Culture Magazine Thursday  28/04/2011 G Issue 339
فضاءات
الخميس 24 ,جمادى الاولى 1432   العدد  339
 
ولقد مررت على الرياض!! (2/2)
سالمة الموشي و «العنف الثقافي»
علي الدميني

خلال جولتي الخاطفة في ردهات معرض الكتاب الدولي بالرياض، دعاني أحد الأصدقاء لاستلام كتابين أهدتهما إليّ إحدى الكاتبات.. لم يقل اسمها ولم أسأله، وتبعته حتى وقفنا أمام معرض دار نشر عربية.. كانت الكاتبة تقتعد كرسيها داخل المكان وهي تعتمر لباساً شديد المحافظة، بما في ذلك نقابها.. فظننت أنها إحدى الأخيات الدعويات.

كانت تتكلم بصوت خفيض وهي تقدم لي كتابيها، وكنت في صخب المكان لا أسمع ما تقوله رغم طلبي لها بإعادته! بيد أن اسمها على الغلاف قد أعانني على تفسير ما لم يصل من دلالات الكلام.

ولعل في هذه الصورة الجزئية، ما يعبر عن مقدرة الجانب السلبي من الصخب الجماهيري (ثقافة وتاريخاً وأعرافاً) على تشويش ذهن الإنسان، وإعاقة التواصل الثقافي بين كائنين ينتميان لذلك الحقل، في فضاء عام، حيث إنني أحسست بأن الكاتبة الكريمة قد أضمرت في وجدانها سخرية مرّة، من أنني «حتى أنا» قد خضعت لسطوة البنى العرفية المهيمنة حتى في هذا الفضاء الرحب!

«سالمة الموشي» ليس اسماً جديداً على ذاكرتي، فقد اطلعت علي بعض ما تنشره في الصحف والمنتديات الالكترونية، مثلما تابعت اهتماماتها الحقوقية، ولكن كتابيها («الحريم الثقافي»، و«أيها النسيان..من رآك») كانا مفاجأة سعيدة بالنسبة لي، حيث أعدهما من أعمق وأشجع مما أنجزه آخرون وأخريات، في قضايا قريبة من موضوعيهما.

«الحريم الثقافي..

بين الثابت والمتحول»

بتوظيف عدة وعي معرفي شديد الصرامة والوضوح في حقل النقد النسوي، وبمقدرة لغوية حديثة تنتهج التكثيف وجمالية الحكمة وسخرية المقابلة، تشتغل الكاتبة على إشكالات ما يواجهه الكائن الأنثوي من تشويه وإعاقة وتدجين، لا على صعيد الماضي البعيد، لأنه ما زال حاضر في «الآن.. وهنا» وإنما على تفكيك ترابط حضوره في سياق كتابة «الأنثوي» منذ الستينات وحتى اليوم في نتاج كاتباتنا ومبدعاتنا السعوديات.

وحيث تتجلى فاعلية تلك الإشكالات القبلية على شكل «عنف ثقافي» ضد المرأة، فإن الكاتبة تستخدم أدواتها النقدية ورؤاها لصياغة أطروحاتها وفق آليات «العنف الثقافي» المضاد، الذي لا تكتفي فيه بتصويب سهامها إلى طبقات الثقافة الذكورية المتراكمة على مر العصور، ولا إلى تفكيك مسلمات خطاب الكاتبات المحافظات في بلادنا وما ينشرنه من كتابات دعوية أو أكاديمية بهدف إعادة إنتاج ثقافة التهميش التقليدي للمرأة، وإنما تذهب للاشتغال على مجمل الإنجاز الثقافي والإبداعي للمرأة المستنيرة في بلادنا، منذ بدء فك المرأة لشفرة الكتابة وحتى تسنمها موقع المبدعة وكرسي الأستاذة الأكاديمية، حيث ترى المؤلفة في معظم ذلك النتاج الأنثوي مراوغة تجميلية لإعادة إنتاج «الثابت»، دون اقتراف شجاعة مراودة الإبداع الجديد، والخروج من موات الهامش إلى حيوية المتن.

وفي هذا السياق تقول: «وليسقط الصنم الذي نصبنه طويلاً، ينبغي ألا نؤجل سقوطه، وأن نعترف به ثم نقوضه. إذ من خلال حراك على هذا النحو، لا نستطيع أن نؤرخ بشكل أو آخر لمرحلة كتابة إبداعية نسوية وفكرية، باستثناء ما يميزها وهو سياق الحريم الثقافي!» (الطبعة الثانية للكتاب - ص 85).

الأس (الصفري) للكتابة الأنثوية:

رياضياً يمثل الأس الصفري لأي رقم، أو كلام طويل، أو وجود متخيل، إلى صفر..إلى عدم القيمة.

وسالمة الموشي، الناقدة الأدبية والباحثة، والحقوقية، تقرأ نتاج الكاتبات السعوديات منذ الستينيات وحتى اللحظة، وفق «مسطرة» تتموضع ضمن خندق أيديولوجية «النقد النسوي»، لتحيله بضربة «لازب» إلى «لاشيء»!

وتتضح بعض محددات هذه المسطرة في عناوين كتابها مثل: العقل المستزرع، امرأة ارتدت حلّة الخصوصية، الثقافة القاهرة، الانحباس في ذاكرة الحريم، البعد الزائف، انتصر النسق وسقطت الذات، العقل الإلحاقي، الحداثة الخراب، الممكن الأنثوي.. لماذا لا نزال آخر؟، منطقة لا أحد، وضع القاصر..وغيرها، ويمكن تجلية بعض عناوين تلك المسطرة عبر ما تبوح به عباراتها التالية:

1- لن يكون بمقدور نصوص لم تنتج «المعنى» أن تصنف بأنها خطاب نسوي، أو متحول من الثابت إلى الأفق، فيما هي ليست كذلك! إذ إن حراك الخطاب وواقعه، وصوته يشهد بكونها كتابة نسائية بحتة، وهي عكس «النسوية» تماماً، إذ النسوية هي تيارات فكرية تتراوح ما بين السياسي والفكري... مثل النسوية الراديكالية، والليبرالية، والاشتراكية، وغيرها» (ص 82). وتفسر ذلك في موضع آخر بقولها: كم يلزمنا من الوقت لإشفاء الذات الأنثوية من الذاكرة الحريمية، وإقناعها بضرورة مساءلة حراكها الثقافي- الفكري في سياق (معنى نحن)، (معنى وجودنا)، (ومعنى من أين وإلى أين؟).

2 - من ينتج النص عليه أن ينتج التغيير، أن يستمر في علاقة جدلية مع الحقيقة، ووعي ورؤية العبور إلى الوعي الخلوصي... وتضيف في موضع آخر: وما لم يحقق (الخطاب) ذلك فهو خطاب ذو بعد واحد(ص 75).

3 - لم يخرج الصوت الأنثوي من ربقة البكائية والصمت.. الصوت والصمت.. فالصوت الذي ليس علامة وجود، الصوت الذي لا ينتمي إلى إرادة وعي حر، يبقى على السطح، طافياً منتمياً إلى عالم الشعور، وخارج الفعل الحقيقي، منلوجاً داخلياً غير فاعل.

4 - إن التغيير لن يحدث من كون الذات الأنثوية تنسرد حكايا، مثلما أيضاً لن يحدث من صرخة مخنوق على هيئة نص بدا بمثابة واقعة لغوية لا تمتلك من فاعليتها إلا عناوين ملونة. (ص 83).

5- النص الأنثوي (الأقصوصة، القصة القصيرة، الرواية) كتب ليهرّب الكلمات المباحة إلى الورق، وليس ليهرب من الورق إلى المباح. ص (55).

6 - لقد خلق النص الأنثوي رجلاً أسطورياً، بحيث أصبح الرجل كسلطة قاهرة، هو بطل القصة والرواية والنثر بلا منازع، فهي إما تطارده بتشويه صورته الحركية في اليومي، وإما تطارده بالكتابة عنه أو بالكتابة إليه!

وضمن مختبر هذه «المسطرة» المكلّلة بعنفها الثقافي، ومرجعيتها النقدية «النسوية» تقرأ نتاج كاتباتنا، بدءاً من سميرة خاشقجي، ونجاة خياط، وصفية عنبر، حتى أميمة الخميس وبدرية البشر وليلى الأحيدب، وغيرهن، فترى «أن كل هذه السياقات السردية والحركية.. لا تفجأ بقدر ما تترك السؤال متاحاً، ومشرعاً لحقيقة ما، وهي أننا أمام نصوص عبرت عن قلق وجودها إنما بخطاب أدّعى الجزالة الفكرية، فيما ظل حبيس ذاكرة الحريم.. وتكمل في موضع آخر: «إن كتابة نسائية بهذه الروح هي خطاب مستمد من القاعدة الأساسية التي تعتمد على كونها استجابة للسياق الأولي في المكون الاجتماعي، والتعليمي، لكائن مقموع في لا وعيه البعيد، مما يؤكد أنه توظيف لسياق المرحلة الماضية». (ص 73).

وإذ أميل إلى أهمية منهج الكاتبة وعنفه الثقافي، من أجل هز الساكن القمعي الثاوي في مكوناتنا الثقافية في كثير من نتاجاتنا الذكورية والأنثوية، بغية تحرير الذات المقموعة في الواقع وفي الورق، لتكوين الهوية الحرة التي تسائل المسلمات والأعراف والقوانين المعيقة لتحقيق الكائن لهويته الخاصة ومعنى وجوده وإنسانيته، إلا أنني أتحفظ على نزعة الأدلوجة الوثوقية المضمرة في بعض ما تخلص إليه من أحكام، وهو ما سوف أشير إليه في نهاية هذه الحلقة.

التعقيم النقدي:

تحت هذا العنوان الثري الدلالة، عنيت المؤلفة بقراءة المتون النقدية الأدبية التي قاربت- من مستويات مختلفة - الكتابة والإبداع الأنثوي في بلادنا، حيث ترى في ذلك الصخب الاحتفائي، في الصحف والمصنفات، ما يشبه المؤامرة المستترة على كتابة الأنثى، لكي تنشغل عن إنتاج خطاب الذات، بالبقاء في نمطية استعادة المكونات القبلية للثقافة الأبوية البطريريكية، وتأنيث حضور الثابت في بهرجة احتفالية الحداثة بشريك أنثوي يكمل مهزلة الديكور، ويعمل على «تعقيم» الفكر الأنثوي، وتنميطه، بحيث لا ينفتح على ثقافة العصر، ولا على كينونة «الإنسان» في الأنثى.

لذلك تكشف الغطاء عن ما تضمنته كتابات كثير من النقاد «الوافدين» - بحسب تسميتها- المفعمة بالخواء ومهارات «الطبطبة» والنفاق، التي سعت إلى تكريس حضور اللاحضور في كتابات المرأة السعودية. كما ألمحت من جانب آخر إلى ما أضمرته بعض نتاجات النقاد المحليين من حس «أيروتيكي» يتبدى في لغة مقاربتهم للنتاج الروائي الأنثوي - مثل رواية «خاتم» مثلاً!

وقد أفضى بها المطاف إلى تتبع بعض القراءات النقدية الجادة فتناولت كتابين يعدان من أهم الكتب التي صدرت في سياقها - محلياً وعربياً- وهما «المرأة واللغة»، و»ثقافة الوهم» للدكتور عبد الله الغذامي، فوقفت على قوله: «في التركيز على المضمون مغالطة مبدئية، لأن وظيفة الأدب ليست فيما يحمله من موضوعات، ولكن قيمة الأدب هي في قدرة الكاتب على تحويل التاريخ إلى لغة، ونقل الحدث إلى مستوى الإبداع اللغوي» (ص 168). لترد عليه بالسؤال التالي: «هل هذا التصريح في المضمون واللغة دليل موثق على نموذج يدعو إلى تلقي وكتابة النص المغلق؟ وهل لهذا نحظى بنقد على قدر كبير من الاختزالية والمماهاة والدعوة لانغلاق النص وترك أهميته قصراً على اللغة، وليس على جوهر ما تحمله هذه اللغة من فكر؟».

ويهمني هنا أن أشير إلى أمرين: أولهما أن اللغة في المتن الثقافي المعاصر أصبحت جزءاً رئيساً من أدوات تشكيل بلاغة الخطاب(فكراً أو إبداعاً) وأن الغذامي في كلماته السابقة كان يعنى بالإبداع وحسب، فيما لم يزل متقشفا في لغته الفكرية حتى اليوم، وثانيهما أن الكاتبة نفسها في هذا المتن الجميل قد حافظت على عمقه الفكري وتشكيله اللغوي أيضاً!

أما عن كتابي الدكتور الغذامي فقد أفردت فصلا مختصراً، لم تتح لقارئها فيه مشاركتها الوقوف التفصيلي على مشروعية نقضها لأطروحة الكتابين، وخلصت إلى نتيجة حاسمة أو محسومة سلفاً، حيث تقول عن كتاب « ثقافة الوهم»: « إن ما يطرحه الكتاب هو مما لا قيمة له البتة في السياق النقدي لمشروع مقاربة المرأة والخطاب. فقد تعمد الكتاب عن وعي عليم، بتجاهل ربط ثقافة الوهم في فكرتها الجوهرية بحراك ثقافة الوهم التي تعمل وتنغل في الخطاب المعاصر للذات الأنثوية ذات الخصوصية.. هذا إذا ما اعتبرنا الكتاب ليس إلا دعوة لإحياء التراث الثقافي ومما يعوّل عليه في هذا الاتجاه»!! (ص 177).

وقفة قسرية أخيرة:

أحتفي بهذا الجهد البحثي العميق، وأزعم انه - في طبعته الجديدة - من أهم الكتب الصادرة حديثا في بلادنا، لأنه لا يقول وحسب، وإنما يحرضنا على شجاعة الرأي وتسمية الأشياء بأسمائها، ولكنني أتحفظ على نزعته التعميمية، وعدم الانتباه إلى جدل الظرف الموضوعي بمخرجاته الثقافية، وذهابها إلى محاكمة بدايات كتابة الأنثى ومراحلها الوسيطة في بلادنا، باستخدام معطيات الحاضر وأدواته، فالماضي كان معزولاً عن العالم، أما حاضرنا فقد أصبح - بفعل قوة اقتحام التقنية التواصلية - جزءاً متصلاً بالعالم، فضاء وثقافة وطرائق تفكير، ولو على المستوى الفردي، مرحليا.

الكاتبات والمبدعات في بلادنا منذ الستينيات وحتى مطلع القرن الحالي، كن يحفرن في الصخر، ويفتحن النوافذ والمسارب الصغيرة للضوء لهن وللأجيال الجديدة، وقد قدمت بعضهن التضحيات ودفعن الثمن غالياً في قضايا قد لا يعرفها الجيل الشاب، وأجزم أنهن لا يردن منا الثناء الآن، ولكنهن يتوخين فينا قليلاً من الحكمة والإنصاف، واحترام الظروف الموضوعية التي خضعن لها، مثلما قسرت الكاتبة الفاضلة نفسها عليها - فيما يخص حجاب الوجه - في معرض الكتاب!

وأعتقد أن كل ذلك السياق بكل إنجازاته وإخفاقاته، قد أسهم بشكل أو بآخر، في تهيئة المناخ لما تتوفر عليه الكاتبة من عدة وعتاد معرفي لتأليف هذا النص، بما في ذلك مناخات استقباله، مثلما شارك فيه من الجانب الآخر، الوسط الحداثي بكل ما له أوعليه!

وإذ يتفق الكثيرون، وفق معطى معين مشروط بزمان ومكان محددين، مع دوافع وضرورات هذا الانفجار الثوري في فكر «النسوية» إلا أنه ينبغي الاحتراز من مآلات نزعته الأيديولوجية ونبرته الحاسمة، التي تغفل أن «المرأة والرجل» (المستنيرين) في كافة الأبعاد، ضحايا لثقافة القهر المركبة، ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، وأن تحرر المرأة من سطوة تلك الثقافة الأبوية والعرفية السائدة، لن يأتي فقط من حرب «جندرية»، وإنما من مشاركة الطرفين معاً للعمل على إنتاج ثقافة جديدة تعترف بحق المساواة بين الكائنين العاشقين لكينونة واستقلالية كل منهما، من أجل حياة إنسانية معافاة.

بقي أن أشير بتقدير عميق إلى الكتاب الجديد للمؤلفة، وهو»أيها النقصان من رآك - نساء تحت العرش»، حين قامت بتغليب منهج التفكيك المعرفي على عدة النقد النسوي في مقاربة وتفكيك أسس حمولات «نقصان المرأة»، في التاريخ والفسيولوجيا والثقافة والتأويل الديني أيضاً، وهو ما يستحق قراءات متأنية وجريئة، لا أمتلك الجلد على الخوض فيها الآن!

الظهران

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة