Culture Magazine Thursday  10/05/2012 G Issue 373
فضاءات
الخميس 19 ,جمادى الآخر 1433   العدد  373
 
«إستراتيجية التعوض والتعويض»
الثورة وقوانين الطوارئ الثقافية -5-
سهام القحطاني

 

في زمن الثورات الشعبية «يغيب المثقف» و»يحضر الجمهور» ولي وقفة تحليلية فيما بعد «لثنائية غياب المثقف وحضور الجمهور».

لكن ما يجب أن نعرفه في هذه المسألة، أن غياب المثقف في ظل الثورات الشعبية هو نتيجة إسقاط الشعب «للنظام القمعي» والمثقف والثقافة في ظل هذا النظام القمعي تعتبره الثورة الشعبية جزءاً من النظام القمعي وآلية من آلياته ولذلك تسحب ثقتها من المثقف وتُسقط دوره، وهذا الإسقاط هو ما يُرهص لحضور الجمهور كبديل للقيادة الثقافية بدلا من المثقف، وهو ما سأتوسع فيه في حينه.

وفي ظل غياب المثقف الرسمي للعقيدة الثقافية في زمن الثورات الشعبية، تلجأ تلك العقيدة إلى «القوانين الطارئة للثقافة» التي تحتفظ به أو ما أسميه» إستراتيجية التعوضّ والتعويض».

وأقصد بقوانين الطوارئ الثقافية «سلسلة الإجراءات الظرفية التي تهدف إلى تأمين نموذج أو أكثر لفاعل غائب؛ لاستمرار وظيفة رئيسية وحمايتها».

ونستطيع أن نستنتج من المقصود بقوانين الطوارئ الثقافية السابق خصائص تلك القوانين والتي تُجمل بأنها «فعل إجرائي مُحاط بخصوصية ظرفية وغائية للمحافظة على استمرار تفعيل وظيفة رئيسية عبر نموذج صوري».

و»النمذجة الصورية» التي تفرضها قوانين الطوارئ أو إستراتيجية التعوض والتعويض تتمثل من خلال ثلاثة نماذج» الجمهور والقائد الثقافي وإحياء المدونة التراثية».

وهنا لا بد أن نقف أمام مفاهيم «الجمهور» و»القائد الثقافي» و»إحياء المدونة التراثية».

أما فيما يتعلق بمفهوم «الجمهور» فسوف يتم تأجيل الحديث عنه إلى موضوع «ثنائية الغياب والحضور بين المثقف والجمهور زمن الثورات».

وسأقتصر الحديث هنا عن «القائد الثقافي» و»إحياء المدونة التراثية».

تنتمي القيادة الثقافية إلى «المنظومة الإجرائية» للعقيدة الثقافية، بما يعني أن العقيدة الثقافية هي التي تُنتج إستراتيجية القيادة الثقافية، وتلك الإستراتيجية هي التي تختار قائدها وفق شروط وآلية مخصوصة.

وليس كل مثقف وفق تلك العقيدة هو قائد ثقافي، فالمثقف لا يكون قائدا ثقافيا إلا إذا حقق على مستوى العقيدة ميزة الولاء لأصولها إضافة إلى سجله التاريخي الذي يبرهن على ذلك الولاء بالتجربة، وهو ما يمنح ثقة العقيدة له.

وعلى مستوى الجمهور لا بد أن يحقق ميزتي الشعبية والتأثر والتأثير، وبذلك يتم اختيار القائد وفق انتخاب جمعي متفق عليه بصورة ضمنية.

وتُظهر العقيدة الثقافية «القائد الثقافي» وقت الأزمات والثورات لحماية أصولها من التغييرات الطارئة التي قد تضر بتلك الأصول، كما أنه حزام موازن لسلسلة المتلاحقات التي قد تصطدم بتلك العقيدة.

وكما يظهر القائد الثقافي في وقت الأزمات والثورات، عليه أن يختفي في زمن «السلم الثقافي»، ولذلك فالقائد الثقافي ليس مظهرا من مظاهر النهضة الثقافية، واستمراره في زمن السلم الثقافي سيحوله إلى «دكتاتور ثقافي» وهو ما يدخل فيما بعد العقيدة الثقافية في صراع مع «الحوامل النهضوية».

أما الفرق بين المثقف والقائد الثقافي؟ فهو «تحقق الرضا الاجتماعي» الذي يُنتج التأثر والتأثير والذي يتصف به القائد الثقافي ويفتقده المثقف، والرضا الاجتماعي ليس بمعزل عن هيئة العقيدة الثقافية بل هو حاصل رضاها.

كما أن المثقف يميل إلى استقلال وجهة نظره عن وجهة نظر المدونة الممثلة للعقيدة الثقافية وهو ما يُعتبر تمردا على شرط الولاء للعقيدة الثقافية بموجبه يفقد المثقف «الرضا الاجتماعي» بينما القائد يندمج مع تلك المدونة بل لا يتحرك إلا في ضوئها وذلك الولاء والاندماج والخبرات السابقة له في الدفاع عن أصول العقيدة الثقافية هي التي تحول المثقف إلى قائد ثقافي و»مندوب رسمي» لحمل وتنفيذ «الخطاب الرسمي للعقيدة الثقافية» ويصبح «نبيا ثقافيا» للجماعة، وعليه يصبح «العقل الجمعي» تابعا لذلك «النبي الثقافي» (يمكن مراجعة حلقات ما بين المثقف المتدين والمثقف الليبرالي في هذا المجال).

والتبعية هنا وفق اعتبار الحراسة الذي يمثله ذلك «النبي الثقافي» فهو «حارس للعقيدة الثقافية»، لا وفق اعتبار قدسي للشخصية ذاتها، وأي قدسية هي مستمدة من اعتبار الحراسة صفة امتيازية بموجب أصل المانح.

ومتى ما حاول القائد الثقافي الخروج أو التمرد على ضوابط وظيفته الثقافية سيتعرض لاغتيال ثقافي من قبل الجماعة التي منحته وظيفة» النبي الثقافي».

لكن وجود المثقف الذي يمكن أن تحوّله العقيدة الثقافية إلى «قائد ثقافي» ليس متاحا دائما وخاصة إذا فقدت العقيدة ثقتها بالمثقف الراهن، وهي لا تعيد الثقة المفقودة «للمثقف المتحوّل» فيما بعد، وهنا تبدأ العقيدة الثقافية «بالتعويض الوظيفي» عن طريق «إحياء مدونة التراث».

لا ينطوي تقديم القائد المثقف على إحياء المدونة التراثية وفق إستراتيجية التعّوض والتعويض أي إشارة لقيمة الترتيب بينهما، فأمر التقديم والتأخير يعتمد على سهولة الانتقال من المباشر والمتاح والمعروف والممثل إلى المؤول والمضمر والذهني والقيمة.

تقوم مدونة التراث بدورين في العقيدة الثقافية؛ دور رئيس باعتبارها مرجعا لتلك العقيدة، ودور طارئ من خلال تمثيلها «لنموذج التعويض الوظيفي»، وهذا التمثيل لا يحدث إلا في حالة «الانتفاء الكلي» لنماذج التعويض سواء بالغياب أو عدم الصلاحية أو عدم الكفاية والكفاءة.

وبذلك يحلّ «إحياء المدونة التراثية» محل القائد الثقافي للعقيدة الثقافية في زمن الثورات الشعبية.

أما ماهو المقصود بالمدونة التراثية؟

فالقصد هنا يجمع ما بين المفهوم التنظيري والمفهوم التكوين.

يقصد بالمدونة التراثية للعقيدة الثقافية: «مجموع التجارب والخبرات التاريخية للجماعة» والتي تتكون من خلال «الأحداث التاريخية والشخصيات التاريخية والقيم التاريخية، الشعارات والرموز التاريخية، الأشكال الأدبية التاريخية مثل الشعر والأهازيج والزجل».

ومن أمثلة حضور أثر المدونة التراثية في ثورات الربيع العربي «إحياء قيمة الجمعة» إحياء التجربة التاريخية عبر أسماء الجمع»، «إحياء الشعار التراثي سواء الديني أو الثقافي» «وإحياء الشخصية التاريخية من خلال أسماء مجموعات الثوار».

وتتميز المدونة التراثية على المستوى الإجرائي «بالانتقائية، والقيمة الإيجابية»، إضافة إلى اطمئنان الفاعل الشعبي لسلامة السير الذاتية لعناصر تلك المدونة، ووجوب تلك السلامة بدورها هو تعويض للفاعل الشعبي عما فقده من نزاهة «ممثلي الشاهد الراهن» الذي عاش في ظله. وذلك التعويض مقابل الفقد هو الذي يُمكن من الظهور القوي «للقيمة الإيجابية» لعناصر مدونة التراث، وهذه الهيمنة للقيمة الإيجابية لعناصر المدونة التراثية تفرض على الفاعل الشعبي التسليم لتلك القيمة عبر سلطة الانفعال لا سلطة العقل باعتبارها حاصل «الانتقائية» وهو ما يحصّنها ضد الشك العقلي أو المراجعة الموضوعية.

ولا شك أن تغيب «الشاهد الراهن» لمصلحة ظهور «الشاهد التاريخي» للمدونة التراثية يعود لعدة أسباب منها، احترام التجربة السابقة وناتجها، الثقة باعتبار مضمون تلك المدونة خبرة سابقة ناجحة، عدم الخوف من استغلال مضمون المدونة التراثية المكسب الثوري، و»الاعتقاد للاعتقاد» الاعتقاد بالتشابه بين ظروف الخبرة السابقة وخبرة الجمهور وهذا الاعتقاد ينتج بدوره تلازم الاعتقاد بالتشابه في النتيجة.

والأسباب التي تدفع الثوار لإحياء المدونة التراثية عكسها هي التي تؤدي إلى رفض الاستعانة «بالشاهد الراهن».

فالشاهد الراهن لا يحمل خبرة ناجحة تؤهله لحماية العقيدة الثقافية بجوار المكتسب الثوري، عدم الثقة في الشاهد الراهن كونه ناتج للنظام القمعي الذي أسقطته الثورة الشعبية وبالتالي فقد رسمية تأثيره الشعبي والاستعانة به يعني التأييد للنظام الساقط، الخوف من استغلال الشاهد الراهن المكتسب الشعبي للثورة.

وتلك الأمور هي التي أسهمت في «اضطرار العقيدة الثقافية» إلى فرض «معوِّض للمرفوض» من خلال «حزام ضامن» يثق به الجمهور وهو «ممثلات المدونة التراثية».

وهكذا يتم «التوقيع للمعوِض» باعتبار «معادل الوظيفة» و»إسناد الموازن».

بقي أن أقول في هذه المسألة أن ظهور «المدونة التراثية» كآلية من آليات «قوانين الطوارئ الثقافية» في زمن الثورات، ونموذج من نماذج إستراتيجية التعوض والتعويض للوظيفي الغائب، لها ما لها وعليها ما عليها.

فإحياء المدونة التراثية في شبه الجزيرة العربية أسهم في نشأة الحركة الإصلاحية للشيخ محمد بن عبدالوهاب، كما أسهم إحياء المدونة التراثية في نهاية القرن التاسع عشر في ظهور «النهضة الثقافية العربية» وأسهم إحياء المدونة التراثية في الغرب في ظهور عصر الأنوار.

لكن استمرار هيمنة المدونة التراثية في زمن السلم الثقافي يسهم في ظهور قدسية الثقافة الإحيائية وتطرف الثقافة المحافظة وهما من معوقات النهضة الثقافية.

جدة sehama71@gmail.com

 
 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

البحث

أرشيف الأعداد الأسبوعية

ابحث في هذا العدد

صفحات العدد

خدمات الجزيرة

اصدارات الجزيرة