Culture Magazine Thursday  04/10/2012 G Issue 382
فضاءات
الخميس 18 ,ذو القعدة 1433   العدد  382
 
رؤية
أنثروبولوجية الأنساب والمشاعر والدين
فالح العجمي

 

يروي الأصمعي بعد أن قضى في البوادي أكثر من عام قضاها في جمع غريب الكلام والشعر وفنون الفصاحة والحكمة والعادات والطرائف، أن من عادات البدو، إذا ما افتقروا، الامتناع عن ذكر أنسابهم لئلا يلحق العار بقبائلهم. وهذا برأيه كرم أخلاق ما بعده كرم؛ إذ إن بنى القرابات في المجتمع البدوي، الأسرية والقبلية، تصبح مقدسة يحرم العدوان عليها بأي وسيلة، وأن تدهور الظروف الحياتية وضعف القدرة على تدبير الأحوال المعيشية، ليست مبرراً كافياً لخرق هذا المقدس. قال: “وقف علينا أعرابي ونحن في رملة اللوى، فقال: رحم الله امرءاً لم تمجج أذناه كلامي، واعتبر من سوء مقامي، إن البلاد مجدبة، والحال مسغبة، والحياء زاجر من كلامكم، والفقر عاذر يدعو إلى إعلامكم. فرحم الله امرءاً أمر بمير، أو دعا بخير. فقلت: ممن أنت يرحمك الله؟ فقال: إن سوء الاكتساب يمنعني من الانتساب”.

ويفهم من مرويات أخرى مشابهة أن الأفراد في مجتمع القبيلة يمتنعون تلقائياً عن الانتساب إلى قبائلهم أمام الغرباء في حالة الفقر المدقع، وأن هذا الامتناع مقبول لدى الآخرين، بما في ذلك الذين يجوبون البوادي طلباً للثأر، وهؤلاء غالباً ما يستوقفون المرتحلين، ويسألونهم مباشرة أو بالتورية عن أنسابهم.

أما ما يتعلق بالمشاعر، فقد ذكر أن رجلاً دعا المبرد بالبصرة مع جماعة، فغنت جارية من وراء ستار، وأنشأت تقول:

وقالوا لها هذا حبيبك معرضاً فقالت

ألا إعراضه أيسر الخطب

فما هي إلا نظرة بتبسّم

فتصطك رجلاه ويسقط للجنب

فطرب كل من حضر إلا المبرد، فقال له صاحب المجلس: كنت أحق الناس بالطرب. فقالت الجارية: دعه يا مولاي، فإنه سمعني أقول: هذا حبيبك معرضاً، فظنني لحنت. ولم يعلم أن ابن مسعود قرأ: وهذا بعلي شيخاً، قال: فطرب المبرد إلى أن شق ثوبه.

تلك الروايات التراثية توحي بتوخي السلوك المناسب عند الانتساب، أو عند الإفصاح عن المشاعر. أفلا يجدر بالمسلمين (والعرب منهم على وجه الخصوص) توخي الحذر عندما يلعبون باسم الدين؛ فيحرقون ويشتمون، ويسرقون الممتلكات بداعي الثأر لرموز الإسلام؟ أفلا يتبعون من يدافعون عنه في اختياره الرحمة حتى مع من يظلمه ويشتد معه في الخصومة؟

الثابت الآن أن كثيراً من جماهير ردة الفعل على فيلم “براءة المسلمين” قد صنعوا صورة سيئة عن الإسلام، مثلما أراد صانعو الفيلم أن يحدث منهم، أو أنهم قد توقعوا هذا السيناريو، وخططوا له بعناية، ثم نفذه أولئك الجهلة، والمدفوعون من الجماعات الإسلامية المتطرفة.

وفي سياق مماثل رأيت شيخاً منهم في برنامج حواري على قناة العربية؛ يحاوره المذيع عن الحدود المقبولة لجماعته التي يمثلها من أجل وقف العنف، والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني، والشيخ يردد: عندما أرى شرع الله يُطبق، وما لا يتعارض مع شرع الله أقبله، وأتفاوض بشأنه. وعندما حاول المذيع أن يتبين منه فهمه لشرع الله، لأن كلاً يفهم ذلك المصطلح على هواه. فما أفهمه أنا (والكلام للمذيع) من شرع الله مختلف عما تفهمه أنت، وما تضعه كل طائفة للشرع يختلف عما تضعه الطائفة الأخرى. والنصوص – كما يقال – حمالة أوجه. فهلا وضحت لي مبادئه الرئيسة بالضبط! قال: شرع الله واضح من النصوص والتطبيقات، ودخل في دائرة المنطق الشيطاني، الذي لا يخرج المرء منه بشيء، إلا أنه يفهم شرع الله، وشرع الله هو ما يفهمه. أين شرعه هو ومنهاجه؟ هو ذاك، لكنه أضاف اسم الله بدلاً من الضمير.. اللهم لا تجعل ضمائرنا مضطربة بهذه الصورة، ولا منطقنا مقلوباً إلى هذا الحد!

- الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة