Culture Magazine Thursday  27/01/2011 G Issue 331
الملف
الخميس 22 ,صفر 1432   العدد  331
 
الثبيتي..(ذلك الصوت الحداثيّ الأصيل) 2-2
أ.د. عبدالله بن أحمد الفَيفي

-1-

في الجزء السابق من هذه القراءة أشرنا إلى أن من الملامح الفارقة في النصّ الشعريّ الحديث في المملكة العربية السعودية، تلك المحاولات لدى بعض الشعراء لافتراع جزالة لغويّة حديثة؛ تحتفظ بنكهتها التراثية ضمن مغامراتها التجديديّة. وكان من أبرز شعراء الحداثة تميّزاً في هذا المضمار الشاعر محمّد الثبيتي. وقد حللنا بعض ملامح شعره، في لغته، التي بلغ بها ذرى الصوفيّة الفنّيّة في مجموعته الأخيرة، «موقف الرمال»، (2002)، كما تجلّى ذلك في قصيدته «موقف الرمال موقف الجناس». هذا إلى جانب توظيفه المفردات البيئيّة، وجماليّات المكان شعريًّا، وذلك ما منح تجربته أُفقاً من التجريد، ومدًى من الفنّيّة، أوسع انفتاحاً من معظم مجايليه، وذلك صوب دلالات وجوديّة إنسانيّة، موغلة في انزياحها عن قرائن الهاجس الوطنيّ أو القوميّ المباشرة (1).

وفي هذا الجزء من القراءة نقف على التقنية التصويريّة في تجربة الثبيتي الشعريّة، حيث تبرز براعته في رسم الأقنعة، والاتكاء على أسلوبٍ من (المشهديّة السينمائيّة)، تنبثّ في ثناياه الحواريّة تارة، والمونولوج الداخليّ، تارة أخرى. وقد تجلَّى هذا، على نحو خاص، في نصّ «تعارف» (2):

غرفةٌ باردَةْ

غرفةٌ بابها!؟

لا أظنُّ لها أيَّ بابٍ

وأرجاؤها حاقدَةْ

غبشٌ يتهادَى على قدمينِ

وصمتٌ يقوم على قَدَمٍ واحدَةْ

لا نوافذ

لا موقد

لا سرير

ولا لوحة في الجدار ولا مائدَةْ

حين أجّجتُ نارَ الحقيقةِ حولي

وهَمْهَمْتُ بالقول: لا فائدَةْ

كان يثوي بقربي حزيناً

ويطوي على ألمٍ ساعدَهْ

قلتُ: منْ؟

قال: حاتمُ طيٍّ

وأنتَ؟

فقلتُ: أنا مَعْنُ بِنْ زائدةْ!

- 2 -

ويرتقي (التناصّ) في شِعر الثبيتي إلى لُعبة الأقنعة التواصلية مع التراث. وهو بارع في هذا على نحوٍ متميّز. يبرز ذلك في قصيدته المشهورة «أيا دار عبلةَ عِمْتِ صباحا» (3) - على سبيل المثال- التي جاءت متقمّصة صوت عنترة، في انكساره وانتصاره:

غريقٌ بليل الهزائم سيفي

ورمحي جريح

ومهري على شاطئ الزمن العربي

يلوك العنان

أعانق في جسدي شبحاً

مثخناً بالجراح

ومرثية للكميّ الذي ضاع من يده

الصولجان

...

ثم اقتفَى أثرَه لاحقوه من الشعراء والشواعر، وكثيراً ما وقعوا في شباك التداخل أو التناصّ مع نصّه هذا، أو نصّه الآخر «تغريبة القوافل والمطر» (4) :

أدرْ مهجة الصبحِ

صُبَّ لنا وطناً في الكؤوسْ

يدير الرؤوسْ

وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابةْ

أدر مهجة الصبحِ

واسفح على قُلَل القوم قهوتك المُرَّةَ المستطابةْ.

...

هذه القصيدة التي يلبس فيها الشاعر قناع السُّلَيك بن السُّلَكَة، وهو من شياطين الصعاليك، كان مشهوراً بأنه أهدى الناس بالمسالك والأراضين. لكن الثبيتي يمنح السُّلَيك هويةً شِعريةً مبتدعةً، بوصفه رائدَ تغريب القوافل العربية ومستمطر صحوها، إذْ يناجي كاهن الحيّ يستنبئه عن الوطن المنتظر.

-3-

وفي البنية الإيقاعية، تُلحظ لدى الثبيتي ظاهرة أسمّيها (قصيدة التفعيلات)(5)، وهي تلك القصيدة التي يمكن لها بحقٍّ أن تتخذ اسم «الشعر الحُرّ»؛ لأنها لا تتقيّد بالتفعيلة الواحدة، ولكن تنداح في موسيقى الشِّعْر العربيّ، لتبتدع أشكالاً تمليها التجربةُ المتجدّدة من نصٍّ إلى آخر، فإذا هي تمزج نظامًا تفعيليًّا بآخر. وهذه الظاهرة فاشيةٌ في القصيدة الحديثة. يجد ذلك القارئ، مثلاً، في التداخل الإيقاعيّ في قصيدة «سألقاك يوماً» (6) ، حيث يقول:

سألقاكِ.. (فعولن)

أعرف أن الطريق إليكِ

مرافئ للحزن

(و) أرصفة للسراب (فاعلن)

وأن مسافاتكِ الدائرية

تتعب فيها جياد السفرْ

وأعلم أنك هاجرت في (ذاكرة) (فعولن)

الرمل (فاعلن)

أزمنة وعصورًا

تَعُبّ لهاث الهجير

(ولم تتعوّدْ شُرْبَ الهزيمة)

(أعلم أنكِ)،

شببتِ عن الطوق..

غامرتِ في حلبات التحدي.

صرتِ وعوداً تثير الغضبْ

وصرتِ وجوداً يحرّك في الليل (فعولن)

أفقًا جديدًا

ويخفق أجنحةً من لهبْ

فيتداخل نظاما (فعولن) و(فاعلن). ويفعل الثبيتي ذلك أيضًا في قصيدته الأخرى «مساءٌ وعشقٌ وقناديل» (7) ، إذ يقول:

في انتظار المساء الخرافي (فاعلن)

ترسو مراكبنا البابليّة

خفّاقة الأشرعةْ

وريح محمّلة بالضجيج (فعولن)

تدير نجوم المجرّة حول ضفاف الخليج

وتعبث بالصوت والماء والأمتعةْ

فالمقطع الأول- إلى قافية «الأشرعة»- على (فاعلن)، فيما المقطع بعده على (فعولن).

والظاهرة لا تقتصر على تداخل وحدتي (فعولن) و(فاعل)، بل تبدو أكثر اندياحًا في الشعر الحديث، وهي ترد كذلك بين (مستفعلن، وفاعلن، ومفاعلتن). وفي نصّ الثبيتي «موقف الرمال موقف التجنيس» (8) ينتقل من (فاعلن) إلى (فعولن) ف(متفاعلن)، حينما يقول:

قال: (فاعلن)

يا أيها النخل

يغتابك الشجر (الهزيلْ) (فعولن)

(ويذمّك الوتدُ الذليلْ (متفاعلن)

وتظلّ تسمو في فضاء الله

ذا ثمر خرافيّ

وذا صبرٍ جميلْ)

قال: (فاعلن)

يا أيها النخل

هل (ترثي زمانك (متفاعلن)

أم مكانك)

...

وإذا صحّ أن بعض الإشكاليّات (الإيقاعيّة) قد دفعت بعض التجارب دفعاً إلى قصيدة النثر، للتخلّص نهائيًّا من عبئها وتبعاتها، فمن المؤكّد أنها قد ألهمتْ بعض الشعراء إمكانية استثمارها، دون التخلّص منها، بحيث يفيد الشاعر من خروجه عن ضائقة الخضوع لنسق موسيقيّ واحد في كامل نصّه ليشكّل نصّه إيقاعيًّا، بما يتساوق والموقف الشعوريّ الذي يعبّر عنه. وتبرز من هذا نماذج في شعر الثبيتي، منها قصيدة «الأوقات» (9)، حيث ينتقل من تفعيلة الكامل (متفاعلن) إلى أغنية منظومة على البحر المتقارب:

- ماذا سمعت اليوم؟

- أغنية تقول:

(ولي نجمةٌ حينما لا تغيبْ

تكلّل صدرَ الفضاء الرحيبْ

فحينًا أراها تطوفُ الشَّمال

وحينًا تشقُّ صباحَ الجنوبْ)

...

وهكذا تمضي الأغنية، ليعود الشاعرُ بعدها إلى تفعيلة الكامل. وكأنما- وهو يعبّر بهذه المقطوعة عن إيقاع الحياة في نبضها الحديث، إزاء رتابة الحياة التقليديّة- قد أراد، وإنْ لا شعوريًّا، إثارة هذه المفارقة بين رشاقة الوزن المتقارب وحركته الحثيثة، مع انتماء هذا الوزن التناظريّ إلى الماضي، والغناء الآخر المقابل الذي يسوقه في آخر النصّ، وهو تفعيليّ على الكامل، الأثقل بين تفعيلات العَروض العربيّ. وبهذا فإن هذا التشكيل الإيقاعيّ يوحي بأن الماضي قد يكون أكثر حداثةً من حاضرٍ، ظاهرُه حديثٌ وواقعُه عتيق، ومن ثمّ فإن الشكل في ذاته ليس بجوهر الحداثة، ولا العتاقة. وهذا الضرب من الإيقاع (شِعر التفعيلات) قد أرهص بضربٍ إيقاعيّ آخر لدى جيل لاحق من الشعراء، أسمّيه (شِعر النَّثْرِيْلَة)، وهو شكلٌ جديد يتمثّل في نصوصٍ إيقاعيّة إلاّ أنها غير منضبطة على التفعيلة، تقع بَيْن قصيدة النثر وقصيدة التفعيلة. ولذا اقترحتُ لهذا التركيب مصطلحًا- على طريقة العرب في النحت- مكوّنًا من (شِعر النثر) و(شِعر التفعيلة) (10).

كانت هذه ورقة نقديّة أُعدّت بمناسبة تكريم الشاعر محمّد بن عوّاض الثبيتي، في (النادي الأدبي بالطائف)، قبل وفاته بشهر، يوم الأربعاء 13 أكتوبر 2010م.

ألا رحم الله الشاعر الثبيتي، الذي غادر دنيانا بجسده (يوم الجمعة 10 صفر 1432هـ= 14 يناير 2011م)، غير أن روحه سيظلّ هديلُها في تضاريس الوطن الشِّعريّ ما بقي الشِّعر.

***

(1) راجع الجزء الأول المنشور في العدد الماضي من «المجلة الثقافيّة»، على الربط:

/culture/pdf/20012011/t10.pdf

(2) قصيدة «تعارف»، ولعلها نُشرت لأوّل مرة يوم الأربعاء 12 رجب 1418هـ، (ملحق «الأربعاء» بجريدة «المدينة»، السعوديّة، ص 20).

(3) (1984)، تهجّيتُ حُلماً تهجّيتُ وهْما، (جُدَّة: الدار السعوديّة)، 69.

(4) (د.ت)، التضاريس، (جُدَّة: النادي الأدبي الثقافي)، 50-51.

(5) انظر الفيفي، عبدالله بن أحمد: حداثة النص الشِّعري في المملكة العربية السعوديّة: (قراءة نقديّة في تحوّلات المشهد الإبداعيّ)، (الرياض: النادي الأدبي، 2005)، 123.

(6) تهجيتُ حُلماً.. تهجيتُ وهماً، 11- 13.

(7) م.ن، 53- 58.

(8) طبع الثبيتي مجموعته تلك (2002)، لكنها ظلّت محدودة التوزيع، أما قصيدته هذه فقد نُشرت يوم الأربعاء 5 ربيع الأول 1421هـ، (الصفحة الثقافية بجريدة «الجزيرة»، السعوديّة. وعلى شبكة «الإنترنت»: http://www.suhuf.net.sa/2000jaz/jun/7/cu3.htm).

(9) موقع مجلة «نزوى» على «الإنترنت»، العدد الأول: http://www.nizwa.com/volume1/p93_95.html

(10) انظر: الفيفي، عبدالله بن أحمد، « قصيدة النَّثْرِيْلَة: قراءة في البنية الإيقاعيّة لنماذج من شِعر (النثر-تفعيلة)»، «مجلّة عجمان للدراسات والبحوث»، المجلّد السابع- العدد الثاني، 1429هـ= 2008م، (تصدر عن: جائزة راشد بن حميد للثقافة والعلوم، عجمان- دولة الإمارات العربيّة المتّحدة).


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة