Culture Magazine Thursday  05/01/2012 G Issue 359
فضاءات
الخميس 11 ,صفر 1433   العدد  359
 
خصوصية الخطاب الأدبي.. وجماليات الانزياح (1)
عمر بن عبد العزيز المحمود

 

يمتاز الخطاب الأدبي عن غيره من الخطابات بكثيرٍ من المميزات التي تكفل له ماهيَّةً خاصَّة، وتَمنحه نوعاً من الاستقلالية التي تَجعل من تَحديده وتَمييزه عمليةً سهلةً لا تعقيد فيها، بوصفه خطاباً إبداعياً يتخذ من طريقة التعبير وجَمالية الأسلوب ركناً لا يُمكن أن يتنازل عنه، كما يعتمد على أدبية اللغة التي تكون لَها الكلمة الفصل في تَمييز هذا النوع من الخطاب عن غيره من الخطابات الإنسانية.

وقد فرَّق بعض النقاد الغربيين بين الخطاب الإبلاغي والخطاب الأدبي، فالناقد الفرنسي جان ريكاردو (Ricardo)، يُفرِّق بين هذين النوعين من الخطاب، ويوضِّح أنَّ الخطاب الإبلاغي يتعامل مع اللغة باعتبارها وسيلة، ومهمته تتركَّز في الإخبار عن العالم، وينظر إلى خارج اللغة بوصفه أساس العملية الإبلاغية، ووظيفته الرئيسة هي تبليغ موضوعٍ مُحددٍ مسبقا، أما الخطاب الأدبي فهو يتعامل مع اللغة باعتبارها مادَّة، ومهمته تتجاوز الإخبار عن العالم إلى إعادة تشكيله أو التساؤل حوله، كما أنه ينظر إلى اللغة نفسها بوصفها الأساس في العملية الإبداعية، أما الموضوع الأساس الذي يؤدِّيه فهو الناشئ مع الخطاب.

والحقُّ أنه لا ينبغي التسليم بِهذا التفريق بين الخطابين على إطلاقه، إذ إنه لا ينطبق على مطلق الخطاب الأدبي، أو على أصنافه جميعا؛ لأنَّ المرجع والوظيفة الإبلاغية يُمكن أن يكونا حاضرين بوضوحٍ في نصوصٍ أدبيةٍ كثيرة، ورغم ذلك فإنَّ هذه المعالَجة وأمثالَها تكشف عن شيءٍ من خصوصية الخطاب الأدبي، وتُميزه عن غيره من الخطابات.

ويُعدُّ (الانزياح) من أبرز خصائص الخطاب الأدبي، وسِمةً من أهمِّ سِماته التي يَجب على المبدع التنبُّه إليه، بوصفه تقنيةً من التقنيات التي تَمنح العمل الإبداعي هويته المتميزة.

ومصطلح (الانزياح) من المصطلحات الحديثة التي لَم ترد في كتب قدمائنا العرب، بيد أنَّ هذا لا يعني أنَّهم لَم يعوا مفهومه، أو يدركوا أهَميته في خصوصية الخطاب الأدبي، ولِهذا فهم يذكرون أنَّ: (الشاهد على أنَّ اختلاف الأسماء يوجب اختلاف المعاني أنَّ الاسم يدلُّ كالإشارة، فإذا أُشير إلى الشيء مرَّةً واحدة فعُرف، فالإشارة إليه ثانيةً وثالثةً غير مفيدة، وواضع اللغة حكيمٌ لا يأتي فيها بِما لا يفيد)، وواضحٌ هنا أنَّ العلاقة التي ينظرون إليها بين ألفاظ اللغة هي علاقة إشارة، ويؤكِّدون على أنَّ الاستعمال السياقي هو الذي يتحكَّم في إشارة اللفظة الواحدة، ومن ثَمَّ فإنَّ السياق سيكون غير مفيد إذا دلَّت هذه اللفظة على معنى واحد في أكثر من استعمالٍ لَها، غير أنَّ هذا النصَّ التراثي لَم يفصح عن وجود الخطأ في الاستعمال اللغوي، مِمَّا يدلُّ على أنه يفترض بالمبدع أن ينزاح بلغته إلى معانٍ أخرى، ويستعملها بأشكالٍ متعددة، ليكون النصُّ مفيداً حسب التعبير المقصود.

وإذا كانت هذه الإشارة التراثية للانزياح متقدمة زمنيا، فإنَّ إشارةً أخرى أكثر تأخراً سنراها تقترب أكثر من هذا المفهوم، وذلك حين يعقد بعض المتأخرين باباً خاصاً في مؤلفاتهم باسم: (في تَحويل الأَلفاظ واختلافها، بالإضافة إلى كيفيَّة استعمالِها)، ويُقسِّمون اللفظ قسمين: قسمٌ تكون الأَلفاظ فصيحة فيه مستعملة في كلِّ أَحوالِها، وقسمٌ آخر: تكون الألفاظ مُختلفةً فيه بالإضافة إلى استعمالاتِها، فقد تكون هذه السياقات قبيحة، وقد تكون غير قبيحة، وهي إشاراتٌ تكشف عن مدى إدراك علمائنا الأقدمين للانزياح؛ وحجم اهتمامهم بوضع تنظيراتٍ له، لا تبتعد كثيراً عن تنظيرات الغربيين لِهذا المُصطلح.

وقد واجه مصطلح (الانزياح) كثيراً من الإشكالات على مستوى الترجَمة والتعريب، فحين تَمَّت ترجَمته من الإنجليزية والفرنسية إلى النقد العربي بلغ عدد مرادفاته أكثر من أربعين مصطلحا! تصبُّ جَميعها في مفهوم الانزياح على المستوى اللغوي والدلالي، فمن ذلك: التجاوز، الانحراف، الاختلال، الإطاحة، المُخالفة، الشَّناعة، الانتهاك، خَرْق السُّنن، اللَّحن، العِصيان، الكسر، الجسارة اللغويَّة، الغرابة، الابتكار، الخَلْق، وغيرها، وواضحٌ أن هذه المصطلحات جَميعاً تنتهي إلى مفهوم واحد، وهو اقتحام الشاعر للغة، والتعامل معها بطريقةٍ خارجةٍ عن المألوف.

ومهما يكن من أمرٍ فإنَّ (الانزياح) يؤدِّي في لغة النصِّ كثيراً من المستويات الدلالية والجمالية التي من شأنها أن تؤثِّر في الخطاب الأدبي، وتُميِّز كلَّ مبدعٍ عن آخر، فمن ذلك تَحريك اللغة، بواسطة الابتعاد عن قواعد اللغة المألوفة للنحو والصرف، مِمَّا يدعو كلاً من المبدع والمتلقي إلى النظر إلى تلك القواعد من زوايا عديدة، وليس من زاويةٍ واحدة، ربَّما تبلغ حدَّ الرتابة والإِملال، فالمبدع بذلك يصنع سياقات نَحوية وصرفية جديدة، دون أن يتجاوز الخطوط الح مراء لَها، تلك الخطوط التي تفصل بين الصواب والخطأ، كما يهدف (الانزياح) في بعض السياقات إلى إعادة الحياة إلى عددٍ من المُتحجِّرات اللغوية، فهناك مبدعون يستخدمون سياقات نَحوية أمست متحجِّرةً في عصرنا الحديث، وربما تُنُوسيتْ من اللغويين أنفسهم، فيأتي (الانزياح) لإحيائها، حيث يرى المبدع أنَّ هذا السياق ينسجم مع أحد مواضع خطابه الأدبي.

ولا شكَّ أنَّ المتلقي ومراعاة الخطاب معه -بوصفه ركناً أساساً من أركان العملية الإبداعية- لم يغب عن نظر هذا الأسلوب، ولذا فإنَّ مُحاولة إيصال الرسالة-الخطاب الأدبي إلى المُخاطَب-المتلقي بالصورة التي يرتضيها الشاعر، دون فرض القواعد عليه، ثُمَّ القارئ على حدٍّ سواء، من الأهداف المهمة التي يسعى (الانزياح) إلى تَحقيقها، وبدهيٌّ أن يُقال بعد هذا إنَّ الانزياح بِهذه الصورة سيؤدِّي حتماً إلى الاتساع في اللغة، حيث إنَّ الخروج من الدوائر العامَّة للقواعد النحوية والصرفية إلى دوائر خاصَّةٍ بِهذا المبدع أو ذاك سيقود حتماً إلى اتساعها وتواصلها.

الرياض

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة