Culture Magazine Thursday  28/04/2011 G Issue 339
فضاءات
الخميس 24 ,جمادى الاولى 1432   العدد  339
 
عن لماذا
الأبوية السعودية
لمياء السويلم

لم يكن ظرفنا الاجتماعي سهلاً حينما التقت في دواخلنا الأبوية القبلية بالأبوية الدينية، ولم نكن نحن قادرين على أن ندرك جذور هاتين الأبويتين في تفكيرنا وتاريخنا، ولم يكن من السهل أيضاً أن تفك السلطتين عن بعضهما بعد أن توج وشرعن ارتباطهما قيام الدولة. ولأننا اليوم نحن السعوديين نعيش رغبة واضحة في التغيير الاجتماعي والسياسي والاقتصادي فقد تُشكِّل رغبتنا هذه مرحلة فاصلة في وعينا بقيم كثيرة، الحرية آخرها وأولها.

الأبوية في كل تعاريفها ليست إلا سلطة الواحد، وأن نقول الواحد يعني شيخ القبيلة أو شيخ الدين فهو اختصار مخل للقصة. الأبوية تلد وتولد، تتعدد، وتمتد في أكثر من موضوع، خطأ نعتقد أنها سلطة دينية وسياسية فقط، الأبوية نظام معرفي سلطوي بالدرجة الأولى، تنتج حكماً سياسياً دينياً اقتصادياً وغيره من الأحكام التي في مجموعها تتسلط على المجتمع، ولهذا لم تحقق رغبتنا في التغيير اليوم الكثير رغم رفضنا مجموع هذه الأحكام ومحاولتنا المستمرة مقاومتها؛ وذلك لأنه ما إنْ نقاوم حكماً إلا ونجد حكماً آخر قد صدر يدعمه، مقاومتنا لفكرة الحسبة بوصفه حكماً أبوياً دينياً حدت قليلاً من سلطتها، لكننا لم نستطع أن نوقفها لأنها تستمد قوتها من سلطة أبوية أخرى، فالرموز الدينية عبر التاريخ الطويل والقريب لم يسطع نجمها إلا تحت أبوية سياسية، وفكرة الحسبة هنا وليدة ميثاق التأسيس والوحدة الوطنية أيضاً، وجهازها رسمياً جزء من نظام الدولة وإحدى مؤسساته.

وفي الثلاثين عاماً الماضية على الساحة المحلية في السعودية لم يكن المحتسبون بوصفهم رجالاً وحدهم يشكلون سلطة تضيق على المجتمع حريته وتتعدى على حقوق الأفراد الشخصية، بل كان الدعاة - الوجه الأبيض للمحتسبين - هم من يمارس السلطة الأعمق؛ لأن سلطة الكلمة للداعية أهم وأشد في التأثير المعرفي من التدخل المباشر للمحتسب في شؤون الناس، الداعية يورث خوفاً من الله والمحتسب يورث خوفاً منه، الداعي يتطور ويجدد من مواضيع دعوته من الدين إلى السياسة إلى الاقتصاد، ولهذا أنتجت الدعوة نخبوية دينية في أشكال أخرى لم تستطع الحسبة إنتاجها، فالرفض الاجتماعي للمحتسبين اليوم لا يعادله القبول بأوجه الدعوة الجديدة كالإصلاحيين الإسلاميين مثلاً، والسلطة الأبوية هي نظام معرفي لأنها ليست حصراً على مجال دون غيره، هي نظام يتأسس في كل المواضيع، ويملك القدرة على أن ينتج فيها جميعاً، فالثقافة السعودية التي تفترض نفسها نقطة الوعي الأولى في النظام الأبوي في السعودية هي أيضاً لم تخلُ من الأبوية؛ فمن السهل جداً أن نجد أبوات ثقافية تشعر في ذاتها حكم شيخ الدين أو القبيلة، أبوات مهما اختلف الواقع والتاريخ والعِلْم معها ستبقى تكرر أفكارها نفسها وتشحذ من النظام المعرفي نفسه الذي أنتجت فيه قبل عشرين أو أربعين عاماً، وربما كانت هذه الأبوات الثقافية لا تشكل سلطة بالمعنى، لكنها تحتفظ بطبيعة النظام الأبوي للمعرفة، الذي يكرس ويحافظ على مصادره ونوعية إنتاجه مهما كان حجم التغيير من حوله.

وإذا كانت القبلية عصبية والدين اصطفاء والسياسة استبداداً فهذا لا يعني أن القبيلة أو الدين أو السياسة هي الأبويات الوحيدة التي تحكم المجتمع السعودي وتنتج سلطتها فيه؛ ذلك لأن كل المجالات الأخرى تشكل أرضاً خصبة للأبوية أيضاً، المدرسة والبيت، مجلس الشورى والملعب، البنك والجريدة الثقافية كل منها يعرف أبواته، وكل شخص منا يحمل أباً في داخله قد يتمثله في أي وقت، ربما نشعر أحياناً أنه لا يمكن لأصواتنا أن تُسمع اجتماعياً إلا من خلال هذا النظام فنتنافس على الأبوات وكل الرموز التي تعادلها في السلطة المعرفية، نبررها باختلاف المعاني، ونكرسها بوعينا أو بدونه، والعقل الجمعي اللاواعي الذي نكرر هذه الأيام استخدامه لا يتجذر فيه كالأبوية شيء، ولا نستنبت نحن أفكارنا من شيء كما نستنبتها منه. القصة ليست في رغبتنا بالتغيير التي تستعصي أحياناً، بل في الذي نرثه بدواخلنا نظاماً ثابتاً لم يتفكك، نظاماً منتجاً متجدداً لم يمت.

lamia.swm@gmail.com الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة