Culture Magazine Thursday  06/12/2012 G Issue 388
قضايا
الخميس 22 ,محرم 1434   العدد  388
 
حال اللغة العربية
(كيف تعمل اللغة/سؤال في ثقافة اللغة)
أ. د. عبد الله محمد الغذامي

 

سيظل الطباق الثقافي هذا قائما وبصورتيه المحددتين، ولا مخرج لحل مشكلة النحو عند جمهرة العرب المعاصرين ما لم نتمكن من إقناعهم أولا بأن النحو ضرورة لغوية لهم، وأولها أن نثبت لهم أن الناس لن يفهموا منهم قولهم إلا بالشرط النحوي، وأن النحو هو العقد الدلالي بين المرسل والمرسل إليه، فإن غاب غاب معه فهم الرسالة، وهذا مطلب يبدو أنه غير واقعي لأن الناس ظلت تنتج اللغة العربية الفصحى العصرية إرسالا واستقبالا، وإفهاما وفهما، دون وسيط نحوي، وبالتالي عم الشعور (غير المصرح به) بأن النحو ليس شرطا للفهم والإفهام. مما يفقده وظيفته في الشعور العام، وهذا ما يجعلنا في حال مستمرة من الطباق الثقافي.

****

1ـ الحالة الثقافية (الطباق الثقافي)

تساءل ريتشارد رورتي مرة: ما الغرض الذي يدفعنا للتساؤل كيف تعمل اللغة، وهو سؤال شغل إمبرتو إيكو (1)، ودفعه لتصور إجابة كان الجرجاني قد وصل إليها من قبل، وهي إجابة يقوم عليها علم العلامات (السيميولوجيا) من حيث إن اللغة نظام من العلامات، والعلامة لا تكون علامة ما لم تعن الشيء ونقيضه، حسب كلمة الجرجاني التي مر عليها قرون ليقول إيكو بها دون أن يعلم عن سلفه العربي، وليجعلها سببا للتعامل مع سؤال رورتي، ونحن هنا مع الطباق الثقافي حيث تأتي العلامة الثقافية (أيضا) حاملة الشيء ونقيضه، كما سنرى في حالنا الثقافية مع لغتنا الفصحى (2). على أن الطباق الثقافي يصدر عن سؤال: كيف تعمل اللغة، وهو ليس سؤالا في علم اللغة، لكنه سؤال في ثقافة النسق السلوكي للأفراد مع حال لغتهم في شرطهم التواصلي حسب الثنائية الجوهرية والعملية: (الإفهام والفهم) وهي ثنائية تتحكم بقناعاتهم حول وظيفة اللغة عندهم، مما يجعل السؤال إشكالا ثقافيا وليس لغويا تخصصيا. وهو ليس سؤالا في (النحو) ولكن في تصور الجمهور العام لمقام النحو في شرطهم اللغوي.

من هنا نطرح السؤال: هل صرنا أمام حال من الطباق الثقافي في وضعنا مع اللغة الفصحى المعاصرة...؟!!

علامة هذا الطباق الثقافي هي فيما نشهده من حالة ازدهار للغة العربية، وسنقف على معالم هذا الازدهار، ويقابل هذا ما نعرفه من شكوى عامة ومن النحويين خاصة وهي شكوى تقول بانحدار اللغة وضياعها بين أهلها.

أي أننا أمام ازدهار وانحدار في مشهد واحد، أحدهما مشهد واقعي والآخر معرفي، وهذا هو الطباق الثقافي كما سنحاول تتبعه فيما يلي من قول.

وما زلنا نشهد هذه الحالة على مدى عصرنا الحديث كله، من تشكي ذوي الاختصاص من أهل النحو واللغة ومن أهل الثقافة والكتابة حول ضعف حالة اللغة العربية وتفريط الناس بها ونقص اهتمامهم بها، مع التخويف المستمر من خطورة العاميات واستشرائها بين الناس، في لغتهم بعامة وفي ذائقتهم الشعرية والثقافية واللغوية.

هي حالة ظلت تتكرر على مدى قرن كامل أو يزيد، وكلما توسعت دوائر التواصل الثقافي تكثف معها القول بالخطر الداهم على اللغة العربية، وأصبح هذا علامة ثقافية في كل محفل أو مؤتمر أو لقاء إعلامي.

والطريف أن هذا القول ظل يعاود الترداد بصيغه إياها وبعباراته التقنيطية إياها، وبمفرداته التضخيمية والرثائية.

قرن أو يزيد يكتظ بالتخويف على مآل العربية، وفي المقابل فإننا نشهد أمراً نقيضا لذلك النذير ويخالف كل مؤشراته، والذي يحدث عملياً أن قرناً كاملا أو يزيد كذلك مر في عصرنا الحالي ولم نشهد فيه أية علامة على اهتزاز موقع لغتنا ولا على قيمتها بين الناس. بل هي في حال من الازدهار المتصل -كما تؤكده الوقائع-.

ويكفي أن نسأل أنفسنا عن حال اللغة العربية مع مطلع القرن الحادي والعشرين وحالها التي كانت عليها في القرن التاسع عشر، وحينها سنرى أن الفاصل بين القرنين يشهد أن حال اللغة قد تحسنت بأفضل مما كانت الحال عليه في أي زمن مضى، ويكفي أن يقارن المرء منا حالة لسانه الخاص به مع ألسنة أجداده القريبين لكي يرى بأم عينه كيف أن اللغة صارت على لسانه وعلى مسامعه وفي بيئته الثقافية المحيطة به بحال لا مقارنة فيها مع كل ما سبق.

إذن... هل النذير نذير حق وحقيقة وهل هو كاشف عن خطر داهم مهدد أم أنها حالة حنين شعري وتخييلي...!!

الحق أن اللغة العربية تأخذ مسارات جديدة لها وتتفتح في آفاق التعبير حتى لتتسع بأكبر مما كانت عليه في أي زمن مضى، وإن كنا نتذكر العصر العباسي وخطابه الثقافي ونقول إنه عصر شهد الميلاد الثاني للغة العربية من بعد ميلادها الأول الذي تمثل بنزول القرآن بها حتى صارت به لغة عالمية مع عالمية القرآن، وهو المعنى الذي تمتعت به اللغة العربية وصار قيمة لها وخاصية مترسخة.

كان الميلاد الثاني في العصر العباسي ناتجا وامتداداً لتحولها العالمي في ميلادها الأول (القرآني) حيث تمخض الحدث عن حال تفتحت بها للغة مجالات حضارية وبشرية ومكانية، وهي عوامل ثلاثة وسعت من محيط اللغة ألفاظا وصيغا ومصطلحات ومجالات قولية مستحدثة تضاف إلى مجالي الشعر والخطابة بتاريخهما العريق، حيث جاء الترسل الإنشائي وخطاب المؤلفات وخطابات السرد المتنوع بالحكايات والقص وأنواع التدوين لأخبار الماضي وقصصه، حتى صار مصطلح الرواية بمعناها العباسي وهي أن تسرد حدثا بأسانيده ومقتضيات صحته وتوثيقه ومن ثم تدوينه مخطوطا كتحويل للخطاب من المشافهة إلى التدوين، أي كتابة ما هو شفاهي مع الاحتفاظ بخصائص الشفاهي.

ثم جاءت الكتابة التأليفية لتصنع مدونة واسعة التنوع والمجال والتعدد، وذاك كان هو الميلاد الثاني وفيه ما فيه من ثراء عظيم وسجل عريض صنع ذاكرتنا الثقافية، إضافة للذاكرة الشعرية، وفوق هذا كانت روحانية اللغة لكونها حاملة لكتاب الله ورسالته للعالمين.

هناك تشكلت الذواكر الثلاث: الإيمانية من القرآن والوجدانية من المدونة الشعرية، والثقافية من صناعة التأليف ونظريات القول فيه وفي أنواعه.

ونأتي لنهايات القرن التاسع عشر الميلادي حيث بدأت اللغة تتحرك مثل حركة النسغ في عروق الشجر، من بعد بيات خريفي وشتوي، وقد طال بياتنا لقرون، ولكنه أخذ بالتحرك حتى إذا ما جاء القرن العشرون صار هذا التحرك قويا وفعالا ويسير صعوداً ولم يتوقف صعوده أبداً، وكل جيل يكون أشد ثراء في لغته من سابقه وأكثر تنوعاً وأوسع ثقافة حتى صار الميلاد اللغوي يتجدد ويتناسل لدرجة أنه صار موالد لها مواليد لا تقف عند حد، بل يخرج علينا كل يوم شيء لم يكن في الحسبان الثقافي قط.

نعطي مثالا واحدا على آخرها هو موقع (تويتر) وفيها - وأنا أؤنثها لما تحمله من دلالات العطاء والتوالد بما إنها رحم ولود ومعطاء-، وفي تويتر سوف ترى كتائب من الكتبة فتيات وفتيانا، وكلهم يدخلون في لعبة صناعة الإنشاء بجهد منهم وبأستاذية ذاتية، حيث ترى المغرد والمغردة يكتبان بقلم حر وبفكر مفتوح وبصيغ فردية وبكفاءة ذاتية، وكل هذا هو صناعة حديثة في الإنشاء وفي التفاعل اللغوي الحي والمباشر والسريع، ولقد راقبت مسارات اللغة العربية بأصابع جيل تويتر على مدى عام كامل (منذ 25 - 9 - 211 - وهو تاريخ دخولي لتويتر) ورأيت فيها حدثا يعيد حادثة العصر العباسي، من حيث توسع مجالات إنتاج الخطاب وتفعيل إمكانات القول وتنويعها حتى لا تقف عند عقبة، ويتصاحب هذا مع سيولة في اللغة، في نجاح مذهل في صناعة ما نسميه مصطلحيا بالاقتصاد اللغوي من حيث الاختصار والتركيز وتوصيل الفكرة بما لا يزيد عن مائة وأربعين حرفا. وهنا ينشأ نوع من الخطاب يبدع في إيجازه ويصل للكل في لغته التواصلية والتفاعلية الحية والمباشرة والواضحة. وهذا تطور نوعي في الخطاب يأتي من النص القصير المركز والمؤدي لأغراض تواصلية لا تحصر في تنوعها وتجريب المهارات الفردية فيها.

نحن إذن أمام نوع من الحكاية الثقافية تتراكب حبكتها بطريقة (المفارقة) البلاغية بين حدث وحدث معاكس، وسأحاول رسم هذه المفارقة فيما يلي.

2 ـ بكلام ليس من كلامنا

ينقل أبو حيان التوحيدي حكاية وقعت في مجلس الأخفش عن أعرابي حضر درسا في المسجد (فسمع كلام أهله في النحو وما يدخل فيه، فحار وعجب وأطرق ووسوس، فقال له الأخفش: ما تسمع يا أخا العرب...؟ فقال: أراكم تتكلمون بكلامنا في كلامنا بما ليس من كلامنا)(3).

هذه حكاية تحمل مفارقتها الثقافية التي لما تزل حية وتنتج مفعوليتها الدلالية وهي هذه الهوة العميقة ما بين اللغة والنحو، وإن كانت حدثت لأعرابي في مجلس الأخفش، زمن صناعة النحو والتأسيس له فإنها ظلت تصاحب سيرة النحو في المتصور الثقافي كله، بل لقد زادت اتساعا مع ازدياد الشرائح المثقفة جماهيريا، ولعل الدراما المصرية قد ورثت ظرف الأعرابي نفسه حينما قدمت صورة معلم النحو بصورة الكائن الغرائبي شكلا ولسانا وهيئة درامية، حتى صارت عبارة (يحكي نحوي) بمثابة التمثيل التعجيبي.

تولدت حالة من الوحشة الثقافية مع كل ما هو نحوي وتعززت الصورة مع مضي الوقت، وفي مقابلها تعزز مقام اللغة العربية بثراء عريض وعميق، وتنوعت أساليب القول وفنونه، خاصة مع انتشار فن السرد بكل صيغه وأهمها فن الرواية ومعه انتشرت المقالة الصحفية، وتعاضد معهما انفتاح المجال التعبيري مع الفضائيات ووسائل التواصل الحديثة عبر سبل الإعلام الرسمية وكذا الإعلام البديل، وهو إعلام حر وذاتي ينافس الرسمي ويبزه في كثير من الأحيان، وفي هذه كلها تزدهر اللغة العربية وتنمو وتتسع مع اتساع الكتابة بها والتفاعل بواسطتها في عالم مفتوح ومطلق.

تتسع اللغة أسلوبا وصيغا ولكن النحو يظل في نموذجه كما رسمه الأعرابي (ليس من كلامنا)، في حين تبقى صيغة الكلام عربية، والكلام به وفيه عربيان، ولكن صيغة ثالثة تظل ليست من الكلام، وهي صيغة النحوي والنحوية، وهنا يأتي المأزق الذي ظل متجمدا على مدى قرن من ثقافة الشكوى وثقافة البحث في حلول تحاول معالجة سؤال النحو في الثقافة العربية.

هنا سنقول إن اللغة بخير ولكن النحويين ليسوا بخير، وأنت عادة إذا رأيت الشعب بخير ولكن ساسته ليسوا بخير فاعلم أن العلة في الساسة، وكذا سنقول إن العلة في النحويين، ومنذ أن سن المرحوم مصطفى جواد بدعة (قل ولا تقل) وجعلها برنامجا إذاعيا يضع شروطا على اللسان اللغوي ونحن في لعبة القط والفأر مع أهل التخصص الذين يريدون الحجر اللغوي ويقصرون الناس على صيغ سماعية أو قياسية عامة ويمنعون اللغة من أن تصنع صيغها وتجدد نفسها بتعابير مبتكرة تجاري شرطها العصري، وهذه علة اصطنعها أهل التخصص لكي يقيموا شرطهم الثقافي ويتخذوا له عللا مصطنعة منهم ومن عندهم.

لقد بلغ الأمر إلى حد لو أن فتى أو فتاة كتبت مفردة لغوية حسب الإملاء العثماني في كتابة المصحف فإن التبجيل اللغوي سيقول لها إنها أخطأت وسيبكي على حال اللغة وحال الأمة، وسنسمع منه تخريجات تحايلية ليميز بين إملاء المصحف وإملاء اصطنعته كتب الإملاء المدرسية، وكل ذلك لكي يضيق واسعا ولكي يبرر اشتراطاته الثقافية، مما يعزز سلطة التخصص وتسلطه على ذهن صاحبه أولا، ثم على جمهرة الناس.

هذا مثال واحد سنرى مماثلاته الكثر تحت عنوان: قل ولا تقل، وهي المقولة التي شاعت وتشيع في الإذاعات والصحف وفي غيرها. وليست سوى مشروع في السلطوية الثقافية والنخبوية التخصصية، ولكن اللغة تمضي وتنتج صيغها دون توقف.

كان أحمد شوقي قد انبهر حينما ظهرت الصحف في الأفق الثقافي وقال بيته:

لكل زمان مضى آية

وآية هذا الزمان الصحف

ولو أنه رأى التلفاز أولا ثم الشاشات الثلاث من بعد (الفضائيات والجوال والحاسوب) لكان اكتشف اندثار آية الصحافة لتحل بديلا لها آيات أخر وعلامات ثقافية لا تحصى ولا تتوقف، وستأتي علامات أخر، ولن يتوقف إنتاج العلامات، وكذا لن يتوقف إنتاج اللغة وتفعيلها حسب حركة الزمن ومستجداته.

اللغة العربية معنى حيوي وثقافي وتفاعلي لا ينتظر النحاة كي يديروا حركة سيره ولا ينتظر الإشارات الحمراء لجملة (قل ولا تقل)، بل سيظل الناس يقولون ويقولون وينتجون اللغة، ومثال تويتر مثال حي وفعال حين صار الفرد المفرد مؤلفا وناشرا وكاتبا ومفكرا وصاحب رأي وصانع إنشاء.

نحن على مشهد مستمر ودائمي على ميلاد لغوي تصنعه أجيال متعاقبة متوالدة، وهذا الشاهد يأتي بخلاصات القرن العشرين قرن الصحافة والرواية والدراما، ثم القرن الحادي والعشرين وعلى مشارفه جاءت الشاشات الثلاث، وسيأتي غيرها، وكلها تحديات حيوية تباشر اللغة وتباشرها اللغة، والملحوظ أن اللغة العربية ظلت تنجح في عصرنا كما نجحت في الامتحان الحضاري في العصر العباسي وأثبتت قدرتها على النجاح، ويكفي أن نتذكر أن مقولة (قل ولا تقل) لم تظهر في العصر العباسي، ولو كانت ظهرت وطبقت لضاع علينا ثلاثة أرباع لغة الحضارة في ذلك الزمن المنتج والمثمر، ولذا فظهور هذه المقولة اليوم مع عدم اكتراث الناس بها سيجعلها مجرد نكتة ثقافية، لأن اللغة تنظر للنجاح وللإنتاج، ولذا تظل حية.

طبعا لسنا في موضع خيار ولن نكون، والتجارب تثبت ذلك بما إنها أقدر على تجاهل التثبيط، ولكن لو كنا في موضع خيار لأوصيت بمقولة لغوية نظرية هي: قل وقل، ولشطبت مقولة: قل ولا تقل.

حينما أذكر لحظات الميلاد الكبرى للغة العربية فإني أحيل لضمير ثقافي نوعي وكوني، كان نزول القرآن مفرقا مفصليا في لغتنا، وهو الميلاد الأكبر والأخطر لعالمية اللغة وتاريخانيتها، ثم جاء الميلاد الثاني في العصر العباسي حيث صارت اللغة خطابا مجسدا لعصرها وحيوية عصرها مما جعل ابن جني يتحدث عن شجاعة اللغة العربية، ولا شك أن عصرنا التكنولوجي وبثقافة الشاشة الملونة والزرقاء معا تعطي مثالا حيا لميلاد نوعي آخر يضاف للميلادين التاريخيين مثلما هو انبثاق عنهما ونتيجة عميقة لهما، ومن هنا فإن حياة اللغة العربية تتجدد وتفتح لنفسها آفاقا تجعل لغتنا بصفة العجوز الأسطورية التي تزداد فتوة كلما مرت عليها السنون.

هو ميلاد ثقافي يأخذ دوره ولا ينتظر ولا يسوف. ويكفي أن تقرأ الخطابات اللغوية الحية والواقعية لترى أن لسان كل واحد منا يتجدد ويتغير مع مطلع كل يوم ومع تباشير كل مخترع من الوسائل الحديثة المحفزة لفتوحات جديدة في التفكر وفي التعبير.

3 ـ حالة النحو (خارج السياق)

هل أصبح النحو خارج السياق الثقافي...!!!

هل صار النحو ليس رديفا للمعنى، وليس شرطا لصناعة المعنى - إنشاء واستقبالا معا...!!

ما هو مؤكد هو أن النحو صار لغة الأقلية وهي أقلية قليلة جدا، وربما أصبحت بحكم النوادر من القلائل، في حين عم جو عام خارج سياق السؤال النحوي، فهو لا يتمثل النحو في قوله ومسلكه اللغوي، وفي الوقت ذاته فهو لا يسأل عن النحو ولا يشعر بفقده ولا يستنكر غيابه، بل لا يلحظ هذا الغياب.

وهنا نقف على سؤال دقيق وشائك عن حالة النحو في زمننا هذا، ونحن نقول بازدهار اللغة العربية الفصحى المعاصرة، ولكننا سنقول بجانب هذا بتأزم الحالة النحوية، وربما نزيد ونقول بانهيارها، وهي حالة لها وجوه هي:

أولا : هناك شعور عام يرى أن النحو ليس ضروريا لإيصال المعنى، وهذا حس غير معلن صراحة ولكن الشواهد تدل عليه وتكشفه، فالأطباء وأساتذة الجامعات، وكذلك ضيوف برامج الفضائيات ومعهم خطباء المنصات، بمن فيهم الزعماء والبرلمانيون، بل سنجد كتابا مبدعين في الرواية تحديدا ومعهم كتاب المقالات وكثير من الوعاظ وخطباء الجوامع، وسنزيد عليهم عينة نشاهدها في قاعات الدرس الجامعي من أساتذة في تخصصات اللغة العربية ذاتها في مجالات الأدب والنقد والبلاغة ونرى عليهم نقصا بينا في معرفة النحو وتمثله، ولقد سمعت من بعض منهم قوله إن النحو ليس ضمن اهتماماته، ويقاس عليه ما نشهده من تفشي اللحن في نشرات الأخبار المرئية والمسموعة، كما على منصات المؤتمرات حيث صار النحو أمرا خارج سياق هذه المظاهر كلها.

والملحوظ مع كل هؤلاء أنهم عينات واقعية تمارس اللغة العربية الفصحى إنشاء وإلقاء مع مهارة أسلوبية وتعبيرية، ويشعرون أن كلامهم يصل للناس مفهوما ومتماسكا في نصه وفي دلالاته، دون أن يأخذوا بشرط النحو، وتعم الأخطاء النحوية في قولهم كله، ومع هذا تظل لغتهم مفهومة وتبلغ حدها في الإفهام والتوصيل وكذا في مستواها البلاغي وجماليات التعبير. حتى ليمر اللحن دون إحساس به لا من مقترفه ولا من سامعه، وإذا تطوع أحدنا بلفت النظر لشيء من اللحن فإنه سيجد نفسه وكأنما تحول إلى نكتة ثقافية عابرة ولن يكون صوت نذير ولا صوت ضمير ثقافي أو علمي.

هذه حالة واقعية أدت إلى حس عام بأن النحو غير ضروري لتوصيل المعنى.

ولكي نمتحن هذه التجربة لنفترض أن الناس لم تفهم أقوال هذه العينات المذكورة بسبب خللها النحوي، فحينها سيجد القائل منهم نفسه خارج نطاق التواصل اللغوي، وسيضطر معها إلى الاستعانة بالنحو لتوصيل مراده أو لاتباع خيار لغوي آخر، غير أن الافتراض هذا لا يقع ولم يقع، مما يعني أن وظيفة النحو قد تعطلت عمليا -هذا في نظر القائلين والسامعين معا- ولم تعد الحاجة للنحو جوهرية في التوصيل ولا في شرط الإفهام (هذا في حسبانهم وفي ظاهر مسلكهم)، وهو أمر صار ممارسا عند كافة أطراف التعامل اللغوي، في توافق ضمني غير معلن صراحة ولكنه يسير ويصير عمليا وتطبيقا وكأنما هو عرف عام تم التسليم به.

توقفت نظرية العلاقة بين النحو وصناعة المعنى وصارت المعاني تتوالد وتستقبل خارج الشرط النحوي، والمنتوج اللغوي المعاصر والممارس يشهد على هذا ويعزز الموقف مع كل حالة من حالات التعبير اللغوي المباشر والتواصلي، حتى صار النحو محصورا في النصوص المكتوبة والمراجعة لغويا وصار مصححو اللغة هم صناع النحو ومزيني الصفحات به وكأنما هو تطريز تشكيلي يضاف للنصوص، ولم يعد مما يهم الكاتب والقائل مهما كان مقام قوله أو نصه.

ثانيا : قبل إعدادي لهذه الورقة أجريت تجربة دراسية مع عدد مختار من أساتذة الجامعة وبعض الطلبة في تخصصات متعددة وعرضت عليهم الآية الكريمة (إنما يخشى الله من عباده العلماء ـ فاطر 28) وسألت عن حاجتهم للإعراب لإقامة معنى الآية الكريمة، والحاصل أن الكل ما كان يعي شروط حركات الإعراب وفروق الفاعل عن المفعول فيها، وفي الوقت ذاته كان يدرك معنى الآية دون لبس في أن الذي يخشى الله هم العلماء، وأكدوا كلهم عدم حاجتهم للضمة والفتحة ليدركوا المعنى، ثم جربت معهم صيغا لغوية أخرى تلاعبت بحركاتها الإعرابية فلم يجد أحد منهم مشكلة في تفهم المعاني دون استعانة نحوية، وكأن السياق صار بديلا عن النحو حيث يقوم السياق بكافة صوره في توجيه المعاني خارج شرط حركات الإعراب.

لقد خصصت الآية الكريمة تحديدا لأنها هي حجتنا معشر أهل اللغة لنقول عن خطر الغفلة عن النحو وما تؤديه من صرف للمعاني، ولكن الفئة المستهدفة لا تشعر بهذا الخطر، مما يعني صعوبة أو استحالة إقناعهم بحاجتهم للنحو.

ولربما كان أمر هذه الآية أقرب إلى الفهم العام، ولذا جربت مع العينة نفسها في آية أخرى قد تبدو أصعب، وهي قوله تعالى {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} (مريم: 34) وعرضت عليهم حالتي الرفع والنصب لكلمة (قول) وسألتهم عن المعنى الذي يخرجون به في الحالتين، ولقد وجدت منهم إجابات لا تختلف في عمقها عن مقولات المفسرين، دون أن يعوا حقائق الإعراب ودقائق تأويل الجمل الإعرابية، ولم يقل أحد منهم بحاجته للتعرف على خصائص علامات الإعراب، واكتفى بعضهم بأن تمنى أن لو كان على معرفة بالنحو لمعرفة أسرار القول، وهذا تعليق فهمت منه أنه نوع من الأدب مع الثقافة ونوع من الاحترام للتخصصات مع الإحساس أن النحو هو لب العربية، أي أنها مسألة أدب وعرف أخلاقي أكثر منها مسألة حس علمي حقيقي بالحاجة للنحو لفهم القول، وهو فهم وصلت إليه المجموعة دون وسيط نحوي.

وإذا كانت أهم شروط التواصل اللغوي هي في ثنائية الإفهام والفهم، فإن الواقعة تثبت أن صانعي اللغة ومستقبليها لا يشعرون بحاجتهم للنحو لتحقيق هذين الشرطين ويشعرون أن لغتهم تسير تداوليا وإبداعا دون الحاجة لقواعد لم تعد في حسبانهم عند إنتاج اللغة. ولقد رأيت في التجربة أن العينة وصلت لما وصل إليه المفسرون واللغويون في معاني الآيتين دون حاجة للنحو، وهذا طبعا يصعب مهمة أي باحث في إقناع مثل هذه العينة مثلا بحاجتها لتمثل حركات الإعراب لكي تفهم القول، ومن الواضح عندهم أن السياق هو النحو العملي والوظيفي لفهم القول.

هاتان حالتان تكشفان مأزق الحالة النحوية حيث نلحظ مسار الثقافة العربية المعاصرة في ثنائية بينة (الطباق الثقافي)، طرفها الأول ازدهار أساليب اللغة وتوسعها وتمددها، وفي طرفها الثاني مضي المنشئين من رسميين ومن مبدعين مع اللغة بأساليبها المبدعة ولكن مع تجاهل شرط الإعراب، مقابل تقبل الناس وفهمهم للقول، غافلين عن الإعراب وغير آبهين به ولا مشترطين قيامه شرطا لمعرفة اللغة إرسالا واستقبالا.

والنتيجة العميقة لهذا كله أن الشعور الثقافي يترسخ أكثر وأكثر بأن الجهل بالنحو (الإعراب تحديدا) ليس عيبا مخجلا، وبذا يبدو ليس ضروريا لصناعة المعنى، وهذه هي صورة الحال، كما تكشفها الوقائع. وتبعا لهذا يصبح تمثل النحو أمرا ليس في حسبان هذه الفئات التي هي صانعة اللغة ومنتجتها والمبدعة فيها والمؤثرة في تسويقها وتعميمها، ومن ثم تعميم نظريتها في عدم وظيفية النحو وعدم شرطيته لصناعة الأساليب.

إننا في زمن تحقق اللغة مكاسب كبرى إعلاميا وإبداعيا، مع ثراء في الأساليب وطرق الإنشاء، في مقابل انهيار للحالة النحوية، وهذه هي الواقعة الثقافية اللغوية التي نشهدها عبر وسائل التواصل الكونية بسعتها غير المحدودة وبقوتها التفاعلية الشاملة.

ومع أن جهود النحويين ظلت تترى على مدى قرن أو يزيد لصناعة نحو وظيفي يعين الناس ويمدهم بالمعرفة النحوية إلا أن الجهود تظل دوما خارج سياق التوظيف العملي والاستهلاك العام أو حتى التقبل العام لها، ويظل نوع من النحوية هو المسيطر وهي (نحوية السياق) حيث يحل سياق القول محل علامات الإعراب في حسم علاقات الألفاظ بالمعاني، كما شاهدنا مع تجربة قراء الآيتين في مثالنا السابق، حيث صار سياق القول هو ما يحدد المعنى ولم يشعر أي من المجرب عليهم بالحاجة لاستظهار حركات الإعراب.

وأختم بالقول، أن حال العربية في زمننا هذا تشير بوضوح إلى نمو وتقدم مطرد لمقام اللغة بين الناس، وصورة الطباق الثقافي كما وصفناها تشير إلى وجهين بارزين، أحدهما وجه نحوي يقوم في صفه نخب ثقافية تشعر بغيرة عميقة على حالة اللغة من حيث الإعراب، ويحسسها هذا بخطر تقول به وتشعر به بعمق ويعم خطابها العقلي والوجداني معا، ولا شك أني أقف مع هذه الفئة وفي صفها وعندي من الأسباب مثل ما عندهم مما يصنع حالة قلق مشتركة بيننا تبلغ حد الوقوع في حصار نفسي وذوقي حين وقوع اللحن على أسماعنا.

ولكني -مع هذا- أستطيع رؤية الصف الثاني المكمل لصيغة الطباق اللغوي وذلك حينما أتبين ازدهار اللغة العربية وتناميها المطرد والمتصل، والشواهد تؤكد ذلك بالإحصاء والأرقام، وقد أظهرت تقارير علمية عن نسب مذهلة في موقع تويتر مثلا بلغت معه أعداد التغريدات اليومية ما يقارب ستة ملايين تغريدة يوميا، وتحديدا هي: (5،750،386) تغريدة يوميا باللغة العربية (في المنطقة العربية) (4)، وهي ليست رقما كبيرا فحسب، بل هي تكشف أيضا عن تنامي في الأسلوب وفي تحسين مستوى الصياغة بين المستخدمين مع تواصل تفاعلهم اللغوي وممارستهم للكتابة وتثقيف أنفسهم لغويا عبر تجريب قدراتهم واحتكاكهم مع الآخرين مما جعل المهارات تنمو والأداء يتحسن، وهو مشهد حي يكشف عن تطور أساليب القول مع تعلم القول البليغ والموجز والتعبير عن الفكرة باحتراف يتنامى مع كل تغريدة. (ولقد فحصت حسابات المشاهير العرب ممن يمثلون العشرة الأوائل في كل بلد عربي ومتابعوهم بالملايين، وكانت التغريدات في الحسابات تلك باللغة الفصحى بنسبة تفوق التسعين بالمائة من أصحاب الحسابات ومن متابعيهم).

وفن التغريد صار فنا قوليا وإنشائيا وفكريا عصريا يتضافر مع فنين آخرين هما الرواية والمقالة، وفي الفنون الثلاثة نشهد حالات توالد لغوي عصري لها خصائصها الأسلوبية والجمالية وتشكل إضافات نوعية إلى اللغة العربية. ولكننا نظل نقول إن هذا التطور الأسلوبي يصحبه تراجع بارز في النحو، وخاصة ما يمس إعراب الكلمات، أي أنه مرض عضال يصيب أواخر الكلمات، ويجعلها على مفارقة مع سائر عناصر اللغة، إذ تتطور اللغة بكل وجوهها وتزدهر بصيغة سريعة وعميقة ولكن أواخر الكلمات تظل في وضع مختلف.

لا يبدو الحل ممكنا إذا تفكرنا بحال الاجتهادات النحوية وبحال المؤسسات التعليمية التي لم تحقق أي نجاح يذكر على مدى أكثر من قرن في حل معضلة النحو مع جمهرة مستخدمي اللغة، وهذا ما تمخض عنه حس عمومي بأن اللغة تسير دون هذا الشرط، ويتعزز هذا الحس مع نشوء الصيغ التعبيرية العصرية (الرواية والمقالة والتغريدة) وهي صيغ ظل أهلها ينتجون خطابات لغوية متطورة أسلوبيا ولكنها قاصرة نحويا، وتظل الحال على هذا الأمر، ولكن اللغة بعامة تظل في أعياد متصلة، وإن كانت مناحة النحو قائمة في تجاور صنع ويصنع الطباق الثقافي كما شرحناه.

أما بعد...

فسيظل الطباق الثقافي هذا قائما وبصورتيه المحددتين، ولا مخرج لحل مشكلة النحو عند جمهرة العرب المعاصرين ما لم نتمكن من إقناعهم أولا بأن النحو ضرورة لغوية لهم، وأولها أن نثبت لهم أن الناس لن يفهموا منهم قولهم إلا بالشرط النحوي، وأن النحو هو العقد الدلالي بين المرسل والمرسل إليه، فإن غاب غاب معه فهم الرسالة، وهذا مطلب يبدو أنه غير واقعي لأن الناس ظلت تنتج اللغة العربية الفصحى العصرية إرسالا واستقبالا، وإفهاما وفهما، دون وسيط نحوي، وبالتالي عم الشعور (غير المصرح به) بأن النحو ليس شرطا للفهم والإفهام. مما يفقده وظيفيته في الشعور العام، وهذا ما يجعلنا في حال مستمرة من الطباق الثقافي. وهي حال يكشف عنها السؤال الذي استفتحنا به ورقتنا هذه: (كيف تعمل اللغة) بوصفه سؤالا في الثقافة وفي البيئة اللغوية، وهو ما يوضح لنا وجهي الطباق الثقافي بين ازدهار في أساليب اللغة يقابله انصراف عن سؤال النحو.

****

* قدمت الورقة في مؤتمر (اللغة العربية وآدابها) جامعة السلطان قابوس - مسقط 2 ـ 3 - 12 - 2012

1 - Eco ; Interpretation and overinterpretation 147 Cambridge University Press Cambridge 1992

2 - عن الجرجاني ومبحث السيميولوجيا انظر: عبد الله الغذامي: المشاكلة والاختلاف 28 (المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء - بيروت 1994

3 - الإمتاع والمؤانسة 2 - 139، تحقيق أحمد أمين وأحمد الزين، المكتبة العصرية، بيروت 1953

4 - معلومات صدرت في تقرير من إعداد (كلية دبي للإدارة الحكومية) يوليو 2012 ـ Social Media In the Arab World، Dubai School Of Government


 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة