Culture Magazine Thursday  27/01/2011 G Issue 331
الملف
الخميس 22 ,صفر 1432   العدد  331
 
ولَيلٌ قَنَادِيلُهُ مُطْفَأَةْ!
أحمد الدويحي

رحل أبو يوسف، يرحل العباقرة بأجسادهم، وتبقى أرواحهم تعطي للأجيال، تحلق في فضاء البشارة..

أنا خاتم الماثلين على النطع

هذا حسام الخطيئة يعبر خاصرتي

فأُسلسل نبعاً من النار يجري دماً

في عروق العذارى

محمد عواض الثبيتي الذات الشاعرة، حفلت تجربته الشعرية بالغوص في تربة حقل اللغة المحملة بثقافتها الأسطورية، فجاءت حمولاتها برؤية النبوءة، والعرافة، والاستقصاء، والاحتمال، والقراءة..

جئت عرافا لهذا الرمل

استقصي احتمالات السواد

شخّص محمد الثبيتي الوطن، واستقصى في رحلته الشعرية القصيرة تضاريسه، مدجج بالوعي والشهوة الأولى، متعثراً بالجوع والحمى، متدثراً خارطة الوطن، حينما يباغته الحلم، فيصحو وتقطر من ملامحه حياءٌ ناصعٌ، ويبوحُ باللون البهي.

أدِرْ مهج الصبحِ

صبَّ لنا وطنًا في الكؤوسْ

يدير الرؤوسْ

وزدنا من الشاذلية حتى تفيء السحابة

أدِرْ مهجة الصبح

واسفح على قلل القوم قهوتك المرْةَ المستطابة

أدر مهجة الصبح ممزوجة باللظى

وقلّب مواجعنا فوق جمر الغضا

كان هذا النص، نصاً فارقاً ومذهلاً، أدار الرؤوس في ليلة جنادرية قديمة، قاسمه بهائها الشاعر القادم من هامات السروات، أعني به الصديق الآخر/ محمد زائد الألمعي، وكانت تلك الليلة فارقة في حركة شعر الحداثة، وصوت الشاعر الكبير يجهر بتفاصيل الحلم ويفصل في القول، كانت أول مصافحة مع الشاعر البدوي الذي قال.

أصَادِقُ الشَّوارِعْ

والرَّمْلَ والْمَزَارِعْ

أصَادِقُ النَّخِيلْ

أصَادِقُ المَدِينَةْ

والبَحْرَ والسَّفِينَةْ

والشَّاطِئَ الجَمِيلْ

أصَادِقُ البَلابِلْ

والمَنْزِلَ المُقَابِلْ

والعَزْفَ والهَدِيلْ

أصَادِقُ الحِجَارِةْ

والسَّاحَةَ المُنَارَةْ

والمَوسِمَ الطَّوِيلْ

***

سَيِّدِي لَمْ يَعُدْ سَيِّدِي

ويَدِي لَمْ تَعُدْ بِيَدِي

قَالَ:

أنتَ بعيدٌ كأَنَّكَ مَاءُ السَّمَاءْ

قُلْتُ:

إنِّي قرِيبٌ كأنِّيَ قَطْرُ النَّدَى

أَلْمَدَى والمَدَائِنُ

خرجنا من تلك الأمسية، يحيط بالشعراء حالة عدائية شديدة، اقتربت من الشاعر الفذ الذي لم أعرفه من قبل، و قد عرف وجع وظلم وقسوة غرفة باردة

غرفة بابها..

لا أظن لها أي بابٍ

وأرجاؤها حاقدة

غبش يتهادى على قدمين

وصمت يقوم على قدمٍ واحدة

لا نوافذ

لا موقد

لا سرير

ولا لوحة في الجدار ولا مائدة

فرحت به يناولني النسخة الوحيدة من ديوان التضاريس، ليحتمي الجميع من هجمة المتوجسين، وكانت تلك الهدية بالغة القيمة، وعنواناً لبداية معرفة ومحبة دامت عقوداً مضيئة كواحد من ملايين، عشقوا حرفه النبيل وتجربة هذا الشاعر الفذ، التقينا بعد تلك الليلة مراراً محدودة، الثبيتي عرف بندرة حضوره وعزوفه عن الأضواء، وكأن القدر كتب أن نلتقي آخر مرة، ونحن نعلو فوق الغيم بعد ثلاثة عقود من اللقاء الأول وفي الفضاء بين الأرض والسماء، وكأن وضاح ينتظرنا في رحلة نادرة وجميلة إلى أرض اليمن، وسهيلُ ألقى في يمين الشمسِ مهجتَه وولَّى والثريا حلَّ في أفلاكها، نلتقي في رحلة ثقافية جنوباً.. جنوباً إلى أرض بلقيس حيث يسكن (وضاح).

صاحبي..

لا تمل الغناء

فما دمت تنهل صفو الينابيع

شق بنعليك ماء البرك!

القصيدة التي كانت تردد في أفواه حضور أمسيات محمد الثبيتي الشعرية في اليمن، كان جمهور الشعر في اليمن، يحفظ شعر محمد الثبيتي ويردد قصائده في ممرات جامعة صنعاء، ونتجه إلى قاعة جمال عبدالناصر حيث يشاركه في تلك الأمسية، شعراء آخرون منهم الشاعرة زينب غاصب، ظهرت ليلتها عظمة الإنسان محمد الثبيتي، حينما تنازل لها بدوره كشاعر، ليفسح لها كامرأة الظهور كشاعرة!

كانت الصفوف الأولى وبينهم سفراء ووزراء ومنهم الدكتور الشاعر عبدالعزيز خوجة، يحضر لأول وهلة في أول ثلاثة أيام، يتقلد فيها معاليه دفة وزارة الثقافة والإعلام، وأول مرة أشاهد جمهور الشعر يقدم الساعات والحلي للشاعر، فما كان من المثقفين في اليمن إلا الطلب من وزيري البلدين، إقامة أمسية شعرية للمتفرد الشاعر الكبير/ محمد الثبيتي، وكان الحضور في المكلا مدهشاً كروعة شعره..

وتتجلى عظمة الوفاء والنبل عند الثبيتي، حينما كنا في طقس يمني ثقافي، نزور الدكتور عبدالعزيز المقالح في بيته، فأصطفى الدكتور الشاعر الثبيتي وقربه، وكان كلُ منا ونحن عدد كبير من المثقفين، يحمل أكواماً من إصداراته، ليهديها للدكتور المقالح، فينكر محمد الثبيتي ذاته، ويقدم للدكتور المقالح ديوان الشاعر الراحل/ عبدالله باهيثم!.

محمد الإنسان البسيط المتواضع الذي ظل على سجيته، وفطرته الأولى البكر الصادق الوفي العذب، محمد الفنان الذي يأخذك إلى مواطئ الجمال والدهشة، محمد الشاعر الشامخ الذي يقتد مفردته من ثقافة موغلة في التراث، وممزوجة بلظى موهبة شعرية لا تتكرر في قرون، محمد الثبيتي العازف عن الجوائز والشهرة والأضواء وتلك حكاية أخرى، يحسب لنادي حائل الأدبي إصداره ديواناً لأعماله الشعرية وآخر لقصائد مسموعة بصوته المليء بالتعب والشجن ورحابة المعنى، والمتكئ على ذاكرة وشاعرية تستحق أن تقرأ وتسمع لقرون مقبلة.

وتحضرني هنا خفة الظل، وميله إلى الدعابة الذكية والحميمية في بعض المواقف، فقد كان البوح شاسعاً في رحلة حرة استمرت أيام، ومكاشفات بعد نهاية الأيام الثقافية الرسمية، فسألته بقسوة ونحن نتجه جنوباً.. جنوباً، وكنت أعرف زهده في الكلام المجاني بلا معرفة، لماذا لم يستجيب لرغبة محطات فضائية ومواقع نت وإذاعات ومجلات وصحف ثقافية، يتوددون إليه ليحضوا بأحاديثه فيعتذر بآداب جم، فقال بدعابة مرة (هل صرت وزير إعلام؟)، وكان يشير إلى الفوارق الجسمانية بيننا، مقارنة في إشارة لا تخلو من دلالة إلى جسده الضئيل وطولي الفارع، فشبهني (بودي قارد) تلك الليلة الأولى في معرفتنا، فقد كانت السبب الذي جعله يهديني ديوان التضاريس، ويحتمي بي خوفاً من تلك الهجمة الشرسة (!)، وليتهم يعرفون أن محمد الثبيتي الذي طوى دروب المدينة مبتهجاً ونثر بأطرافها عنبره، كان يطوف في صغره بالطائفيين حول البيت داعياً وملبياً، وأستشف من تلك المعرفة الدينية حرفه الشعري النبيل..

شدنا في ساعديك

وأحفظ العمر لديك

محمد الثبيتي الذي ينتصر للخير للجمال، يحلقُ حوله كوكبة من المثقفين فهد الخليوي/ محمد الحرز/ أحمد القاضي/ محمد الحمد/ صلاح القرشي/ فهد العساكر/ جارالله العميم/ وسعد الثقفي.. فيأتي ويذهب مثقفون يمنيون وسعوديون، وتظل حلقات اللقاء ندية بالشعر والغناء والقصة والحوار، فنطق أحد النقاد معاتباً لكاتب قصة، وظف الكلام الشعبي في نصه كفن سردي، يقتبس من الكلام الشفوي، واستشهد ببيتٍ شعري خطأ في نقده للقاص، وسمع الحضور الثبيتي بصوته الجهوري، يصحح للناقد البيت الشعري، والثبيتي ذاكرة شعرية شاسعة، تستودع في خزائنها عيون الشعر العربي فصيح وشعبي، وحينما أكثر الناقد من الحلف، رد الثبيتي بدعابة متسائلاً: وكأن الله لك وحدك.. ؟!

اكتشفت في نهاية الأيام الثقافية أني فقدت حافظتي.. فبقيت في سيارة خاصة تنقلني وإياه والدكتور بكر باقادر والدكتور سلطان القحطاني وآخرين ونحن نتجه إلى الجنوب، فيترجل ركاب الرحلة في خطوات حرة على جبال اليمن، وقد لمحوا حينها في دوعان (قوت العاشقين!!)، فأصر الثبيتي أن يخصني بها بعد ديوان التضاريس، وكانت الهدية الثانية رشفة عسل.

سقط محمد الثبيتي بعد نهاية الرحلة بثلاثة أيام، فُجعت وقد تواعدنا أن نلتقي في الرياض، لنحضر فعاليات معرض الكتاب، وليأتني صوت الشاعر سعد الثقفي الذي كان المعني بالوصفات الطبية للثبيتي موجوعاً مفجعا، ومرت الأيام دون أن يجد الثبيتي عناية طبية تنقذ حالته، فدُمرت الذاكرة التي حملت الوطن البشارة!

رحلة محمد الثبيتي المرضية سؤال كبير، لابد أن يُطرح في المشهد الثقافي من جديد، يتجاوز حدود المؤسسة الثقافية الرسمية إلى النخب الثقافية ذاتها، ومعرفة قدرتها حقيقة ومدى فاعليتها في صيانة ذاتها وكلمتها..

يا للهول؟ّ! عجزت أن أكتب عنه حرفاً من تلك اللحظة إلى الآن، ومئات المقالات وكلمات الرثاء تكتب في الصحف ومواقع نت ومنها موقع الشاعر، يشرف عليه وصممه مشكوراً الصديق الشاعر/ عبدالكريم العودة، محمد الثبيتي الذي كان يلتف حوله سرير رأسه الأصدقاء في جدة والرياض ومكة، وتصبح غرف علاجه مزاراً للكتاب والشعراء والدارسين، وستصدر عن شعره عشرات الدراسات العلمية كقيمة شعرية نادرة للأجيال، يظل السؤال الكبير المطروح على المشهد الثقافي، ويستشرف الواقع بحسرة مرة، حينما نقلب ملف محمد الثبيتي الطبي، لماذا فقدنا قامة شعرية بلا مبالاة وإهمال حد الفجيعة؟.

قل لليلى تجئ صباح الأحد

أنها تقف الآن بين الزلال وبين الرمد

قل لها:

أنت حلُ بهذا البلد

أنت حلٌ لهذا الولد

سمعت من الأصدقاء مباشرة وفي البرامج الثقافية، وقرأت في الصحف والمواقع الإلكترونية اقتراحات، ترى في مساعي عدة ضرورة تكريم الشاعر الكبير، وتطلب من المؤسسة الثقافية بتسمية قاعة ثقافية أو شارع أو بإطلاق جائزة تحمل اسمه، وكأننا نكفر عن تجاهل وظلم عاناه الشاعر الثبيتي، ونسى هؤلاء أن الشاعر الكبير عاش عفيفاً.. فبدأ كأننا نرثي حال الشارع الثقافي ولا نرثي الثبيتي، فقد كشف هشاشة هذا الشارع إذ يمشى في جنازته، عدد لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة من أصدقائه المثقفين، وصديقه الحميم (ابن جني) شعره رجا الله الثبيتي، يسندُ إلى جوار جثمان المزمل بشت عودي ذهبي التطريز أحد طيور الجنة بمقبرة المعلاة في مكة المكرمة التي اصطفاها واصطفته.

بِمِيمِهَا وبِكَافِهَا وبِهَائِهَا

وغمرتُ نفسي

في أقاصي ليلِهَا

فخرجتُ مبتلاً بفيضِ بَهائهَا

وطَرَقْتُ ساحاتِ النَّوى

حتّى ظَمِئْتُ إلى ثُمالاتِ الهوى

فَسَقَيتُ رُوحي سلسبيلاً مِنْ مَنَابعِ مائِهَا

وَنَقَشْتُ أسمي في سواد ثيابِهَا

وغَسَلْتُ وجهي في بياضِ حيائِهَا

وكتبتُ شَعْرِي عندَ مسجدِ جِنِّهَا

وكأني به يردد القصيدة التي قال ابنه البار نزار محمد الثبيتي، أنه كان يرددها في بيته المتواضع فوق أحد جبال أحياء مكة، فتسكن روحه الطاهرة ويكفيه وحيها..

يا امْرَأَةْ

بَينَنَا بَرْزَخٌ مِنْ جُنُونِ

وسُهْدٌ تَشَرَّبَ مَاءَ العُيُونِ

وحُزْنٌ يَسُدُّ فَضَاءَ الرِّئَةْ

يَا امْرَأَةْ

بَينَنَا عَاذِلٌ لاَ يُرى

وعَينٌ مُجَافِيَةٌ لِلكَرَى

ولَيلٌ قَنَادِيلُهُ مُطْفَأَةْ

كان نزار الذي ظل ملازماً لوالده وباراً به، يخبرني عن بعض إيماءات محمد الثبيتي، وما تجود به ذاكرة طوت كل شيء، فيتصرف بذات العفوية والبراءة في عينيه، حينما يحضر الأصدقاء لزيارته، يطرب للدكتور علي الرباعي، ويبتسم لرفيق دربه الشاعر/ عبدالله الصيخان ويتمتم بكلمات، فقد عاش الثبيتي في حرم القصيدة وداخل جلبابها، وقضى عمره يواجهها وجهاً لوجه.

القصيدةُ/ إما قبضت على جمرها/ وأذبت الجوارح في خمرها/ فهي شَهدٌ على حد موسْ/ فحتّام أنت خلال الليالي تجوسْ/ وعلام تذود الكرى/ وتقيم الطقوسْ/ وألفٌ من الفاتنات الأنيقات يفرحن/ ما بينهن عروسْ/ لا أنت أوتيت حكمة لقما/ ولا هن أوتين فتنته يوسْ.

حتماً.. ستبقى يا محمد ذاكرتك حية..

وستحيا في ذاكرة الأجيال جيلاً بعد جيل.

وستردد بعدك..

ستموتُ النسورُ التي وشمتْ دَمَكَ الطفلَ يوماً

وأنتَ الذي في عروقِ الثرى نخلةٌ لا تَمُوتْ.

سَلاَمٌ عَلَيكَ

سَلاَمُ عَلَيكْ


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة