Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
الفرد في تألقه الحضاري
إبراهيم نصر الله

 

عدتُ خلالَ الأيامِ الماضيةِ لقراءةِ بعضِ ما كتبتُه عن الدكتور سلمى الخضراء الجيوسي في السنوات الماضية، وقلتُ علّي أستطيع الاستعانة ببعضه للحديث عنها بمناسبة هذا العدد التكريمي، ولكني اكتشفتُ ببساطة أن الدكتورة سلمى قد سبقتْ كثيراً كلَّ ما كتبتُه، تجاوزتْهُ، محقِّقةً ما هو أكبرُ من الكلماتِ التي قيلتْ في إنجازِها، ولذا رحتُ أنظرُ لكلماتي القديمةِ بعين الشَّفقةِ لأنني أدركتُ أن ما حقَّقته الدكتورة سلمى الجيوسي اليوم وما تحقِّقهُ غداً سيجعل هذه الكلماتِ التي أقولها الآنَ شاحبةً أيضاً.

نحن في سباقٍ معها إذن، ولكننا سنظلُّ فخورينَ دائما أنها القادرةُ على أن تسبقَ تقديرَنَا لها ومدائِحَنا فيها بمراحلَ كثيرة.

ولعلَّ مأزِقَ كلماتِنا اليوم أنها تذهبُ بكلِّ ما لديها من حبٍّ لكي تصِفَ هذه المرأةَ الطليعيَّةَ العظيمةَ، غير مدرِكَة، وأعني كلماتنا، أن مأزِقَ الوصفِ قائمٌ دائماً في هشاشتهِ أمامَ هذه المبدعةِ الكبيرةِ التي استطاعتْ أن توسِّعَ سماءنا وتمنحَها آفاقاً جديدةً وأحلاماً جديدة وشموساً دائمةَ التَّوهج. إنها الفرد في تألُّقهِ الحضاري الذي استشرفَ وعمِلَ وأنجزَ وقطعَ هذا الطريقَ الطويلَ ولما يزلْ سائراً فيه دون أن يتساءل عن عددِ أولئك الذين يسيرون معه أو عن عددِ أولئك الذين يقفونَ ضده.

لقد حملتْ الدكتورة سلمى قلبَها ومضتْ نحو الشمس، وحلمها ومضت لتبديدِ كلِّ ذلك الليلِ الملتفِّ على أوجاعنا كاتماً صراخَنا وحنينَنا وأشواقَنا وجمالَنا الذي يستحقُّ أن يكون جزءاً من جمال العالم.

عمِلتْ الدكتورة سلمى الجيوسي حين لم يكنْ هناك أحدٌ على استعدادٍ لأن يُفكِّر في مشروع كبيرٍ كمشروع (بروتا) لترجمةِ الأدب العربيِّ وتقديمِ أنصعِ مساهماتِنا كأمةٍ للعالم، وسارتْ حين كانت دولٌ ومؤسساتٌ ووزاراتٌ تكتفي بالقُعودِ والقبولِ بكلِّ تلك الأفكار التي يحملها غربٌ عن شرقٍ ليس في صورتِهِ ما يشير إلى جوهر، وليس في حضارتهِ ما يدل على وجودٍ في الإبداع والقدرةِ على إغناءِ المشهدِ البشريِّ بكلِّ ما هو عميقٌ وحرٌ، وعن فردٍ ليسَ هنالك من دوْرٍ يمكن أن يلعبَهُ أمامَ حروبِ الإبادة أفضلَ من أن يكون الضَّحيَّة!!

من هنا انطلق مشروع الدكتورة سلمى، وهكذا، أصبح الشيءُ الوحيدُ الذي لا يمكن أن ينتهي بالنسبة لها هو العمل.. والشيءُ الوحيدُ الذي لا يمكن أن تقبلَ بأن يكون أقل من حجمِهِ هو الأمل.. والمستوى الوحيدُ الذي لا يمكن أن تتنازلَ عنه هو الأفضل.

لقد كان عليها أن تتخفّف، في سبيلِ رسالةٍ كبيرةٍ كهذه، من كلِّ ما يُعيقُ مسيرتها، كان عليها أن تتخفَّف من فرديتِها وطموحاتِها الخاصةِ كلِّها، ومن مشروعها الكبيرِ: الشعر، كي تحققَ حضورَنا كأمَّة في زمن غدونا فيه الأقلَ وزناً والأقلَ جدارةً بالحياة.

بخطوتها الأولى فتحتْ درباً واسعاً، لكن العالم العربي كان بحاجةٍ إلى ثلاثين عاما لكي ينتبه إلى أن هنالكَ درباً لا بدَّ لنا من أن نسيرَ فيه كأمة، لكن فورةَ الاهتمامِ العربيةَ، حتى الآن، لا تستطيعُ أن تردِمَ هوَّة التقصير التي مارسها العالمُ العربيُّ ضدَّ نفسِهِ وضدَّ إنسانهِ وضدَّ ثقافته.

من المؤسف أنه لا يوجد لدينا ما يكفي من الحجارة لرجمِ حالاتِ التقصير تلك، فعلى الرُّغم من إدراكِ الجميع أن الثقافةَ هي قلعتُنا الأخيرةُ وخندقُنا الأخير وملامحُنا الأخيرةُ أيضاً، إلا أنَّ ثقافتَنا العربيةَ لم تزل تعاني من حالةٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ لا تريدُ معها رؤيةَ إيَّ قلاعٍ أو خنادقَ لنا على هذه الأرض.

من هنا نُدرك أيَّ مشروعٍ ذاك الذي أنجزتْهُ الدكتورة سلمى الخضراء الجيوسي وهي تنهضُ ذات يومٍ وحيدةً، تتلَّفتُ حولها، ثم تقفُ متأمِّلةً حالنا، ثم ترفعُ رايتَها وحيدةً وتتقدَّمُ بكلِّ هذه الجرأةِ وحيدةً لطرْقِ بواباتِ العالمِ بجمالِنا وفتْحِ بواباتِ العالمِ بهذا الجمال.

في هذا اليوم أحيِّيها، هي التي تُحْيْيْنا وتحملُنا من هوامشِنا لتضعَنا كأمَّة في مركز الثقافة العالمية.. في المكان الذي نستحقُّهُ وكانت ثقافتُنا العربيةُ جديرةً به في مختلف عصورِها.

***

في ظني أن كلَّ تكريمٍ لها كفردٍ سيظلُّ متواضعاً دائماً أمامَ ذلك التكريمِ الذي غمرتْنا به الدكتورة سلمى حين كرَّمتنا كأمَّة.


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة