Culture Magazine Thursday  29/12/2011 G Issue 358
فضاءات
الخميس 4 ,صفر 1433   العدد  358
 
ليس بالنيَّاتِ وحدها، تكونُ الديمقراطيّات
(أُريْكُم مَا أَرَى!)
ياسر حجازي

يحتلُّ ذهنيّةَ طائفةٍ من الفائزين وأنصارهم -أو الشامتين أيضاً- ظنٌّ (اشتراطيُّ، ديمقراطيُّ!) شحنتْهُ النتائجُ التي تقيَّأَتْهَا ملهاةُ انتخاباتِ الأندية الأدبيّة: وذاكَ قولهم: إنّ (قبولَ الرأي الآخر جزءٌ أساسٌ من الديمقراطيّة) وهو خَتْمٌ مُصدّقٌ على تركيبتها الكيميائيّة وبركاتها الانتخابيّة؛ ولكي تُدرك كيف آلَ إليهم هكذا ظنّ (اشتراطيٌّ اعتباطيٌّ) فإنّك لا تستبعد الغائيّة والنفعيّة التي أوصلت إلى خلط موهوم بين مفاهيم الآخر: (بين قبوله، وقبول آرائه، وقبول تداولها)؛ ولعلّ ذهنيّة (الرابحين/والشامتين) ونيّاتها، تُورّطها أثناء تنظيرها لخصال التجربة ومكاسبها أنّها تنطق بلسان الديمقراطيّة، فتختلِقُ من القيم والمفاهيم ما ليس فيها ومنها.

***

(قبولُ الرأي الآخر)، قولاً يتداوله مَنْ يُريد ارغامَ خصومهِ بارتضاءِ نتائج تتحمّلُ الظنون والطعون، مثلما أنّها تتحمّلُ الوثوق والثبوت، وهو قولٌ (ثقيلٌ) على الخاسرين الرافضين لهكذا منطقٍ استسلاميّ، وهُم عاجزون عن دَحْضِهِ، فما يكون منهم إلاَّ الخوض في جدلٍ حول عدم مشروعيّة المُخرجات اتكّاءً على مظنّة مفسدة المدخلات؛ ولأنّ (العقدَ شريعةُ المتعاقدين) فإنّ مبدَأ: (ما بُنِيَ على باطلٍ فهو باطل) معطّلٌ، ولا يُجازُ عضداً مجازياً لدفوعاتهم، ولا يُعتدّ به كحُجّة لكلا الفريقين، إذ وافقَ الأفرقاء جميعهم بدءاً (وهم بالحالة الأهليّة المعتبرة شرعاً وقانوناً) خوض غمارِ التجربة/العمليّة بما فيها من عيوبٍ، قد اطّلعوا عليها بأنفسهم، ولعلّهم رصدوها جيّداً وأدركوا مخاطرها وتبعاتها، لكنّهم صمتوا عنها.

فما معنى: (قبول الرأي الآخر)؟ وهل هذ الاشتراط من ديمقراط؟ وما علاقة ذلك بالطعن الانتخابي؟ أمْ أنّه خلطٌ عجولٌ، ولغطٌ جهولٌ بين مفاهيم عديدة: (1) قبول الآخر، (2) قبول آرائه، (3) قبول تداول آرائه؟

***

إنّ قبولَ الآخر واحترامَ آرائه تداولاً وإباحةً لا يعني قبول آرائه؛ فقبولُ الآخر (الداخليّ أو الخارجيّ)، مفهومٌ تعدّديّ واسع، يتحمّل الائتلاف الذي يضمّ الاختلاف.

هكذا يكون قبولُ الآخر (تبادليّاً، تكامليّاً)، حيث كلا الطرفين (أنا)، وكلا الطرفين (الآخر)، إذّاك فإنّ القبولَ تعدّدٌ وتنوّعٌ وحالةٌ واقعيّةٌ، وليس منحةً من أغلبيّة قويّة؛

(استطراد): قد يَرِدُ إلى ذهن القارئ (مُصطلح التسامح) بينما نتحدّث هُنا عن قبول الآخر، إلاّ أنّنا لا نتوافق مع هذا المصطلح، المتضمّن استعلاء وإقصاء، فهو لا يتآلف مع مفهومنا للآخر، بوصفه: (أنا والآخر في آنٍ)، فمفهوم التسامح يقضي على هذه الوحدة الثنائيّة، ويُدخل المجتمع في شرعنة امتيازات الأغلبيّة، وتبعيّة الأقليّة (بالسماح لها/كأنّ اختلافها جناية)، عدا عن ارتباطه بمفهوم تاريخيّ، وآخر جنائيّ لا يتّفقان مع هذا المقام، ونحن نتعجّب من أولئك الذي يستخدمونه في الحديث عن الحقوق والتعدّدية والمساواة.

***

الآخرُ: (الآنَ/وهنا) على مذبح الأندية الأدبيّة ومُخلّفات انتخاباتها، ترانيم الخاسرين، طقوس الرابحين؛ المُخْتَلفُ، الغريبُ، غير المؤهّل، (الإسلام الثقافي)، الأكاديميُّ، الدَّخيلُ... مُسمّياتٌ عديدةٌ أُنزلتْ من طرفٍ ينتمي لحقبة (ما قبل) ملهاة الانتخابات، على شخوصٍ ينتمون إلى إلى طور (ما بعد) الذي لم تتضّح صورته ومتانة استحقاقه.

مُسمّياتٌ عديدةٌ تُصَبُّ فوق رأس الآخر المختلف، هكذا يُنبذُ الداخل الجديد المجهول (المطعون في سلامة دخوله)، فما من رصيدٍ يشفعُ له، وليس من برامج ثقافيّة تعريفيّة، والاحتكام إلى معيار التجربة يتعذّرُ أن يكون من نصيبهِ قبل تَنْصِيْبِهِ.

***

لعلّ من مزايا الديمقراطيّة على مثالبها، أنّها تُصحّح أخطاءها بنفسها، فبينما هي لا تُسيطر –بالمطلق- على كيفيّة المدخلات (تحت الطاولة)، فإنّها تُشَرْعِنُ حقّ الاعتراض على المخرجات (فوق الطاولة)، وفق رقابيّة إشرافيّة يُشترطُ أن تكون طرفاً مغايراً (غير نفعيّ).

فالمراقبةُ والطعنُ هما الأدتان الضامنتان سعياً لسدّ ثغرات (الحبكة) الانتخابيّة، التي يستغلُّها المالُ النفوذيُّ، والجهلُ المعلوماتيّ المعرفيّ، إذّاك ينجلي معنى (قبول الرأي الآخر) أنّه مُعاكسٌ لمكوّنات الديمقراطيّة، بل لاغيٌ لحقّ الطعن المُتمّم لحقوق الإدلاء بالصوت، الترشّح، والمراقبة والإشراف. فلا شرعيّة لانتخابات لا تُشَرْعِنُ حقّ الطعن وجدوى التفاعل معه.

هكذا يتّضحُ أنّ إلزاميّة (قبول الرأي الآخر) يُناقض حقّ الطعن، وينزع عن المراقبة والإشراف قيمتهما.

***

لا تخلو آليّة الانتخاب من إيجابيّاتٍ وسلبياتٍ: (من شراء أصوات بالمال أو بالوعود الكاذبة، بالتضليل الإعلامي، الإتجار بالأوهام، أو التزوير الصريح في الأصوات) بَيْدَ أنّ (الغربَ) -الذي عمَّدَ هذه الآليّة كإجراء تنفيذيّ ديمقراطيّ للمشاركة والتمثيل الشعبيّ- مُدْرِكٌ لما فيها من مآخذ وسلبيّاتٍ، لذا تَحوّطَ منها بمحاصرة مخاطرها عبر قيمتي المراقبة والطعون، ممّا أجاز العمل بآليّةٍ تعجزُ -بالمطلق- عن السيطرة على عيوبها.

لذا فإنّ المراقبة والطعن بمخرجات الانتخابات تكون وفق لوائح وتنظيمات (تَشَرْعَنَتْ وتَسَنَّنَتْ) قبل خوض التجربة على مبدأ (ما هو كائن)، كما أنّ صوابيّة الطعون تأتي بطغيان السلبيّات/العيوب، أو أنّها الحاسمة والموثّرة في النتائج النهائيّة. إذّاك فإنّ القول: بإنّ (قبولَ الرأي الآخر) جُزءٌ من العمليّة الديمقراطيّة، هو اجتثاثٌ لحقّ الطعن الذي يحدّ من تأثير السلبيّات على المخرجات، وسلبٌ لشرعيّته، حينذاك تبدو الانتخابات كلّها ملهاةً، وأداةً للإملاء، تبدو اشتباهاً بالتعيّنات إلاّ أنّها بحلّة ديمقراطيّة، إنْ لم تكن مُزيّفة، فهي -إنْ نحسن الظنّ بها- تعمل وفق الديمقراطيّات بالنيّات، وعلى البركات.

هكذا يتّضح وهميّة (قبول الرأي الآخر) كقيمة ديمقراطيّة، وإدراجها تحت مكوّناتها يجعلها ديمقراطيّة مزيّفة أو شموليّة مُخفّفة، حيث لا حريّة لكَ إلاّ التسليم بالنتائج كيفما كانت المدخلات، وتحت باب (الحرج المُضلّل): ألست تقبل بنتائج الديمقراطيّة!!

أليس قبول الرأي الآخر يعني الانتقال من خصوصيّة (الأنا) إلى خصوصيّة (الآخر)؟ فيكون المحو والذوبان، ويتلاشى الاختلاف. ألا يلزمكَ القبول بآراء فكرٍ يخالفكَ أن تنتمي إليه وتزيح ما يقف عارضاً أمامه في الذهن!.

***

ليست الديمقراطيّاتُ بالنيَّاتِ حتّى ترى الفسادَ ثمّ تغُضّ الطرفَ دون شرعنةٍ لمراقبةٍ ورَدْعٍ، وإِن عجزت عن ضبطه، فإنّ شرعنةَ الحقّ لمن يضبطه أن يتقدّم بطعونه بُرهاناً لا ظنّاً هي المبرّر والمقياس على مدى قوّة فاعليّتها، إذّاك فإنّ: قبولَ الآخر (وهو الموجود بين الطرفين)، واحترامَ آرائه بشرعنة حقّ تداول جميع الآراء، والتفاعل مع طعوناته المبرهنة، هي حمايةٌ للأفرقاء جميعاً.

***

ختاماً، أزعم أنّه كلّما اقترب وتوحّد مفهوم الآخر بمفهوم الأنا، بحيث يكون الآخر (أنا والآخر)، وتكون الأنا أيضا (أنا والآخر) في وحدة ثنائيّة تحمي الاختلاف بالائتلاف، إذّاك فنحن أمام تعدّديّة أصيلة تبلغ فيها النفس الإنسانيّة أسمى درجات التحرّر من الطبقات والفروق، وتكون في حِلٍّ ممّا يكبّل أعمالها في سبيل العمارة والصلاح والسعادة، إذ كُلّما ازدادت الفجوة بين المفهومين وانفصلا كلّما غاصت الإنسانيّة وارتدّت إلى ظلماتٍ من صراعٍ يعطّل غاياتها وعلّة وجودها. هكذا يتّضح أكثر: أنّ حقَّ تداول الرأي الآخر (أقليّة مثلاً) هو قيمةٌ تعدّديّةٌ، بينما إلزاميّة (قبول الرأي الآخر) وهميّةٌ إقصائيّة، تعني بصيغة أو بأخرى محواً لاختلاف الآراء وتعدّدها، والعودة مرّة أخرى إلى أُحَاديّة: (أُرِيْكُم مَا أَرَى).

جدة Yaser.hejazi@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة