Culture Magazine Thursday  26/05/2011 G Issue 343
فضاءات
الخميس 23 ,جمادى الثانية 1432   العدد  343
 
(متحف البراءة).. رواية غير بريئة
عزت خطاب
-

من الطبيعي أن يحرص أي مثقف، وبالذات إذا كانت اهتماماته أدبية، على قراءة الأعمال الأدبية التي أوصلت مبدعها إلى جائزة نوبل في الأدب . ويزداد هذا الحرص عند المتخصص في الأدب كي يستكشف خصائص تلك الأعمال المتميزة وسماتها الإبداعية التي أقنعت لجنة جائزة نوبل بأحقية ذلك المبدع بتلك الجائزة العالمية الشهيرة.

لذا لم أتردد في شراء رواية (متحف البراءة) للكاتب التركي (أورهان باموك) مترجمة إلى الإنجليزية، وهو الحائز على جائزة نوبل في الأدب عام 2006م، وقد نشرها عام 2008م ثم ترجمت إلى الإنجليزية. عام 2009م من دار Faber and Faber في لندن، وقد كتب على غلافها أنه فاز بالجائزة وأنه مؤلف روايتي: (اسمي أحمر)، (ثلج)، مما يوحي بأنهما لعبتا دورا كبيرا في حصوله على تلك الجائزة.

هناك حافز آخر لاهتمامي بهذه الرواية وقراءتها وهو ما وصل إلي من مقاربة أو مراجعة لهذه الرواية: فقد نشر (آدم شاتز) في مجلة (لندن ريفيو اف بكس London Review of Books)، وهو أحد محرريها، استعراضا مطولا لأشهر أعمال (باموك) المترجمة إلى الإنجليزية، وذلك في العدد الأول من المجلد (32) بتاريخ 7 يناير 2010م، منهيا عرضه بمقاربة هذه الرواية. كما نشر (مودي بيطار)، أحد كتاب جريدة (الحياة) اللندنية، بتاريخ 29 يناير 2010م، في عموده الأسبوعي « لمحات ثقافية»، نبذة مختصرة جدا، بحكم ضيق العمود الصحفي، عن الرواية نفسها، وليس من الواضح عما إذا كان قد قرأ استعراض (شاتز) أم لا.

قراءتي لهذه الرواية تعاني من مشكلتين: الأولى، أنني أتعامل مع نص مترجم ولا أستطيع أن أحكم على مستوى الترجمة لأنني لا أعرف لغة الأصل، بالرغم من ثقتي بالدار التي نشرتها وبدقة ترجمتها. فهناك إشارة مهمة في استعراض (شاتز) إلى عدم التطابق بين تجربة قراءة الأصل وبين تجربة قراءة الترجمة، وهو أمر طبيعي، وأن المترجمة (مورين فريلي) التي قرأت نصها قد بسطت الكثير من جمل (باموك) النثرية، التي هي في الأصل تتسم بالطول وبالزخارف اللفظية، مما جعلها صعبة التحليل حتى على كثير من قرائها الأتراك. فقد قامت (فريلي) بإزالة تلك العقبات فأصبح أسلوب الرواية سهلا ولا يختلف كثيرا عن أسلوب أية مجلة ثقافية أمريكية.

المشكلة الثانية: لم أقرأ الروايات الأخرى لاسيما روايتي (اسمي أحمر)، (ثلج) المذكورتين آنفا لعدم توفرهما في المكتبات. لذا فإن قراءتي تفتقد العمق الذي يوفره السياق الذي تنتمي إليه الرواية، مما يجعل الأحكام التعميمية غير واردة، ويدفع إلى التركيز على الرواية نفسها وما يمكن أن يلقي عليها الضوء من أحداث سيريه في حياة كاتبها. وهو منهج القراءة المتعمقة.

تنتمي الرواية إلى جنس السيرة الذاتية، فبطل الرواية وراويها (كمال بيه) يشبه الكاتب في أكثر من ملمح: فكلاهما ولد في استانبول في الخمسينيات من القرن الماضي في أسرة غنية من الطبقة البرجوازية التي كانت في طريقها إلى الأفول. وتدور معظم أحداث الرواية في منطقة Nisantasi في إستانبول، وهي المنطقة التي نشأ فيها الكاتب. وكثيرا ما يوصف (باموك)، كما يقول (شاتز)، بأنه جسر بين حضارتين عظيمتين، أي الإسلامية الدينية والغربية العلمانية.

و(كمال بيه)، مثله مثل أبناء تلك الطبقة، ملتبس الهوية، فهو مسلم بالنشأة والجذور لكنه علماني التربية، ينظر بإحدى عينيه إلى الشعائر الإسلامية التي يشعر أنه ينتمي إليها لكنه يحاول أن يتخلص من أسرها، بينما عينه الأخرى على الحياة الغربية وقيمها ومسلماتها، فالاحتفال بعيد الأضحى، مثلا، وذبح الأضحية يمر وكأنه حفلة عائلية عادية مفرغة من معانيها الدينية (ص 34-42). يقول الراوي بهذه المناسبة: « لم يكن أبي وأمي متدينان: فلم أشاهد أيا منهما يؤدي الصلاة أو الصيام. إنهما مثل الكثير من الأزواج الذين نشئوا في بداية عهد الجمهورية. لم يكنا أي احتقار للدين لكنهما غير مكترثين لتعاليمه.

وكمثل الكثير من أصدقائهما ومعارفهما، يفسران عدم اكتراثهما هذا بسبب محبتهما (أتاتورك) واعتقادهما بالجمهورية العلمانية. مع ذلك، فإن عائلتي، مثل الكثير من العوائل الأخرى البرجوازية العلمانية التي تعيش في منطقة Nisantasi، يذبح خروفا بمناسبة عيد الأضحى وتوزع لحمه وجلده على الفقراء، كما هي العادة.»(ص 37).

ثم إن الكاتب نفسه يظهر في نهاية الرواية بطلب من (كمال بيه)، ونكتشف أن (أورهان باموك) هو سارد الأحداث بطريقته الفنية الروائية وبموافقة (كمال بيه) على استخدام ضمير المتكلم الذي هو (كمال بيه) ص514-515.

وكان (أورهان بيه) قد ظهر عرضا في الفصل الخاص بحفلة خطوبة (كمال) حيث لا نعيره التفاتا خاصا، مثله مثل بقية المدعوين من العوائل التي بذرت أموالها وأصبحت لا تطيق مجالسة الأثرياء الجدد. ثم إن (أورهان) نفسه يوصف بأنه إنسان عادي، وليس فيه ما يغري بالاهتمام فيما عدا إفراطه في التدخين وميله إلى التصرف بعصبية والتظاهر بابتسامة ساخرة (ص 116-117). وهذه حيلة روائية محببة لدى (باموك). فكما يقول (شاتز): « يظهر باموك في كل رواياته تقريبا، تارة في دور السارد وتارة تحت أسماء مستعارة مستفزة، مثل (اليتيم المذعور)، وأحيانا في دور المؤلف المجهول لروايات باموك.

تستخدم الرواية تقنية الفلاش باك، أو « الارتجاع الفني» كما يسميها (مجدي وهبه) في معجمه، وهي تناسب الرواية السيرية: ففي أول جملة في الرواية يقول السارد إن تلك كانت أسعد لحظة في حياته دون أن يدري.

ثم يسأل: ترى لو علم ذلك لسارت أموره بشكل مختلف؟ ويؤكد بالإيجاب: إذا لو استقبل من أمره ما استدبر لعض على تلك اللحظة بالنواجذ. تلك كانت لحظة استمتاعه الجسدي مع (فوسون) بطلة الرواية، لكنه تركها تفلت من يده بخداع نفسه إذ يمنيها بحياة سعيدة مع (سيبل) خطيبته المقبلة.

إلا أن الرواية تستخدم أيضا تقنية « الميتافكشن»: فهي تلتفت إلى نفسها في كثير من المواضع حيث نجد الراوي يذكرنا بأنه يكتب رواية. وتصل هذه التقنية إلى ذروتها في نهاية الرواية حيث يضع الرواي فهرسا بأسماء الشخصيات والصفحات التي ظهرت فيها،بعد أن كان قد وضع في مقدمتها خريطة للمنطقة من إستانبول التي تدور فيها حوادثها، بحيث لا يدري القارئ هل هو أمام رواية أم مذكرات أم تاريخ. أما بنية الرواية فهي بنية البحث ثم الحصول على ما يبحث عنه ثم فقدانه، لكنه فقدان مؤقت، حيث تتكرر البنية نفسها من البحث والحصول والفقدان مرة أخرى. (كمال بيه) يبحث عن امرأة تشبع نهمه الجنسي فوجدها في (فوسون) ثم فقدها بعد حفلة خطوبته من (سيبل)، وظل يبحث عنها مرة أخرى حتى وجدها، لكنه يفقدها مرة أخرى وإلى الابد عندما تقتل في حادث سيارة. أي أن النسق البنائي نسق مزدوج، من نوع النسق المفارق الواقعي الشتائي، حسب تقسيم (نورثرب فراي)، لأن النسق الرومانسي الربيعي لا يتحقق في عالم اليوم.

(فوسون) هي بطلة الرواية بلا شك، وهي التي تسيطر على أحداثها سواء بحضورها أو بغيابها، وربما كان لغيابها الأثر الأكبر. لذا فإني لا أتفق مع (شاتز) حين يعتبر تأثيرها ضعيفا وأنها ليست أنثى بقدر ما هي شيء مستهدف للتسلية. نعم، قد تكون امرأة غامضة، حسب رأي (شاتز)، لكن غموضها هو سر قوتها، فهي تعرف ماتريد وكيفية الوصول إلى ما تريد، مستخدمة سلاح الجنس بكل براعة.

فعندما تهجر( كمال) بعد خطوبته وتختفي كانت متأكدة أنه سيبحث عنها، وعندما وجدها، بناء على تخطيط منها دون أن يدري، أخذت في تعذيبه مدة ثمان سنوات كان أثناءها يزورها في بيت أبيها كل ليلة تقريبا دون أن تستسلم لمحاولاته التقرب لها أو تسمح له حتى بلمس يدها، فقد كانت قانونيا امرأة متزوجة، ولكن لم تسمح لزوجها أن يمسها جنسيا، كما نكتشف فيما بعد، فزواجها لم يكن بدافع الحب أو بناء أسرة وإنما حفاظا على شرفها، حسب التقاليد الشرقية التي لم تستطع تلك الطبقة البرجوازية التركية، ومن يدور في فلكها، التخلص منها.

ولما رأت أنها قد طوعته أفصحت عن رغبتها في النجومية السينمائية في فيلم من إخراج زوجها (وكان مخرجا من الدرجة الثانية) وبتمويل من (كمال) وقد كان هذا هدفها منذ البداية حتى قبل أن تتصل (بكمال): فقد كانت من ضمن المرشحات في مسابقة ملكة جمال تركيا إلا أنها لم تحصل على اللقب الذي كان سيؤهلها للنجومية. ووعدها (كمال) تقربا إليها لكنه أخلف وعده لأنه خشي أن يفقدها مرة أخرى لو دخلت عالم السينما.

وكانت هذه الغلطة القاضية: فهي لم تغفر له خيانته للعهد، ففي الوقت الذي اعتقد (كمال) أنه استعادها كانت على ما يبدو تخطط لإنهاء هذه العلاقة ولكن ليس بالضرورة بالطريقة التي تمت بها في حادث سير مفجع كانت هي فيه خلف عجلة القيادة.

كيف لنا تخيل مثل هذا التخطيط من امرأة مثل (فوسون) متعلقة بقوة بأهداب الحياة وبالسعادة المادية؟ فهل هي بريئة، وما معنى البراءة هنا، وما علاقة البراءة بعنوان الرواية؟ هل هي البراءة من التصميم على تلك النهاية المأساوية بتلك الطريقة البشعة، أم أن نهايتها كانت نتيجة تقلباتها المزاجية في إحدى تجلياتها العنيفة؟ وما دلالة « المتحف» الذي تحفظ فيه البراءة»؟ أسئلة تصعب الإجابة عليها تبسيطيا.

ودلالة « المتحف» المباشرة تشير إلى احتفاظ (كمال) بالأشياء التي كانت في حوزة (فوسون) أو حتى التي لمستها بيدها أو بفمها، منذ أن قابلها للمرة الأولى وطيلة السنوات الثمان الذي عذبته بإهمالها له، وعرضها في مكان واحد يسميه» متحفا» على غرار المتاحف الكثيرة الخاصة التي زارها في مختلف أرجاء العالم بعد موتها. وهو، أو الراوي، يخرج من سياق السرد ليعلق على كل شئ من تلك الأشياء : كوب ماء، زجاجة عطر، طفاية سجائر.....الخ، وهو يجول بنا كمرشد سياحي في أركان ذلك «المتحف»، منبها القارئ/ الزائر على أهمية كل مفردة من مفرداته. فهل ترمز تلك الأشياء» المتحفية» المتعلقة بالبطلة إلى براءتها المفقودة، الأخلاقية بالذات، منذ اللحظة التي سلمت فيها نفسها لكمال، وأن ذلك الجزء من حياتها يستحق أن يحفظ في» متحف» حيث لم يعد له وجود أو تأثير يذكر في حياة ذلك المجتمع المتغرب، وأن إصرار الراوي على إنشاء ذلك المتحف يدل على المسافة الشاسعة التي تفصل بين ذلك المجتمع الذي يمثله الراوي وبين التقاليد الشرقية الإسلامية التي ينظر إليها كأشياء منقرضة أو على وشك الانقراض؟

أو ربما تكون البراءة افتقاد البطلة الحنكة بأمور الحياة الحديثة (Sophistication) التي يتمتع بها عالي الثقافة وعميق التجربة، لا سيما من الطبقة العليا في المجتمع، والتي لا تنتمي إليها (فوسون) بالتأكيد، لأنها تترك نفسها على سجيتها في القول والفعل. وفي اللحظة التي بدأت فيها تجربتها في الاتساع والعمق لم تستطع تحمل عبئها فانسحبت من عالم الرواية، وأن هذا لا يتنافى مع معرفتها الغريزية بما تريد وكيف تحصل على ما تريد.

وبعد، تتميز هذه الرواية باتساع أفقها الزماني وإلى حد ما المكاني وكثرة التفاصيل، لكنها تفتقر إلى العمق الفكري وإلى الرؤية الرمزية.

فإذا كانت في هذا تشبه الروايات الأخرى للكاتب التي بنت عليها لجنة جائزة نوبل قرارها فربما يكون مركز الثقل التقنية السردية البارعة، وهي بلا شك تلفت إليها النظر، مؤكدة على انتماء الرواية إلى التقاليد السردية المعاصرة.

-

+ المدينة المنورة

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة