Culture Magazine Thursday  26/05/2011 G Issue 343
أوراق
الخميس 23 ,جمادى الثانية 1432   العدد  343
 
وادي العسل
عمار باطويل *
-

كانت الأيام في الوادي تجمعنا ولا تفرقنا وكانت الحياة فيه حياة سعيدة، وهادئة، ولا يبدو لها إلا لونا واحدا ألا وهو لون الحب العميق الذي ينمو ويكبر في قلوبنا كلما كبرنا ونتنفس هذا الحب المتبادل بيننا وبين الأرض ونذهب بأنفسنا وبحبنا متجولين في هضاب وشعاب الوادي الذي يكسو ضفافه أشجار النخيل وأشجار السدر المعروف في حضرموت باسم (العلب) وتغطي أرضه وخاصة مجرى السيل أحجار بيضاء كلآلئ متناثرة وكلما ينظر إليها الشخص من بعيد فيرى بياضاً ناصعاً كبياض الثلوج التي تكسو جبال أوروبا في الشتاء القارص، وكضوء القمر في الليالي الحالكة الذي ينير دروب الناس، وحينها يقول المرء هأنذا في الوادي، وادي دوعن (1) وادي العسل, ووادي العلماء، و هأنذا في الأرض التي وطأت فيها أقدام الأجداد منذ زمن طويل عندما كانوا متجولين في أرجائها غامرين بتربتها التي أعطوها وقتهم، وجهدهم، وحبات عرقهم، وعطتهم خيراً كثيراً وافراً. كانت الأيام لنا في دوعن حميمة، وصديقة في كل مراحل حياتنا في حضرموت عند الأصدقاء، والأقرباء، والأهل، والأحبة فتجمعنا الطبيعة الغناء وكنا لا نعرف معنى للضوضاء ولا يعكر صفو أبناء الوادي أي شيء على الإطلاق. ففي الوادي يذهبن النساء في الصباح إلى الحقول والبعض منهن يسرحن بالأغنام للمرعى في الوادي أو في المناطق المرتفعة على هضاب الوادي وجباله - الغيث والسيول تملأ الوادي حركة وهكذا تمضي الحياة في الوادي في طبيعة خلابة لا مثيل لها والسكون دوما مخيم على الوادي وعلى ساكنيه. فعندما يأتي السيل من مرتفعات الجبال منحدراً إلى القرى في الوادي يقوم أهالي كل قرية في الوادي بإطلاق أعيرة نارية وهذه الأعيرة إشارة للناس المارة في الطريق بأن السيل قد اقترب وعليهم أن يحذروا منه لكي لا يجرفهم. وهكذا تمضي الساعات وكل قرية تنذر القرية المجاورة لها بصوت البندقية حتى يحذر الناس من السيول الجارفة وفي نفس الوقت بشارة لهم بأن السيل قد أتى وقد حان وقت حرث الأرض وزراعتها. فعند نزول المطر في الوادي تتراقص قلوب البشر فرحا ونرى الأشجار تتمايل من السيل وكأن السيل يراقص تلك الأشجار ويداعبها. أما الشلالات في الأودية تزين جبال دوعن أثناء المطر, فكلما نظر الناظر أثناء المطر وبعد المطر دخل إلى قلبه السرور، والفرح، والبهجة من الآثار التي خلفتها الأمطار والسيول للأرض ولنا من خضرة ومناظر خلابة فسبحان من يحي الأرض وهي رميم. فأرض دوعن يعشها كل من زارها أو عاش فيها لنقاوة هوائها، وطيبة، وكرم أهلها، ولطبيعة الحياة فيها. أما الأيام في المدن ليست بتلك الأيام التي عرفها وعاشها المرء في أودية حضرموت فأصبحت الحياة في المدن مزدحمة بهموم الناس ومشغالهم الغير منتهية حتى أصبحت الطبيعة لا تزورهم كما كان عهدها في الوادي والأمطار شحيحة ولا يسمع المرء زقزقة الطيور ولا مكان لأثر السيول والأمطار. فالناس في المدن غرتهم بريق المدينة الزائف والزائل الذي يخطف سعادة الإنسان وتزيد من همه وتعكر من مزاجه. المدينة عبارة عن مقبرة كبيرة تغتال السعادة والنشاط والهمة فلن تعرف أيه الإنسان سر السعادة إلا عندما تذهب إلى الطبيعة أو إلى وادي دوعن أو إلى الأرياف والقرى التي يكمن فيها معاني الطبيعة ويتجلى فيها حب الإنسان الحقيقي للأرض.

1- وادي دوعن يقع في محافظة حضرموت باليمن. واشتهر وادي دوعن بإنتاج أجود أنواع العسل الحضرمي.

-

+ * كاتب يمني مقيم بالسعودية - جدة - batawil@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة