Culture Magazine Thursday  02/02/2012 G Issue 361
عدد خاص
الخميس 10 ,ربيع الاول 1433   العدد  361
 
الرحيل عكس الوطن من أجل تصويب أدق
راشد عيسى

 

قلّما يعثر المرء في لغة سلمى الخضراء الجيوسي على فلسطين كلها، ربما كما لدى كثيرين ممن ولدوا في مخيمات اللجوء فكان أن استفاقوا على وجع غيابها، وناموا يحلمون بسفّة من ترابها، هم الذين لم يلمسوا حجراً ولم يروا شجراً فيها. ليس من الصعب فهم ذلك، فسلمى، مطمئنة تجاه هويتها، مشبعة بها، هي التي قضت سنوات طفولتها وشبابها بين مدينتيْ عكا والقدس، ولا يبدو أنها احتاجت أن تصرخ في وجه أحد بأنها ولدت هناك.

لا نجد لدى هذه السيدة الفلسطينية مشاغل سياسية مباشرة على سبيل المثال، فلا هي انخرطت في حزب أو جبهة، ولم نر صورة لها في المجلس الوطني، ولا هي كتبت وثيقة استقلال، كسائر الفلسطينيين الكبار. مشاغلها كانت محض أدبية وثقافية؛ كتاب عن «الأدب الفلسطيني الحديث»، وترجمات لكتب وأعمال فلسطينية، لفدوى طوقان، وسحر خليفة، وليانة بدر، ويحيى يخلف، وسواهم. بالإضافة إلى ما كتبته شعراً، خصوصاً عن أحوال اللجوء. وبالطبع كان لهذا الابتعاد أثره، فلقد حظي شعراء الأحزاب والمنظمات الفلسطينية بما لم يحظ به عمالقة في الثقافة والأدب، من ترويج ومطبوعات لا تكف عن ذكرهم، والاحتفال بصورهم، بينما قد تجد أجيالاً من الفلسطينيين لم تسمع باسم سلمى. لكن ماذا سيجد الفلسطينيون حين يتلفتون حولهم اليوم، هذا إذا فرغوا من تنظيف قصائدهم من الحجارة والرصاص الطائش، ماذا سيجدون سوى بضعة أسماء كانت في معظمها خارج السياسة، بمعناها الحزبي، أو أسماء لم تلاق هوى لدى الجمهور، لأن كلامها في السياسة لم يرق لهم..

وبالطبع فإن السيدة الخضراء واحدة من الأسماء الفلسطينية الكبيرة التي مكثت في الذاكرة لا بسبب لجان التخليد الحزبية، بل بفعل مسيرة، لا يختلف حتى خصومها على أنها، وحدها، أقرب ما تكون إلى مؤسسة أو وزارة ثقافة. لندع الشعر جانباً، فإن مشروع الترجمة إلى اللغات الأجنبية وحده كفيل بوصف كهذا، وحتى هذا الأمر لم يأت بحثاً عن موقع أو نجاح شخصي، بقدر ما كان رداً، كأنما بالنيابة عن الأمة، في إثبات حضورها وقوتها وعمق أثرها في الحضارة الإنسانية. هذا إلى جانب كتاباتها وأبحاثها التي أخذت على عاتقها التعريف بالأدب والثقافة العربيين.

لكن لنترك أيضاً الكتابة والثقافة جانباً؛ كفلسطيني ولد في مخيمات اللجوء، ولم يعرف بلده إلا في خرائط وصور على الحائط، ولم يمارس الحنين ربما إلا كحالة ذهنية، إذ لا حجر ولا شجرة خروب اطمأن إليها رأسه هناك ذات يوم، أجد نفسي مأخوذاً بهذه السيدة الفلسطينية، بعلاقتها مع هويتها بالذات، يعجبني أنها تحمل كل هذه المدن والأسفار في خطواتها، من عكا إلى شرقي الأردن، وبيروت، وأوروبا والولايات المتحدة، وهي بإمكانها أن تعلن انتماءها إلى كل هذي البلاد، من دون أن يسهو أحد عن جذورها الضاربة في عكا، ومن دون أن تصرخ أو تذكّر بهذا الانتماء.

شجرة البرتقال التي طلعت يوماً على شواطئ عكا، راحت تكبر وتثمر وتشرّش بعيداً في بلاد الله الواسعة. ولطالما ذكّرتني مسيرتها بما قاله محمود درويش ذات مرة في نثريته المعروفة «في وصف حالتنا»، حين وصف رحلة العذاب الفلسطينية بالقول إنه «الرحيل عكس الوطن من أجل تصويب أدق».

* دمشق

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة