع فكرةً أو رأياً في ذهن ذلك الفرد أو المجتمع..؟»...

وأمام هذا السؤال الجوهري يستشهد بوقفة الدكتور شكري عياد أمام طلابه في الجامعة لأول مرة، حين خاطبهم: «لا تحسبوا أنني قد جئت لأعلمكم شيئاً ما.. إن لي غاية واحدة هي أن أنسيكم ما تعلمتموه»!!..

ويعقب على أهمية فاعلية النسيان التي اجترحها الدكتور عياد بقوله: «لا أشك لحظةً في أنه قد اختار الطريق الأصعب» (كلمات مائية - ص 293).

أما في مقالته الثانية «بدون عنوان»، فسوف نقف على أنموذج آخر لهذا الطريق الصعب، حيث اختار عنوانها المفتوح مستهدفاً من ذلك، التأكيد على أهمية تجاوز طبقات الغبار الثقافي، والبدء من «الدرجة صفر»، بما في ذلك نسيان العنوان نفسه -الذي عادة ما يؤطر براءة البدء وضرورته- فيقول: «إن تكتب زاوية بلا عنوان فمعنى ذلك أنك تركب متعمداً مع سبق الإصرار على جواد من الإنشاء يخبط بك في كل وادٍ....ولكن مهلاً..أرجو أن تقرأ ما يلي:

1ـ إن الفكر في تطور دائم. (فقصة حي ابن يقظان تمثل تطور نضال العقل مع العالم المادي)

2 ـ لا أحد يملك الحقيقة لوحده. (ولا يعتقد بامتلاك الحقيقة إلا الطغاة الذين ملأوا التاريخ بسيول الدماء)

3 ـ إن أفكار الماضين ليست مقدسة. (لأن القدماء أنفسهم نفوا هذه الصفة عنهم).

4 ـ إن محور القيم هو الإنسان. «(ومن يشكك في ذلك، فإنه يشكك في مقاصد الشريعة، وفي كل نشاطات المصلحين على وجه الأرض).

ثم يتساءل بصيغة استنكارية: «هل تستطيع أن تثير الشك في أي واحد من هذه الأمور الأربعة؟

لا..أبداً..

أنت لا تستطيع، ولا يستطيع غيرك، حتى لو كان من أقدر فلاسفة الشك على تمويه الحقيقة وإلباسها الضباب»!!

ويختتم هذه المقالة بما عمد إلى إغفاله في عنوانها الفضفاض أو في تفاصيلها، حين يهيئنا لنسيان غبار الضجيج الثقافي والأيديولوجي، لكي نتأمل الحقيقة المفاجئة التالية: «إن هذه الأمور الأربعة هي المرحلة الأولى (للحداثة) التي ننشدها في عالمنا العربي كله، والتي يدور حولها (مثار النقع فوق رؤوسنا) كما يقول بشار.

نعم، إننا لا نريد أكثر من هذه الأمور البديهية.. فهل أصبحت البديهيات محرمة؟

أفتونا مأجورين»!(كلمات مائية - ص 295)

وضمن هذا المسار، يوظف فاعلية «آلية النسيان» - نسيان طبقات تلك القيود الثقافية التي ما زلنا نرزح تحت وطأتها - من خلال إعمال أدوات الحوار والمساءلة لكل شيء، في عملية ديناميكية تستهدف المراجعة وإعادة البناء.

ونستشهد في ذلك بالمحطات التالية:

التاريخ:

هذا الموضوع واحد من الحقول المهمة التي عني بها كاتبنا، حيث إن التاريخ يعني أولاً، الحوادث التي وقعت في الماضي.. ويعني التراث والفنون، وكل ما يؤطر رؤيتنا لمعايشة الحاضر وآفاق التشوف للمستقبل.

وقد وجه «للتاريخ» رسالة قصيرة في إحدى مقالاته تحت عنوان «الأستاذ الجليل العريض الطويل- التاريخ» تضمنت هذا السؤال الاستنكاري: «هل صحيح أنك لا تصاحب إلا الأقوياء، أو المنافقين، أو الكذابين، والمشعوذين ومروجي الخرافة؟»(العلي شاعراً ومفكراً - ص 122).

وقد أوفي هذا العنوان حقه من التأمل في محاضرة له بعنوان «ما هو التاريخ؟» وفيها يوضح أن التاريخ يتكون من ثلاثة أبعاد: الأولان الحادثة والراوي، وكلاهما يحتملان الخطأ والصواب والصدق والكذب، أما البعد الثالث فهو الزمن، وهو الأخطر لأنه يحفل باختلاف سلم القيم والمعايير الاجتماعية. (منبر الحوار والإبداع - 2010م).

ولذلك يطرح أزمة مجتمعاتنا العربية مع التاريخ في مقالة أخرى بعنوان «تقديس التاريخ»، حيث يقول: «إذا اعتبرنا أن التاريخ هو: حركة المجتمع.. عملاً، وفكراً، ووجداناً، أي الحركة المادية والمعنوية لمجتمع ما.. إذا اعتبرناه كذلك، والقينا نظرة نافذة على تاريخنا العربي، ماضياً وحاضراً.. نجد أن تاريخنا واقفٌ وقوف الطلل».

ولماذا؟

لأننا نقاربه وفق حالة من التقديس.. وحيث يكون التقديس يكون الخوف -بحسب سقراط-، ثم يكمل وقفته بالاتكاء على ما قاله عبدالله العروي، من أن «الخاصية التي تميز ثقافتنا العربية عن غيرها هي: إضفاء القداسة على التاريخ»، ويؤكد كاتبنا ذلك بقوله: «وتاريخنا واقف وسيظل واقفا، لأن تقديسنا له يصاحبه الخوف منه، والذي يخاف من شيء لا يقترب منه بالنقد والفحص والاختبار والطرح.. لذا بقي وكأنه شيء يلوح من بعيد» (كلمات مائية - ص 283).

العدالة الاجتماعية:

حظي هذا العنوان بالكثير من اهتمامات «العلي» واشتغاله على تجلياته، معيشياً وثقافياً وسياسياً، ولكننا لن نعثر على ذلك في العناوين، وإنما في المتون، سواءً في نثره أو شعره.

وحين نقرأ محاضرته التي قدمها في جامعة الملك فيصل عام 1978م بعنوان «الحس الاجتماعي في الشعر العربي»، فإننا نتلمس جذر ذلك الاهتمام، من خلال تركيزه على أن «الفقر» هو الجذر الأول فيما يمكن لنا أن نتقراه من ملامح «الحس الاجتماعي» في الشعر الجاهلي، ولذا أسرف الشعراء في تقديس الكرم والمال. أما الجذر الثاني فهو الخوف من الغزوات والحروب، ولذا كان المجتمع الخائف الجائع «يحن إلى شيء يريحه من هذا السقوط الدائم، فكان الحنين إلى السلام هو الظاهرة الأخرى التي حملها الشعر تعبيراً عن الحس الاجتماعي»(العلي شاعراً ومفكراً- ص 236).

لقد كان الظلم يقبع خلف هذين الجذرين أو ينمو معهما، لذلك ولدت أشكال متعددة للتمرد عليه في العصر الجاهلي عبر تجليات عديدة منها تجربة الشعراء الصعاليك، مثلما قامت حركات سياسية وشعرية متمردة على أشكاله المختلفة في العصور اللاحقة وحتى اليوم.

وفي مقالته «التشكّل -2» يشير إلى أن غياب العدالة الاجتماعية هو ما يجعلنا نستشعر نفس المخاوف إزاء سطوة الفقر والظلم الذي عاشه الإنسان في عصوره الماضية، «لأننا ورغم الفتوحات العلمية والتقدم الحضاري في العالم، ما زلنا أسرى للرأسمالي البشع الذي حوّل الإنسان إلى سلعة، رغم كل الطرق التي عبّدها الفلاسفة والمفكرون والمناضلون لتحقيق مفهوم العدالة الاجتماعية في واقعهم المعاش».

ولأن قسوة الظلم التي استشعرها الإنسان في عصوره السحيقة، ما برحت تنشر ظلام أجنحتها على العالم، فإن كاتبنا يعمد في لحظة ألم ممضّة إلى تحبير رسالة إلى «السيدة المحجبة- العدالة الاجتماعية»، يقول فيها: «الذين ضربوا آباط التاريخ لرؤية وجهك الجميل كثيرون.. بعضهم مات في الطريق، وبعضهم انتحر من اليأس، وبعضهم يراود الأحلام (....) أين أنت؟

لقد فتشت كل القواميس، وكل المجتمعات، لأفوز بنظرة على وجهك حتى من وراء حجاب، فلم أظفر بك (...)

ما رأيك في النظام العالمي الجديد؟

هل تعرفينه؟ (كلمات مائية - ص 124)

النظام العالمي الجديد:

يمثل النظام العالمي الجديد وتجلياته عبر شعار «العولمة»، ومفهوم «الليبرالية» الجديدة (التي يقف خلفها - تحديداً- اليمين الأمريكي منذ عهد الرئيس ريجن وحتى عهد بوش الصغير) أكبر الأصنام التي نرى «العلي» وكأنما قد نذر نفسه لرميها بالحجارة، وبكل ما يملك من لغة ويقين، ذلك أن هذا النظام في بعديه الاقتصادي والسياسي، يبدو وكأنما قد أعاد الإنسان إلى قرونه البدائية المظلمة، التي ساد فيها بطش القوي بالضعيف وعمها الفقر والجوع، فيخاطبه بغضب: «لقد جعلت الأغنياء أكثر غنىً، وجعلت الفقراء أشد فقراً، ولم يكفك هذا، بل رحت تحطم حتى الآمال والأحلام ومجرد التوق إلى الأفضل».

(العلي - شاعرا ومفكراً - ص 130).

وفي نفس المقالة التي وجّه فيها رسائله إلى عدد من المفاهيم والشعارات السائدة (الزائفة) في عالمنا المعاصر يصف النظام العالمي الجديد بالسيد، ويقول له: «الناس في كل مكان، يزحفون عليك بالسيوف والرماح، وكل الأسلحة البدائية، وكأنهم لا يريدونك.. هل أنت وراء ظهورهم، أم أن المسافة بينك وبينهم مسافة ضوئية؟ (...) ولكن قل لي: كيف استطعت أن تقضي على طموحات الناس وتطلعاتهم إلى العدالة الاجتماعية، وأن تخرس -ولو إلى حين- كل المقولات المضيئة الداعية لها؟». (كلمات مائية - ص 129)

وإذا تأملنا الجملة الاعتراضية الموضوعة بين محددين (-ولو إلى حين-) فإننا حتماً سنقف على ما ينطوي عليه وجدان كاتبنا من يقين إنساني وثقافي -وإن تبدّى بصيغته الإيديولوجية- حول أهمية العدالة الاجتماعية، لأنها مطلب للملايين من البشر في العالم، المتلهفين إلى تحقيق وعودها، لا صدوراً عن محفزات أو قناعات أيديولوجية وإنما عن حاجة إلى تحقيق الكرامة الإنسانية، وإلى ما يعينهم على مقاومة قسوة الفقر والحرمان في واقعهم المعاش.

ولذلك نرى تأكيده الدائم على أن تحقيق الأحلام البشرية، ومنها تحقيق «الكرامة» و»العدالة الاجتماعية» لا يمكن الوصول إليها عبر الكتابة والقصائد والأغنيات، وإنما عبر التضحيات الطويلة.. على طريق مقاومة تحالف التغول الرأسمالي العالمي مع قوى الاستبداد العربية، واستئثاراتها الأربعة -بحسب طيب تيزيني- «بالسلطة والثروة وبالإعلام وبالمرجعية».

ويحضر ذلك اليقين في مقالة أخرى استشهد فيها بتضحيات الشاعر «ناظم حكمت» الذي بقي رغم كل معاناته، مستمسكاً بالأمل في تحقيق تلك العدالة الاجتماعية الغائبة، حين كان يغني من داخل «زنزانته»:

« الحياة جميلة يا صاحبي...واليوم أجمل من أمس!» (كلمات مائية - ص141).

وحين أقف الليلة، لأعيد تصحيح هذه الفقرة من كتابتي التي أنجزتها قبل عام، أراني وكأنما قد انحزت إلى من يقف على آراء «العلي» هذه، بعين متشككة أو ساخرة من يقينه الأيديولوجي، غير أن ما اجترحته حركة الشعوب العربية من جرأة وصلابة ويقين بحقوقها المشروعة، وما قدمته من تضحيات، وما حققته من مكاسب، في هذه المرحلة التاريخية المبهجة والخرافية (من يناير إلى مايو من عام 2011م، وما سوف يأتي بعدها)، يدعوني وقارئي العزيز إلى الوقوف إجلالاً واحتراماً لوعي ويقين وأيديولوجية هذا المثقف والمفكر العربي الكبير!

-

+ الدمام

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة