الاقتصادية عالم الرقمي مجلة الجزيرة نادي السيارات الرياضية الجزيرة
Monday 20th November,2006 العدد : 177

الأثنين 29 ,شوال 1427

إعادة تعريف رجل التنوير
إبراهيم العريس

كم من الوقت تحتاج أي مؤسسة عربية وحكومية أو غير حكومية قبل أن تتخذ قراراً، أي قرار، يتعلق بمبدع ما.. بأي مبدع؟ سنة، أشهر، أسابيع. ربما أكثر. ولكن حين يكون على رأس هذه المؤسسة مفكر مثل جابر عصفور قد لا يحتاج صدور القرار الصائب إلى أكثر من دقائق. يكفي أن تعرض عليه المسألة حتى يأتي الجواب فوراً, وفي معظم الحالات يكون الجواب موافقة. ليس هذا لأن الرجل متساهل يحب الإبداع ويعتبر نفسه جزءاً أساسياً من المعنيين به فقط، بل لأن جابر عصفور يكون في معظم الحالات على علم بالموضوع الذي يُطرح عليه. ونعرف أن الجزء الأكبر من المشروعات والأفكار التي تعرض عادة على جابر عصفور، تتعلق بكتب مؤلفة أو مترجمة، مطلوب نشرها، أو ندوات بطلب عقدها، أو مفكرين ومبدعين عرب يتم الاتصال معهم أو دعوتهم، أو إصدارات في العديد من اللغات الأجنبية من الضروري الحصول عليها، وبالتالي إيصالها مترجمة أو مفسرة، أو مبررة إلى القارئ العربي، وفي مثل هذه الحالات لا يحتاج الأمر مع جابر عصفور إلى شرح وإقناع، فهو - غالباً - يعرف مسبقاً عن هذه الأمور بقدر أو أكثر مما يعرف أصحاب الفكرة.
ذلك أن جابر عصفور يعيش ثقافة الداخل وثقافة الخارج بكل كيانه، وبقدر ما يعيش أيضاً ثقافة الأمس وثقافة اليوم، وله رأي واضح وجدلي في كل هذا. فهل نقول إن هذا من يكون فرادته ويجعله نسيجاً وحده في الثقافة العربية المعاصرة؟ وهل نحن في حاجة إلى أن نقول إن المرء إزاء عمل جابر عصفور وحضوره، لا يجد نفسه في حاجة إلى (إعادة تعريف) رجل التنوير؟
كثر يشبِّهون جابر عصفور ب بطل كتابه النقدي الكبير الأول، طه حسين. هذا صحيح. ولكن جزئياً وذلك ببساطة لأن جابر عصفور ابن زمن أكثر تركيباً وتعقيداً بكثير من زمن عميد الأدب العربي. وقد أقول أيضاً: ابن زمن أكثر جحوداً. ومن هنا إذا كان صاحب الأيام خاض معركته الرئيسية ضد مأساته الخاصة وحواجز اندفاعاته الداخلية، مستنداً إلى هذه المعركة يسهل عليه خوض معركته الخارجية - معاركه الخارجية بالأحرى - في زمن كانت الليبرالية تشكل علاقة فيه، فإن جابر عصفور وجد نفسه في المعارك التي يخوضها أكثر انكشافاً وعزلة وأقل تحضراً لخوض المعارك. ولأوضح حين صنع طه حسين بمعاركه، كان الزمن زمن صمود فكري وإنساني، ما جعل هذا المفكر الكبير يبدو ابناً لزمنه يصعد معه، بمعنى أنه إن انهزم شخصياً، فإن ما يدعو إليه سائر في طريقه إلى التحقق. أما جابر عصفور فابن زمن هابط يبدو معه دون كيشوت محاصراً يخوض المعركة ضد طواحين الهواء وهو واثق من أنه بات كالدراجة إن توقف سوف يقع وتقع الدراجة معه، ويقع معهما زمن بأكمله. في هذا التوصيف، لا أتحدث هنا عن جابر عصفور الناقد أو مؤرخ في الأدب - مع أنه كناقد ومؤرخ للأدب أثبت قراءة مدهشة في قدرته على قراءة النصوص والتواريخ وجوانيه الأفكار والأشخاص الذين يكتب عنهم، بعداً إحياء بعضهم، معيداً تفسير بعضهم الآخر، على ضوء فهم واع لأحدث وأشمل النظريات النقدية، وهذا أمر لم يعد - فيما رأيت يحتاج إثباتاً أو حتى نقاشاً. ما أتحدث عنه هنا هو جابر عصفور الآخر، الفاعل النشط في الحياة الثقافية العربية - وهنا، حين أقول العربية، لا ألجأ إلى أية مبالغة عاطفية، أو ألعاب كلام أيدلوجية، بل تحديداً إلى التوصيف الواقعي لاهتمامات وعلاقات وممارسات هذا المفكر و إذا كان صحيحاً وصفه ب آخر التنويريين العرب فإن الأصح منه وصفه أيضاً ب آخر العرب التنويريين بل حتى ب (العربي الأخير) في الحياة الثقافية. إذ ليس لنا أن ننسى هنا أن جابر عصفور تحديداً من خلال موقعه في المجلس الأعلى للثقافة تمكن من أن يفتح أبواب مصر - العصية غالباً وأكثر وأكثر على ما قد يأتي من المحيط العربي - أمام كبار مبدعي هذا المحيط. هنا، في هذا المجال، نراه نسج لمصر علاقات ثقافية أعادت للقاهرة، رونقها كعاصمة حقيقية للثقافة العربية،ومن دون أن يكلف حكومته في ذلك إلا ما قد تنفقه أية عاصمة أخرى على استضافة أديب واحد. وهو من خلال هذا جعل الكل أديب ومبدع ربي بيتاً معنوياً يعرف أنه قادر على أن يلجأ إليه كلما نسى أنه في المدن الأخرى أنه مبدع وأديب.
وهذا لم يأت من خارج شخصية جابر عصفور وتكوينه الفكري كضرورة سياسية تسعى إليها مصر، بل إن من داخل تلك الشخصية وحسب المرء أن يراجع كتب جابر عصفور النقدية ودراساته ودروسه الجامعية وحواراته الخاصة مع أصدقائه وزملائه، بل حتى نمط عيشه العائلي، ليدرك أن هذا الرجل في زمن تختفي فيه كل آثار أيديولوجيات - الستينيات الوحدوية و(القومية) أمام وحدة جمعها من حوله آخر البررة في العالم العربي حرصاً حقيقاً لوحدة ثقافية عربية لا تفرض على أهلها أية شروط أيدلوجية، بل شروط الإبداع الحقيقي فقط - وحدة هي في اعتقادنا أشرف الوحدات وأجملها.
ويقيناً أنه إذا احتاج الأمر إلى إعادة تعريف مصطلحات كالوحدة والإبداع والتنوير ولا سيما في ترابط فيما بينها، سيكون لدى جابر عصفور وفي سيرته حتى اليومية منها الخبر اليقين.
...............................................لبنان
الصفحة الرئيسة
فضاءات
نصوص
حوار
تشكيل
الملف
الثالثة
ابحث في هذا العدد

ارشيف الاعداد
للاشتراك في القائمة البريدية

للمراسلة


توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت

Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved